الفصل الأول
في إحدى ضواحي القاهرة الكُبرى بحي السيدة زينب، وقد تراصت البيوت متجاورة، منهم بيت كله ألفة وطمأنينة، به جيران يقتدون بحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره..."
في الطابق الثالث امرأة وقورة هادئة الطباع ذات بشرة بيضاء وعينين خضراوين، في الخمسين من عمرها على رأسها إيشارب صغير يُظهر بعض خصلات شعرها البيضاء، تبدو على ملامحها الطيبة وترتسم على وجهها بعض التجاعيد، كل من رآها شعر بالبهجة..
إنها زينب أم لثلاثة أبناء: علي وزياد وحسناء..
كانت قلقة جدًا على حسناء التي خرجت إلى الكلية من الثامنة صباحًا ولم تَعُد حتى الخامسة مساءً..!
أمسكت زينب بالهاتف في محاولة للاتصال بها؛ لكن ما زال الرقم مغلقًا!!!
تمتمت بقلق محدثة نفسها: "يا رب أعمل إيه دلوقتي؟! رقمها مقفول واتأخرت، يا رب سلم"..
بعد مرور عدة دقائق وصلت حسناء، نظرت إليها معاتبة واكتفت بالصمت، فنظرت إليها حسناء من وراء الباب بابتسامة قائلة: "إيه بتبصيلي كده ليه؟!! الموبايل فصل شحن والمحاضرات خلصتْ متأخر كنت هعمل إيه يعني؟!!
والدتها بتكشيرة: "كنت اتصلي من تليفون مها صحبتك طمنيني عليك بدل ما أنا قاعدة قلقانة وخايفة عليك!!"
هزت رأسها قائلة: "خايفة من إيه بس يا ماما؛ هتخطف يعني؟! وبعدين أنا مبحبش كده يا ماما لازم تكوني واثقة فيا شوية!!"
والدتها بجدية: "يا حبيبتي؛ إيه جاب الثقة للقلق والخوف عليك؟!! أنتِ ما بتسمعيش يعني عن حالات الخطف؟!!"
ابتسمت ثم قالت بدلال: "أنا مش حلوة أوي كده يا ماما عشان اتخطف!!"
والدتها بابتسامة: "ليه؟! ده أنتِ ست البنات؛ كفاية إنك طالعة شبهي عينك خضرا وزي القمر"..
أغمضت عينيها ثم قالت بدلال: "يشرفني طبعًا إني شَبَهِك يا ماما؛ قوليلي بقا هتأكلينا إيه من إيدك الحلوة دي؟! أحسن أنا هموت من الجوع؟!!"
والدتها بابتسامة: "عاملة رز وفراخ وملوخية تاكلي صوابعك وراهم؛ روحي غيري هدومك ونادي على اخواتك على ما أكون حضرت الأكل"..
اقتربت منها وطبعت قبلة على خدها ثم قالت: "حاضر يا حبيبتي يا أحلى ماما في الدنيا..
والدتها بابتسامة: "ماشي يا بكاشة!!!"
********
أمسكت بمقبض الباب المغلق وأدارته بهدوء؛ ثم أدخلت رأسها من وراءه وقالت بابتسامة: "ممكن أدخل؟!!"
علي بابتسامة: "ما أنتِ دخلتِ خلاص؛ راجعة متأخر ليه يا أستاذة؟!!"
حسناء: "كان عندي محاضرات كتيرة أوي، وأختك بأه لازم تحضرهم كلهم!!"
علي بجدية: "طبعًا عايزك تجيبي امتياز السنة دي؛ مفهوم؟!
حسناء بقلق: "يا رب ادعيلي يا علي يا حبيبي؛ يلا قوم بأه عشان ناكل؛ صحيح فين زياد؟!!"
علي: زياد أكيد فاتح الكمبيوتر بيخلص شغل في أوضة المكتب.
حسناء بسخرية: "طيب تعالى نرخم عليه شوية ونشد الفيشة!!"
علي بابتسامة: "هتفضلي دايمًا كده يا حسناء؛ أنتِ وزياد زي القط والفار ..
قالت بسخرية: "ده زياد ده حبيبي..
دلف زياد من الخارج وهو يقول: "سامع اسمي، جايبين في سيرتي ليه؟!
هز علي رأسه نافيًا: "لاء ولا حاجة؛ دي أختك كانت عايزة بس تشد الفيشة بتاعة الكمبيوتر وترخم عليك!!"
حسناء بدلال: "بأه كده يا علي؟! أنتَ تصدق فيا كده بردو يا زياد؟! ده أنا ملاك!!"
زياد بسخرية: "أنتِ ملاك أنتِ؟!
حسناء بتكشيرة: "آه ملاك؛ ويلا بأه ناكل هموت من الجوع, يلا يا ماما تعالي بأه"..
والدتها باستعجال: "حاضر بجيب العيش بس؛ يلا يا ولاد سموا الله وادعوا ربنا يديمها علينا نعمة؛ اللهم احفظها من الزوال يارب"..
علي، زياد، وحسناء مرددين في نفس واحد: "آمين يا رب"..
**************
ظلت تنظر للصورة التي في يدها وقد تساقطت منها الدموع دون أن تشعر، لاحظتها حسناء التي دخلت فجأة إلى غرفة والدتها, نظرت بدهشة قائلة: "ماما مالك يا حبيبتي؟!"
جففت دموعها في سرعة ثم قالت: "مفيش حاجة يا بنتي..
تنهدت بحنق: "أنتِ لسة محتفظة بالصورة دي ليه؟! أنا بكرهه يا ماما مش بحبه، اوعي تبكي عشانه، مفيش راجل يستاهل تبكي عشانه، هو اختار حياته وسابنا ومسألش علينا لحد دلوقتي، بتبكي عليه ليه يا ماما؟!!"
ردت بحزن: "بس يا حبيبتي متقوليش كده، ده مهما كان أبوكِ!!
نظرت وقالت بألم: "هو بس اسمه في البطاقة ورا اسمي، لكن مش أبويا، أنا أبويا مات من وقت ما الرحمة ماتت في قلبه وسابنا، فاهمة يا ماما؟! وأرجوكِ كفاية بأه!!
تنهدت بأسى ثم قالت: "ممكن أطلب منك طلب يا حسناء؟!!
هزت رأسها إيجاباً ثم قالت: "اتفضلي طبعًا يا ماما!!
والدتها: عايزاكي تقرأي سورة الإسراء،ممكن؟
حسناء بدهشة: "حاضر؛ بس ليه السورة دي بالذات؟!"
والدتها بحماس: "لما تقرأيها هتعرفي"..
رفعت حاجبها ثم قالت باستغراب: "حاضر يا ماما, هستأذنك بأه عشان أنام, تصبحي على خير.."
والدتها بابتسامة: "وأنتِ من أهل الجنة يا بنتي"..
**************
(والد حسناء) عبد الرحمن المنياوي معلم لغة عربية.. تركهم بعد أن أحب صديقة زينب، تزوجها وترك البلدة، وترك علي وزياد وحسناء بعد أن اكتشفت زينب خيانته لها هو وصديقتها، ومن حينها لم يعرفوا عنه شيئًا!!!
ما زالتْ تبكي كلما تذكرت زوجها الذي تركها ورحل!!
أما علي كان وقتئذٍ في نهاية المرحلة الثانوية العامة، وفضّلَ أن يترك حلمه، فبعد انتهاء امتحانات الثانوية؛ قرر أن يساعد والدته وإخوته وكافح واجتهد وهو الآن يعمل في شركة كبيرة مُشرف عُمال بفضل مجهوده..
أما زياد فقد كان في عامه الأول من الثانوية العامة، وبفضل الله ثم أخيه علي هو الآن مهندس وحقق حلم علي..
أما حسناء فهي الآن في الفرقة الثالثة في كلية التربية، واستمرتْ الحياة بعد فقدان الأب وحرمانهم من عطفه وحنانه؛ ولكن ولّدت بعض الكراهية في قلب علي وزياد وبـالأخص حسناء تجاه والدهم..
أما زينب فقد كانت الأم والأب بالنسبة لهم، ويبدو أنها لم تكره زوجها الذي خانها وتركها تتحمل مسؤولية أبنائها الثلاثة!!
**************
في صبيحةِ اليوم التالي؛ فتحت باب الغرفة بهدوء، ثم اتجهت ناحية شباكها المغلق، فتحته، فتسللت أشعة الشمس وأضاءت أرجاء الغرفة، مداعبة وغامزة عين تلك النائمة.
خبأت بيدها عينيها ثم قالت بغيظ وهي تفرك فيهما: "يووه يا ماما بأه!! سيبيني أنام شوية!!!"
والدتها بجدية: "قومي يلا يا حبيبتي؛ هتتأخري عن المحاضرة؛ الساعة بقت تمنية!!"
هضت مسرعة: "ياه؛ أنا اتأخرت أوي يا ماما؛ عندي محاضرة حالاً؛ ليه ماصحتنيش بدري بس؟!"
والدتها بهدوء: "متقلقيش يا حبيبتي؛ يلا بس بسرعة اتوضي والبسي وصلِّي ركعتين ورُوحي على كليتك؛ وقبل ما تدخلي المحاضرة قولي الدعاء ده: "اللهم اكفينهم بما شئت وكيفما شئت."..
هزت رأسها بقلق: "حاضر يا ماما؛ بس يا رب افتكر الدعاء"..
والدتها بابتسامة: "هتفتكريه بإذن الله"..