1- السحر المميت

1K 23 0
                                    

ستريمز محطة صغيرة للسكك الحديدية , يتوقف القطار فيها فترة وجيزة جدا لا تكفي لنزول مسافر أو صعود آخر , جمعت سالي أوبريان أمتعتها بسرعة وهرعت نحو المخرج.
لم تلاحظ الرجل الذي كان يتوجه ألى المكان ذاته , وكأنه على غير عجلة من أمره , حملت حقيبتها الكبيرة ووضعتها قرب الباب , ثم عادت لتحضر الكيس المنتفخ الذي تضع فيه الأشياء الضرورية , رفعته , وأستدارت للتوجه ثانية نحو باب المحطة , فأصطدمت بالرجل الذي تحرك من مكانه في اللحظة ذاتها , وقع الكيس الثمين من يدها , وتدحرج بضعة أمتار بعيدا عنها , شهقت بأنفعال شديد وأسرعت لألتقاطه , فيما كان القطار يبدأ أنطلاقه بسرعة نحو وجهته التالية .
حضنت الكيس بين ذراعيها , ونظرت ألى الرجل الصامت بعينين زرقاوين تنفثان لهبا حارقا , وقفت أمام ذلك الأنسان الطويل القامة , وقالت له بلهجة حادة :
" أعتقد أن من واجبك تقديم الأعتذار عما حدث !".
منتدى ليلاس
وجّه الرجل نظرات ساخرة ألى وجهها المتعب الذي لفحته الشمس , وقال لها ببرودة :
" أنوثة غاضبة في قلب منطقة وعرة ؟ الغريب في الأمر أنني أنتظرت منك تقديم الأعتذار".
زادت حدة غضبها بسبب تصرفه المزعج وقالت له بعصبية :
" مني أنا ؟ كدت أفقد بعض أمتعتي الثمينة , وأنت تتوقع مني الأعتذار ".
" تسرعك وحده هو السبب".
تأمل وجهها الذي زاده الحنق أحمرارا , ثم حول نظراته الساخرة ببطء شديد نحو بقية جسمها النحيل الجذاب , وعندما نظر ثانية ألى عينيها الجميلتين , أبتسم وقال بلهجة قريبة من التهكم :
" يبدو لي أن الصبر ليس أحدى فضائلك المتعددة , وعليه فلن أذكرك بأنك أنت التي دفعتني ومسؤولة بالتالي عن تقديم الأعتذار ".
حاولت الرد عليه , ولكنه سبقها ألى الكلام قائلا بهدوء :
" هل تحتاجين ألى أية مساعدة ؟".
لو كانت الظروف طبيعية وعادية مع هذا الرجل , لكانت رحبت من صميم قلبها بسؤاله غير المتوقع , لكن لهجته المتغطرسة جعلت أحتمال قبول المساعدة أمرا مستحيلا , رفعت رأسها بشموخ وقالت له بنبرة جافة :
"لا , شكرا ".
لم يقل لها شيئا , بل حمل حقيبتيه الثقيلتين وأبتعد عنها بخطى ثابتة وقوية , رفعت نظرها عنه بصعوبة , فيما كانت تفكر بخطواتها المقبلة , هل كانت غبية عندما رفضت عرض المساعدة الذي قدمه ذلك الرجل ؟ لا..... طبعا لا , فقد كانت تعلم قبل توجهها ألى ستريمز أن عليها أيجاد طريقها بنفسها وبدون مساعدة أحد....... وخاصة من الرجال الأقوياء المتعجرفين.
سألها والدها بقلق قبل مغادرتها المدينة عما ستفعل لدى وصولها , وقالت لها أمها بحزن أنها خائفة من المضاعفات التي ستنجم عن قرارها الأنفعالي المفاجىء , أكدت لهما بلهجة هادئة وحازمة تصميمها على القيام برحلتها , بغض النظر عن المشكلة البسيطة التي ستواجهها في ستريمز عندما ستضطر للأستعانة بقطار أو بسيارة أجرة للوصول ألى المنطقة المسماة حوض التماسيح ..... حيث يعمل جون.
كانت الرحلة من المدينة البعيدة ألى ستريمز عادية جدا , وخلت من أي أحداث مثيرة أو مزعجة , فلماذا ستكون المرحلة المتبقية حتى حوض التماسيح مختلفة ؟ ليس عليها الآن ألا الأستفسار عن الوسيلة الفضلى لمتابعة طريقها.
تطلعت حولها علّها ترى الشخص المسؤول عن هذه المحطة الصغيرة الفقيرة , أو حتى أي أنسان آخر , فلم تشاهد أحدا , سارت أمام المبنى المتواضع , فلم تسمع صوتا أو حركة , أصبحت تلك المنطقة المنعزلة , بعد ذهاب الرجل المتغطرس , مهجورة بصورة تامة , شعرت سالي للمرة الأولى منذ مغادرتها بيتها بشيء من القلق , وتمنت بشكل عابر وسريع لو أنها قبلت مساعدة ذلك الرجل .
أنّبت نفسها لمجرد التفكير بمثل هذه الأمور , وأخذت تتأمل بأعجاب ظاهر السهول الخضراء الشاسعة الممتدة أمامها , سوف تتزوج جون وتعيش معه في هذه المناطق النائية , وستتعلم بالتالي كيف ستواجه المشاكل والصعاب , ستعلمها قساوة الحياة كيفية مجابهة العزلة والوحدة , عندما يمضي زوجها طوال النهار بعيدا عن البيت , ستضطر أحيانا لأتخاذ قرارات هامة بمفردها , لأنها قد لا تتمكن في بعض الأحوال الطارئة من أنتظار الزوج أو الأتصال به .
سمعت صوت الرعد وشاهدت الغيوم السوداء في السماء , فقررت التصرف بصورة عاجلة , وضعت علبة الحلوى تحت أبطها وحملت الحقيبة والكيس في يديها , ثم أجتازت بصعوبة الأمتار القليلة التي تفصلها عن الطريق , ولما تجاوزت الكوخ الصغير , الذي يستخدم على الأرجح كمكتب لمحطة السكك الحديدية , شاهدت بأرتياح بالغ عددا من البيوت القروية المتناثرة هنا وهناك على بعد حوالي خمسمئة متر ....... لم تعد وحدها ...... مع أن حقيبتها الكبيرة سترهقها ألى درجة كبيرة قبل تمكنها من الوصول ألى أقرب تلك البيوت.ربما كانت امها على حق عندما وصفتها بالانفعالية ... وكذلك الرجل المعتد بنفسه الذي اتهمها بانها متسرعه ولا تعرف الصبر والاناة . ألم يكن من الافضل لها الآن مثلا ان تكون جالسة في سيارة جون
تتحدث اليه عن المستقبل السعيد ؟ طبعا .... ولكن جون لا يعلم بوجودها هنا , لأنها تعمدت الوصول الى مكان عمله بصورة مفاجئة .
وهذا ما سيحدث بالضبط ! اين هي اذن المغامرة المثيرة التي تنتظرها منذ فترة طويلة ؟ رفعت راسها بشموخ وشجاعه , وسارت نحو تلك القرية ,
اوه يالسعادتها بماسيحدث لاحقا ! سيفاجأ جون بوصولها ..... واكثر من ذلك بفستان العرس الذي تحمله في كيسها اوه , الفستان ! قد ينهمر المطر في أي لحظة
ويتعرض الفستان للبلل . منحها خوفها عليه قوة جديدة في رجليها المتعبتين قليلا وذراعيها المنهمكتين , فأسرعت الخطى بعزيمة واصرار .
منتدى ليلاس
وصلت الى القرية خلال دقائق معدودة , وتوجهت فورا الى مبنى بدا وكانه فندق صغير , فتحت الباب , فوجدت البهو الضيق خاليا . دقت جرسا قديما موجودا على طاولة خشبية مستطيلة
فحضر شاب في الـ20 من عمره تبدو على وجهه ملامح البساطه والذهول . هز رأسه بمزيد من الدهشة والاستغراب , عندما سألته عن كيفية الانتقال الى حوض التماسيح .
قال لها انه لاتوجد قطارات من ستريمز الى تلك المنطقة . سيارات اجرة ؟ الجواب السلبي ذاته ....
" الا توجد سيارات ركاب كبيرة ؟"
" واحدة فقط , وتمر من هنا مرتين كل اسبوع .... الثلاثاء والجمعة ".
شعرت بيأس وقنوط وتساءلت بصوت حزين :
" كيف سأذهب اذن ؟ رباه ما هذه المشكلة !".
"عليك الانتظار حتى يوم الجمعة" .
كيف تنتظر يومين كاملين في هذه البقعة النائية , وماذا ستفعل اثناء ذلك , هل تتصل بخطيبها وتخبره عن ورطتها ؟ لن تكون المفاجأة المزدوجة كامله , ولكن الاتصال به الآن هو الحل الوحيد .
"هل يمكنني اجراء مكالمة هاتفيه من المركز الرئيسي لمنطقة حوض التماسيح ؟"
"آسف يا آنسة ".
هزت رأسها وهي لا تصدق ما سمعته اذناها , ثم قالت له بلهفة وتأثر :
" انا متأكده من وجود مركز للهاتف هناك !"
" صحيح يا انسة , ولكن العاصفة الهوجاء التي هبت قبل ايام قليلة قطعت جميع خطوط الاتصال الهاتفية ".
"رباه ! هل .... هل لديكم غرفة شاغرة حتى يوم الجمعة ؟".
لاشك في انها بدت مرهقة وحزينه للغاية , والا فكرت تبرر مسارعة ذلك الشاب الكسول لحمل حقيبتها الى الغرفة الصغيرة المتواضعه التي ستقيم فيها .... يومين كاملين !
استلقت على السرير الخشبي القديم , واخذت تفكر بأفضل طريقة لتمضية هذه الفترة الطويلة .
منتدى ليلاس
تذكرت ان عليها مواجهة الصعاب , وهذه هي تجربتها الاولى . ذهبت الى النافذه لتلقي نظرة الى الخارج , فلاحظت ان السماء سوداء وحزينه والبرق يلمع ويهدد بمطر غزير , والرياح تصفر وتعصف منذره متوعده .
لن تغادر الفندق الصغير هذا اليوم , ولكنها قد تذهب غدا الى احد الجداول التي سميت المنطقة تيمنا بها .... اذا كان الطقس ملائما .
استحمت واستبدلت ثيابها , فشعرت بارتياح نفسي كبير شجعها على استخدام بعض مستحضرات التجميل التي تحملها في حقيبتها .
لن يراها احد على الارجح سوى ذلك الشاب المسكين الذي لا يهمها ابدا كيف تبدو امامه وكيف ينظر اليها . ولكن سالي اوبريان لم تصل الى الـ23 من عمرها قبل اختبار امر بالغ الاهمية
وهو ان المرأة غالبا ما تشعر حسبما تبدو للاخرين .انتهت من التبرج , فأعجبتها النتيجة الى درجة كبيرة واحست بارتفاع محسوس في معنوياتها , ابتسمت للصبية الحلوة التي تراها امامها في المرآة ثم حيتها بمرح وسرور .
وغادرت غرفتها , لم تجد احدا في المطعم الصغير , الذي بدا نظيفا وفقير الاثاث كغرفتها , ولكن قررت البقاء فيه بعض الوقت ... أنه اكبر قليلا من المكان الذي ستنام فيه .
اختارت احدى الطاولات القريبة من النافذة وفتحت احدى المجلات . لاحظت في صفحة المحتويات دراسة عن تربية الحيوانات ومعالجتها امراضها .
فبدأت تقرأها باهتمام بالغ . هذه هي طبيعة عمل خطيبها وسوف تحظى بجانب كبير من وقتها في المستقبل القريب , انه يحب الحيوانات بشكل مذهل
وقد تعمدت منذ صغرها الاطلاع على كل ما يتعلق بهذه المخلوقات كي تتمكن من تمضية اطول وقت ممكن قرب جون والتحدث معه في المواضيع التي يحبها ويفضلها
وفيما كانت غارقة في قراءة تلك الدراسة التحليلية سمعت رجلا يسألها :
" هل تمانعين في انضمامي اليك ؟".
رفعت رأسها نحو الرجل الواقف قربها . فحل الأرتياح محل التوتر وتحول العبوس الى ابتسامة . كان شابا وسيما بهي الطلعة , ذا عينين خضراوين جميلتين , قالت له مرحبة :
" اهلا وسهلا تفضل . كنت على وشك الاقتناع بانني النزيل الوحيد في هذا المكان" .
ابتسم لها بطرقة جذابة ومهذبة , ثم قال :
" لو حدث ذلك فعلا , لكان مؤسفا للغاية ! سيبدأ النزلاء الاخرون بالوصول خلال فترة قصيرة , فهذا المكان مخصص تقريبا للجوالة ".
منتدى ليلاس
لاحظ نظرة الاستغراب في عينيها , فأوضح قائلا:
" اعني الباعة الجوالة , اذ اننا نمضي الليل هنا قبل متابعة سفرنا الى امكنة اخرى , ماذا تشربين ؟"
" عصير ليمون , شكرا ".
" هل انت متأكدة من ذلك . اعني انك فتاة كبيرة و ....." .
قاطعته قائلة بتهذيب حازم :
" عصير ليمون ".
رفع حاجبيه بصورة تدل على الدهشة والحيرة , ولكنه ابتسم وقال :
" انثي قوية الشخصية وعنيده ... ولكنها جميلة , جميلة جدا ! هل من مجال لأقناعك بشيء اخر ؟".
ضايقها سؤاله واصراره , ولكنها اخفت انفعالاتها بأتسامه رقيقه عذبة وقالت :
" الم تقل انني قوية الشخصية وعنيده ؟".
" وانا ايضا !خففي من عنادك قليلا , ايتها الفتاة الجميلة , فلدينا وقت طويل جدا حتى الصباح ويمكننا تمضيته في اللهو والمرح" .
حاولت سالي التصرف بهدوء بعيدا عن الانفعال والغضب , فقالت للشاب الذي يجلس قربها :
" شكرا , لكنني سأكتفي بكوب من عصير الليمون" .
تأفف الشاب بصوت مرتفع نسيبا , وطلب لها كوب العصير ولنفسه شرابا لم تسمع باسمه من قبل . راقبته وهو يفرغ محتويات كوبه جرعة واحده , وسألته بهدوء مميز :
"ماذا تبيع , يا سيد ... اوه , اعتقد انني لا اعرف اسمك ".
" كروجر. مارني كروجر انت سالي اوبريان . قرأت اسمك في سجل النزلاء ".
شعرت انها بدأت تتضايق منه بصورة فعلية . ولكنها قررت عدم التسرع في أعلان الحرب عليه . قررت تحويل أفكارها الى أمور متعلقه به , فسألته مرة اخرى :
- ماذا تبيع , يا سيد كروجر ؟
وضع ذراعه على كتفها وقال :
" ثياب داخلية للنساء . هل تحبين القيام بدور عارضة ازياء امامي , ولو لمرة واحدة ؟".
كيف ستواجه هذا الشاب التافه , الغضب العارم , وطبيعتها الاندفاعيه تطالبها برد سريع يناسب التصرف الرخيص الطائش .
انها انسانة طيبة لا تحب الحاق الاذى بالاخرين , ولكنها تكره الاستفزاز والتحدي . نظرت اليه بعينين قاسيتين , واجابت بصوت منخفض :
" دعني وشأني , يا سيد كروجر ! اتركني من فضلك" .
اختفت الملامح الصبيانية البريئة من ابتسامته ونظراته , وتحولت الى نار ملتهبة . ضغط على كتفها , وقال :
" لا تمانعي كثيرا , يا سالي ! تصورت اننا سنمضي معا فترة لهو رائعة يافتاتي الجميلة !".
حاولت تحرير كتفها من قبضته , ولكن اصابعه غرزت بعنف في مكانها . رفعت رأسها بشموخ وعنفوان قائلة :
" ارفع يدك عني , يا سيد كروجر , والا ....".
أطبقت يده الاخرى على فمها بسرعه هائلة لمنعها من الصراخ , فيما كان ينظر اليها والشرر يتطاير من عينيه . اختلط غضبها بالخوف والذعر ....
فمن سيهب لنجدتها حتى اذا تمكنت من الصراخ طلبا للنجدة ؟ قد يسمى هذا النزل الصغير فندق الباعه الجوالة ولكنه يبدو واضحا ان كروجر هو البائع الوحيد الذي ينزل فيه .
هل يعقل ان يساعدها ذلك الموظف الهادئ , مجازفا بأغضاب نزيل يعرفه منذ فترة طويلة ويستفيد منه بصورة شخصية ؟ لا لن يفعل ذلك ....
وعليها بالتالي الاعتماد على نفسها ومواجهة الصعاب بالوسائل المتاحه لديها .حصرت كل قوتها وحنقها في أسنانها , وعضت تلك اليد القذرة بعنف لم تحلم ابدا انها قادرة عليه , صرخ الرجل من شدة الالم وأبعد يده الجريحة عن فمها .
استغلت تلك اللحظة المناسبة وركضت نحو الباب بأقصى سرعتها , ولكنه كان اسرع منها , فأمسك بها وادارها نحوه بقساوة بالغة . يا لتلك النظرات السامة الحاقدة !
رفع يده لينهال على وجه سالي الشاحب , ولكن ذراعا ضخمة قوية أنقّضت فجأة على وجه المعتدي بلكمة عنيفة طرحته ارضا وفجرت الدماء على شفتيه .
اطلق كروجر الشتائم القبيح' واستعد للوقوف والمواجهة , لكنه تسمر في مكانه عندما شاهد وجها كأنه قد من صخر , ونظرات التهديد والوعيد تنطلق كالسهام القاتلة من عينين باردتين فولاذيتين .
وفيما كان الرجل العملاق يرفع مارتي بيد واحدة , لاحظت سالي بذهول شديد ان منقذها لم يكن الا المتغطرس الذي اصطدمت به في المحطة .
قال كروجر لمهاجمه بلهجة تشتعل غضبا وانفعالا :
" ماذا تفعل يا رجل ؟".
" أمنع وقوع حادثة قبيحة" .
تأمل كروجر يده الدامية وآثار اسنان سالي , التي لا تزال بادية بوضوح , وصرخ بحدة :
"اللعنة ! التافهة ! انظر كيف عضتني !".
هزه الرجل بقوة وقال :
" اياك من التمادي في كلامك !".
ثم ابعده عنه باحتقار واضاف قائلا :
" انا متأكد من انها اضطرت للقيام بذلك , نتيجة الأستفزاز والتصرفات السيئة ".
أحست سالي أن كروجر لن يرد بشيء , أو حتى ان يلجأ الى الكذب والأفتراء , لأن الذراع الحديدية للرجل الآخر افزعته وارعبته . فتح فمه , واغلقه ثانية , ثم نظر الى سالي بعصبية ظاهرة ... وغادر القاعة .
" شكرا , انقذتني من .... ".
منتدى ليلاس
" من مصير اسوأ من الموت ؟ لا , لم تعد الامور سيئة الى هذه الدرجة في عصرنا الحالي , يمكنك القول انني انقذتك من مشكلة مزعجة ".
أرادت الرد عليه بأنفعال , ولكنها ترددت لحظة ثم قررت الأمتناع كليا عن ذلك ... اذ ليس لديها في الوقت الحاضر أي حليف سواه , قالت له بهدوء :
" سمحت له بالجلوس معي , عندما طلب مني ذلك بتهذيب فائق . لم اكن لأتصور ابدا انه يفكر بأكثر من مجالستي ودعوتي الى مشاركته كوبا من العصير ".
" لا توجهي اللوم الاّ لنفسك" .
هل قال لها حقا هذا الكلام السخيف , ام انها تتخيل ذلك ؟
نظرت اليه فرأت انه يتأملها بهدوء وبرودة فيما تعلو شفتيه الجذابتين أبتسامة رقيقة . تذكرت تصرفه القاسي معها في محطة السكك الحديدية , فقالت له بأنفعال شديد :
" توحي كلماتك هذه بانك تعتبرني فتاة سيئة السمعه !".
ضحك بصوت مرتفع , وقال بلهجة هازئة :
" معظم اللواتي تتحدثين عنهن هن اكثر دهاء وحنكة منك . لا يا آنسة اوبريان , لم اقصد الأيحاء بذلك ابدا , ما عنيته بالضبط هو انك تعرضين نفسك لمواقف مزعجة وصعبة , لأنك لا تعيرين أي اهتمام على ما يبدو لكونك شابة رائعه الجمال , تسافر وحدها بدون رفيق . هل انت في الـ18 من عمرك ؟".
" عمري 23 سنة يا سيد !".
" اذن , انت شابة متقدمة واعية ! كنت أتصورأن فتاة بمثل سنك ستفكر أكثر من مرة قبل أرتداء ثياب سهرة والتبرج , على هذا الشكل لمجرد الجلوس في فندق للباعة الجوالة .... ما لم تكن مستعده للتحرش والمغازلة , أو راغبة فيهما" .
هل تصفعه على وجهه بالقوة ذاتها التي لكم فيها الرجل الآخر ؟ لا , يكفيها عنف هذا اليوم ! رفعت وجهها نحوه بعزة وقالت له بهدوء :
"لن يتكرر هذا الأمر ثانية , سأتوجه الآن على الفور ألى غرفتي" .
" يجب عليك أولا تناول طعام العشاء , ما رأيك لو أكلنا معا ؟:
شعرت بشيء من الأرتياح , لأن وجود رجل قوي الشخصية والبنية معها سيضمن عدم تحرش احد بها , ولكن قد يفسر قبولها لدعوته بصورة خاطئة . لذلك قالت له :
" لست متاكده من أنني أريد ذلك ".
" وهل تفضلين أهتماما من نوع آخر , كالذي أبداه صديقك ؟".
نظرت اليه بتحد وسألته بشيء من الانفعال :
" وماذا يهمك من أمري , أو بما سيحدث لي ؟ ألم تقل بنفسك أنني المسؤولة عما يجري ؟".
اجبها بلهجة باردة وهادئة :
" لا يهمني أمرك أبدا يا آنسة , ولكن مالك الفندق صديقي وأهتم لأمره , انه الآن في المستشفى ولن يكون سعيدا البتة اذا وقع في فندق حادث قبيح تنعكس نتائجه على سمعة الفندق" .
ثم امسك بذراعها , وأضاف قائلا :
" هيا , يا آنسة اوبريان , لننقتل الى طاولة الطعام ".أزداد غضبها وحنقها بسبب هذه الغطرسة , التي لم تعرف لها مثيلا من قبل . ولكنها مضطره لتهدئة غضبها , ولو لهذه الفترة على الأقل ,لأن كلامه يحمل الكثير من الصحة .
فالحادثة التي وقعت مع كروجر أزعجتها وأرعبتها ولم تعد بالتالي قادرة على تحمل المزيد من المضايقات أو المشاكل . وجود رجل كهذا معها من شأنه الحؤول دون وقوع حوادث مماثلة .
مشت معه نحو الطاولة الكبيرة فأزدادت اعجابا بقامته الطويلة وكتفيه العريضتين ... ورجولته الساحرة . ارتعش جسمها قليلا لمجرد التفكير بذلك ,ولكنها سارعت الى السيطرة على أعصابها وأستعادة رباطة جأشها . انه رجل متعجرف قاس , ولن تدع سحره الجذاب ينسيها هذا الامر .
في أي حال , هذه هي المرة الأخيرة التي ستراه فيها ... فأين المشكلة ! هزت رأسها بعصبية , وكأنها تحاول اقناع نفسها بطرده من افكارها , فلاحظ الرجل حركتها .... وضحك .
لم تسمع في حياتها صوتا أكثر اغراء وأثارة , وعاد الأرتعاش يهز جسمها ويقلق بالها .. سألته بصوت منخفض :
" هل فعلت شيئا يضحكك ؟".
" الى حد ما , فأنت على ما يبدو تستعدين لمواجهة هجوم اخر !".
منتدى ليلاس
" وهل أنت على وشك التعرض لذلك ؟".
تاملها لحظة فشعرت بسخافة سؤالها وندمت على توجيهه .
شاهدت في عينيه سخرية لاذعة وتوقعت منه جوابا قاسيا , ولكنه قال لها بلهجة مهذبة :
" لن تتعرضي الى أي هجوم مني , يا عزيزتي , فأنا لا اهاجم الاطفال" .
أثارها في رده بتلك الملاحظة المتعلقة بسنها , فقالت له بحدة بالغة :
" انا لست طفلة !".
ضحك مرة اخرى وقال :
" حقا ؟ ستقنعينني بصحة ذلك عندما تتصرفين كشابة ناضجة راشدة . هيا , اجلسي ".
لماذا يتحدث معها وكأنها طفلة صغيرة ؟ ترددت سالي لحظة بين الرفض والقبول .... بين الأعتراض والموافقة , لكنها قررت في نهاية الأمرأن تحديه سييثبت له عدم نضجها وسيزيد من أحتقاره لتصرفاتها الصبيانية
جلست الى الطاولة ببطء وتمهل , وأمضت فترة طويلة في دراسة قوائم الطعام التي لاتضم الا طبقين رئيسيين وعددا قليلا من المقبلات .
وعندما رفعت رأسها نحوه لاحظت انه كان يتأملها بعنيني ضاحكتين ... فالقائمة القصيرة لا تحتاج الا لنظرة واحدة . سألها اذا أختارت أنواع الطعام التي سيطلبها لها , فقالت :
" طبعا , سأبدأ بالحساء ثم ... كيف عرفت أسمي ؟ من سجلات الفندق ؟"
" طبعا .انت سالي أوبريان , وتقيمين هنا حتى يوم الجمعه . هل أنت عزباء كما أتصور , أم أنك تركت خاتم الزواج في بيتك ؟".
ردت عليه بحدة ومرارة :
" انا مخطوبة لرجل لايعتبرني طفلة . وبما أنني لم أزعج نفسي بقراءة أسماء النزلاء في هذا الفندق ,فهل لي ...." .
" اندريه كونورز" .
أبلغ الخادم عما يريدانه , ثم مضى يقول :
" ألا يعترض خطيبك على سفرك بمفردك في مثل هذه المناطق النائية ؟".
لماذا يصر على معاملتها كطفلة ؟ ستواجهه بسلاحه المفضل ... السخرية ! وجهت له ابتسامة عريضة , وقالت :
" انه لا يعترض ابدا على تصرفاتي . وانا الآن في طريقي اليه لكي .... نتزوج" .
" مبروك , لا تنسي الحساء !".
نظرت الى صحنها بأنزعاج كبير , لأن أفكارها تحولت فجأة الى جون ... وألى هذا التأخير السخيف الذي يقض مضجعها ويحز في نفسها .
كان من المفترض الآن أن تصل ألى مزرعة خطيبها لتعد وأياه خطة الزواج , ولكن الظروف القاسية ارغمتها على الجلوس مع رجل غريب تحرك رجولته الفذة في نفسها مشاعر لم تعرفها من قبل .
منتدى ليلاس
رفعت رأسها نحوه , فرأته ينظر اليها بطريقة لم تفهم معناها أو تتمكن من تحليل اهدافها . أزداد توتر أعصابها ... أنه ليس وسيما من الناحية التقليدية المتعارف عليها , ولكن ملامحه تجمع بين القساوة والأغراء ... بين الوحشية والجاذبية .
أرتعش جسمها للمرة الثالثة , لأنها سمحت لشخصيته بالتأثير عليها .. بتلك الطريقة الغريبة . تظاهرت بالأبتسام وسألته بهدوء :
" هل تعرف منطقة تسمى حوض التماسيح , يا سيد كونورز ؟".
" اعرفها جيدا ".
"حقا ؟ هل تعمل هناك ؟".
" في منطقة مجاورة" .
" وهل أنت في طريقك الى مكان عملك ؟".
هز رأسه ايجابا , فكتمت أنفاسها وسألته بصوت منخفض الى حد ما :
" الليلة ؟".
" لا . غدا" .
نسيت خوفها منه وأشمئزازها من تعجرفه , فقالت بأرتياح بالغ :
" عظيم ! لن أحتاج أذن للأنتظار الى يوم الجمعة . يمكنني الذهاب معك و .... ".
" لن تذهبي معي الى أي مكان ".
ولكن .... ولكنك قلت أنك ذاهب ألى منطقة مجاورة و ....".
توقفت عن أتمام جملتها بعد حلول الأرتباك محل اللهفة والسرور , ثم قالت له بهدوء :
" هل تعني أنني غير قادرة على مرافقتك ؟".
" حان دوري الآن لتوجيه الأسئلة . لماذا تريدين الذهاب ألى حوض التماسيح ؟".
" لدي سبب لايهمك" .
" أنت التي تطلبين خدمة , يا آنسة ".
" أنا في طريقي للقاء خطيبي" .
" ما أسمه ؟"
" جون لانج " .
" اوه !".
" هل تعرفه؟".
" طبعا" .
" لا شك في أنه ... أخبرك عني ".
" لا أذكر شيئا من هذا القبيل" .
لم تعد قادرة على تحمل برودته القاسية , فقالت له بلهجة حازمة :
" ليس ذلك مستغربا بالنسبة لي , فخطيبي لا يتحدث عن شؤونه الخاصه لكل غريب يلقاه" .
" أنه رجل حكيم " .
سألته مرة أخرى عما أذا كان يمكنها الذهاب معه الى منطقته القريبة من حوض التماسيح , فقال لها :
" ألم تسمعي جوابي قبل قليل" .
" بلى , ولكنني أريد الذهاب بأسرع وقت ممكن . سيشكرك جون كثيرا أذا أخذتني اليه" .
" هل يعرف أنك ذاهبة اليه ؟".
" لا , ولكن ....." .

" تصورت ذلك , وألا لكان ذكر شيئا عن أمر بالغ الأهمية .... كوصول زوجة المستقبل" .
" أردت مفاجأته . عندما تأكد لي اضطراري للأنتظار حتى بعد غد , قررت الأتصال به ... ولكن خطوط الهاتف مقطوعة بسبب العاصفة ".
منتدى ليلاس
" أقترح عليك العودة الى مدينتك" .
" استغرب هذا الأقتراح , يا سيد كونورز .واؤكد لك بأنني لا أستسلم بسهولة , وأن لم اتمكن من أيجاد وسيلة نقل أخرى ألى حوض التماسيح , فسوف أنتظر ألى بعد غد لأستقل سيارة الركاب الكبيرة التي ستمر من هنا" .
" كما تشائين" .
أخذ يأكل طعامه البارد بأعصاب هادئة , فيما كانت سالي تشتعل غيظا وحنقا .

ولكن ..... ما بها تعود الى تأمل قامته وثيابه ويديه , وتجد فيها جميعا جاذبية وسحرا ؟ تكره صفاته وتصرفاته كلها , فكيف تسمح لنفسها بتخّيل تفاصيل تتعلق به ؟ انها تنفر منه , ومع ذلك فهو يجذبها اليه ....
صممت على أكل طعامها وعدم التفكير به , ولكنها لم تتمكن الا من توجيه السؤال التالي اليه :
"لماذا تصر على الرفض , يا سيد كونورز ؟".
" تصورتأننا أنتهينا من هذا الموضوع ".
" هل تعتقد أن الرحلة قد تكون قاسية بالنسبة لي ؟ أنا لست فتاة رقيقة مترفة لا تعرف النوم الا على سرير من حرير" .

" حقا ؟ هل هذه هي دعوة لي لإختبار نومة سريرك , كي أثبت هذه النقطة بنفسي ؟".
حبست الأهانة أنفاسها لحظة , قالت له بعدها بحدة بالغة :
" كيف تجرؤ على التفوه بمثل هذا الكلام . أنتظر حتى أطلع جون على ذلك !".
" وهل تتصورين أنه سيشعر بغضب عارم . أنضجي قليلا يا صغيرتي !".
صغيرتي ؟ يا للوقاحة ! ها هو يتحدث معها ثانية كأنها طالبة صغيرة , بريئة , وغبية !
أحست برغبة قوية لتوجيه صفعة الى ذلك الوجه الساخر , ليعرف هذا اللعين مع من يتعامل ! صغيرتي ؟ انه حقا ..... .

بذلت جهودا مضنية للسيطرة على أعصابها , ومنع كفها المتحفز من التحرك بأتجاه وجهه . يكفيها ما حصل معها هذا اليوم من صعاب وأزمات
وتكفيها عداوة رجل واحد مثل كروجر , سيأتي يوم , وفي المستقبل القريب عندما ستقول للسيد اندريه كونورز رأيها فيه بصراحه !
لم يتصرف معها أحد غيره من قبل بمثل هذه الغطرسة والوقاحه , ولم تضطر مرة واحدة في حياتها الى الرضوخ والأستسلام لأوضاع مريرة كالتي يفرضها عليها هذا الرجل القاسي ....
تبا لهذه الظروف التي ترغمها على ذلك , وتربك مشاعرها في الوقت ذاته !
أحمر وجهها ثم شحب لونه , عندما نظرت اليه وشاهدت ذلك السحر القاتل في عينيه الباردتين . علمت في تلك اللحظة أنها لن تقدر على مواجهة نظراته الحادة , وانها هي التي ستضطر لأبعاد نظرها عنه .
تملكها شعور بالضعف أمامه , وأخذ هذا الشعور الجديد يتكثف ويتضخم للدرجة التي أزعجتها ....لذلك وضعت الشوكة والسكين على الطاولة بعصبية بالغة , ثم توجهت بسرعه الى غرفتها , تأملها اندريه كونورز بهدوء مزعج , بدون ان يتحرك من مكانه او يتفوه بكلمة واحده .لم يحاول بذل أي جهد للأعتذار أو...... لمطالبتها بالبقاء معه , ظل وجهه جامدا كالصخر , وكأنه يقول لها ......... خيرا ما فعلت .












لاشيء يهم روايات عبير القديمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن