الفصل الأول

3K 55 0
                                    

الفصل الأول:

انبثقت الشمس من نافذة مرسم ريان معاذ الدين العربي ونثرت ضيائها على إحدى اللوحات لتزيدها روعة، طاف بعينيه على هذه الجميلة بملامحها الخلابة التي برعت أنامله برسمها، حيث وجهها البيضاوي الذي يحوي أنف شامخ، شفتان مكتنزتان، وعينان بلون البندق.
لامس اللوحة بأنامله وقلبه يخفق صبابة، لقد مر عامين على زواجهما، علت الابتسامة ثغره وهو يتذكر حفل زفافه.
..
كانت آية في الحسن والبهاء، سلبت لبه ما أن أبصرها بثوبها الأبيض الخلاب، انجذب إليها كالمسحور، متناولاً كفها برقة يلثمها، مخترقًا عينيها بسهام نظراته العاشقة.
وما هي إلا لحظات وكان يحتضن خصرها ويشاركها الرقصة المعتادة للعروسين، لتتلاقي الأعين بشوق وحب.
همس ريان جوار أذنها بعشق يغمر وجدانه:
"سحركِ سيُهلك قلبي جميلتي"
ارتسمت الابتسامة على شفتي أميرة، أطرقت برأسها خجلاً، وتورد وجنتيها زاد من اختلاج قلبه، ليكمل همسه بحرارة وهو يشدد على خصرها بذراعه:
"خجلكِ يزيدكِ حُسنًا، فمن الأفضل أن تكفي عنه حتى لا أضطر لتقبيلكِ"
استشرت سخونة وجنتيها، رفعت عينيها إليه لتهتف بحدة توارى خلفها توترها:
"كُف أنت عن وقاحتك..هذا الحديث لا يصح ريان"
ضحك بانطلاق رافعًا رأسه لأعلى، توقف عن الضحك بصعوبة ليتساءل بمكر:
"أين الوقاحة؟!..لم يأت وقتها من الأساس!"
أكمل جملته بغمزة عابثة لتفغر فاها في صدمة، كلماته ألجمت لسانها فلاذت بالصمت ودفنت وجهها بصدره العريض، أغمض عينيه بقوة مستمتعًا بقربها منه، ضائعًا في حب هيمن على كل جوارحه.
..
أفاق من شروده وابتسامة أليمة تعتلي ثغره، أين ذهب هذا العشق؟؟!!، كيف تبدد وحل الضجر بدلاً منه ؟!، أطبق جفنيه وهو يكور قبضته بعنف، يحاول السيطرة على الألم الذي يجز بنفسه، لا يهم ما وصلا إليه، سيعيد عشقهما الليلة، سيرجع حبيبته التي أسرت فؤاده.
غادر منزله وهو يرتدي قميص أبيض اللون وسترة زرقاء وبنطال باللون الجملي ويحمل حقيبة حاسوبه على كتفه، استقل دراجته النارية لينطلق بسرعة جنونية، يبغض السيارات والزحام الذي تسببه، هو كالطير يأبى القيود ويهوى رحيق الحرية.

دلف لمكتب الديكور الخاص به وصديق دراسته معتز، الذي أقبل عليه وهو يحمل قدح من القهوة وشطيرة قائلاً بسخرية رافعًا إحدى حاجبيه:
"وكأنك ستصاب بذبحة إذا أتيت بموعدك!"
"من الواضح إنك تضورت جوعًا من طول انتظارك"
قالها الآخر وهو يضع حقيبته على سطح المكتب بينما قال معتز وهو يرفع شطيرته ببراءة:
"مجرد تصبيرة"
أخرج حاسوبه، قائلاً دون اكتراث:
"خير ما فعلت..لا شهية ليّ أصلاً"
عقد معتز حاجبيه بحيرة، ريان لا يفقد شهيته إلا عندما يؤرقه أمرًا ما أو يكون بقمة حزنه، تفاقمت حيرته فوضع قدحه على سطح المكتب ليميل بجذعه مستندًا بكفه على المكتب، وسأله بنبرة مازحة:
"ماذا بك يا بيكاسو عصرك؟؟"
قال بجدية وهو ينظر إلى الحاسوب بتركيز ليراجع أحد التصاميم:
"لا وقت لمزاحك..فلننهي ما لدينا باكرًا..لأنني سأرحل قبل الخامسة"
اعتدل معتز فاغرًا فاه في صدمة وهو يناظره بذهول وسرعان ما تساءل بغيظ:
"أتيت متاخرًا وستذهب وتترك العمل فوق رأسي..هل تظنني تبنيتك لأحمل عنك كل هذا؟؟!!!"
رفع رأسه إليه ليقول مبررًا:
"أقسم لك أن لولا أهمية هذا اليوم بالنسبة ليّ ما كنت سأفعل"
زفر معتز بضيق، بينما استرسل ريان بنبرة ذات مغزى وهو يرفع سبابته:
"ستحتاجني يومًا ما"
صمت للحظات ليقول باستسلام:
"حسنًا"
تنهد ريان براحة وعاد يكمل عمله، وبالموعد الذي حدده غادر المكتب، ووصل لمنزله بعد مرور ساعة وهو يحمل بيده عدة أكياس مليئة بالأطعمة المفضلة لزوجته وباقة من الورود التي انتقاها بعناية شديدة، خلع سترته ووضعهم بالمزهرية، والطعام على الطاولة وأشعل الشموع، انبعثت موسيقى ناعمة من حاسوبه، وبالسادسة والنصف دلفت أميرة للشقة، بدت الدهشة على وجهها لرؤية الطعام والشموع، هل أتى ريان بهذا الوقت؟؟؟!!، لكن لمَ؟؟!!، ارتفع صوتها منادية :
"ريان..ريان..أأنت هنا؟؟!!"
خرج من غرفة النوم بوجه مشرق بابتسامة رائعة قائلاً وهو يدنو منها ليهبط بشفتيه على وجنتها مقبلاً:
"ووصلت حبيبتي أخيرًا"
نظرت إليه بحيرة متسائلة بتعجب:
"لماذا عدت باكرًا؟؟"
رفع حاجبه متسائلاً بدهشة:
"وهل يمكن أن يمر يوم كهذا وكل واحد منا بمفرده؟؟!!"
تفاقمت حيرتها وهي تعود لتتساءل:
"وهل هناك شيء مميز اليوم؟؟!!"
وهنا تلاشت ابتسامته وحل التجهم بدلاً منها، هي لا تتذكر ذكرى زواجهما حقًا؟؟!!، سألها بصدمة:
"أتمزحين؟؟!!"
بدا التوتر على ملامحها، قالت بحيرة وهي تدلك مؤخرة عنقها:
"عيد مولدك؟؟"
حرك رأسه نفيًا والحزن يظلل مقلتيه، تحررت الاجابة من بين شفتيه ببطء شديد بعد أن تبخر حماسه:
"ذكرى زواجنا"
عضت على شفتها السفلى وهي تضرب جبهتها بكفها متسائلة بدهشة:
"كيف نسيت؟؟!!..أعتذر حبيبي..أعدك أن هديتك ستأتي غدًا"
استشرى عبوس وجهه هاتفًا بخيبة أمل:
"كان يكفيني فقط أن تتذكريني"
"لم أنسك ريان..لكن عقلي مشوش بسبب ضغوط العمل..أعتذر ثانية"
استرسلت حتى لا ترهق نفسها في نقاشه أكثر من ذلك:
"هيا لنأكل..لا يمكنني تحمل رائحة الطعام"
وقف يراقبها وهي تجذب مقعدًا لتجلس فوقه، تهرب كلما أحست بأنها مخطئة، كبريائها يمنعها من الاسترسال بالنقاش، وإذا كان أصر كانت ستتفنن في الشجار وتتهمه بالظلم لأنه يجحف معاناتها، لا يهم أن يزداد جرحًا فوق الجروح التي نقشتها بقلبه كل ما يهمه الأن أن ينهي الأمر الذي أقض مضجعه، جلس جوارها وهو يحاول إضمار حزنه، وأثناء تناولهما للطعام قبض على كفها برقة قائلاً:
"آن الأوان لنملأ الغرفة الفارغة"
سقطت الشوكة من يدها، تملكت الصدمة من ملامحها وتفشت حينما استطرد بحماس:
"نملأها بطفلة تشبهك..ترث لون عينيكِ"
نظر بعينيها ثم أردف وهو يتخلل خصلاتها بأنامله:
"وشعركِ"
هبطت أنامله إلى وجنتها الناعمة هامسًا بلذة:
"ووجنتاكِ"
"وشفتيكِ اللتين تثيران جنوني"
همس بجملته الاخيرة وهو يزدرد ريقه بصعوبة ويلامس شفتيها المكتنزتين، مسطردًا في حب:
"يا الله سأجن بها يا أميرة..حقًا سأجن"
اضطربت نبضات قلبها، بدا تنفسها واضحًا إليه بسبب علو وهبوط صدرها، ترفض فكرة الإنجاب، الطفل سيهدم كل ما بنته طوال تلك السنوات، سيرجعها للخلف وتكون محل شماتة للحاقدين، لا تريده، عملها الأهم والأولى، بينما أضاف ريان بنفس الحماس وهو يشير لأحد الأركان:
"سنضع لها ارجوحة هنا"
"ليس الآن"
قالتها بصرامة لتخمد شعلة حماسه ويلتفت إليها بوجه تظلله الصدمة لتردف مفسرة:
"مازال أمامنا الكثير لنفكر في الإنجاب"
حاولت جذب كفها لكنه شدد عليها بخشونة متسائلاً بنبرة مرتفعة وهو يحدجها بنظراته الحادة:
"إذًا متى وأنا بالثلاثين من عمري؟؟!!..حينما يغزو الشيب رأسي!!"
اختلجت كفها بقوة وتسارعت أنفاسها قائلة بثبات رغم توترها:
"تعلم تقدير عملي ومستقبلي قليلاً ريان..تخلص من أنانيتك"
أتتهمه بالأنانية بعد كل ما تحمله من أجل نجاحها من جفاء وإهمال وحرمان من الأبوه؟؟!!، هو يقسم أنه لم ير امرأة تعشق نفسها مثلها!!، استشرى حنقه وتجعدت جبهته متسائلاً بتعجب:
"أتتهميني بالأنانية لأنني أطالب بحقي؟؟!!"
ارتفع صوتها نسبيًا في سخط:
"هذه الطفلة التي تتحدث عنها بكل بساطة ستحتاج لرعاية..وستستحوذ على معظم وقتي..وبسببها لن أتقدم خطوة واحدة للأمام بل سأرجع عشرات الخطوات"
لم ترتخ ملامحه وتعالى صوته وهو يهتف بإصرار حاد:
"لكنها تستحق..وأنا لن ألقي المسؤولية على عاتقك وحدك مثل بقية الرجال لتخشين الفشل"
عقدت حاجبيها في غضب وهي تتساءل بدهشة:
"ولمَ العجلة ونحن في مستهل الطريق؟؟!!..الوقت والتفكير والطاقة كنوز..يجب أن لا نفنيها إلا بالعمل"
قالت جملتها الأخيرة وهي تضرب الطاولة بقبضتها، بينما تعاظم غضبه وحزنه، العمل والمال هما أول اهتماماتها، لا، بل جميعها، حسابات القلب أولى خطوات الفشل بالنسبة إليها، لم يخيل إليه أنها ستكون بهذا الجمود حتى بمشاعر الأمومة التي زرعت بقلب كل امرأة.
نهض من على مقعده بوجه كالح، قائلاً بصوت يقطر ألمًا :
"سعادتكِ تتلخص بالمركز والمال..لكن سعادتي هي أنتِ وطفلتنا بالمقام الأول"
نهضت هي الأخرى لتهتف بصرامة وهي ترمقه بنظرة حادة:
"أنت عاطفي تفكر كالمراهقين"
وهنا تبخر صبره وقبض على ذراعها ببعض العنف وصدره يعلو ويهبط في قوة مخترقًا عينيها بنظراته الساخطة:
"إذا كنت مراهقًا فأنتِ بالتأكيد لا تملكين قلبًا كسائر البشر..بل حجرًا لا يحس ولا ينبض"
دفعها بخشونة حتى كاد يختل توازنها ثم غادر الشقة صافقًا الباب خلفه، انطلق بدراجته النارية، يجاهد لكي لا يتناقص عشقها من قلبه، كلما حاول أن يعيدها إليه تقصيه عنها لأميال وأميال، بقدر جفائها يتفشى ألمه ويائسه، المرأة التي هواها حُجبت عيناها عن رؤيته، حاول إرضائها على حساب نفسه حتى أبت منحه أبسط حقوقه، وكأن القسوة أضحت مقابل التضحية والحب.
***********
الحب من أسمى المشاعر وأروعها، لكنه يضمر الضعف بين طياته، يجتاحنا حينما نفقد من نحب، أو لمجرد التفكير بفراقه.
دارت تلك الأفكار بخلدها وهي تقف أمام النافذة تراقب حبات المطر التي أخذت توجه ضرباتها للزجاج، خيمت سحابة من الدمع على عينيها، شبح الموت يحوم بغرفة المشفى الباردة، نظرت للسماء تدعو بخفوت شديد :
"لا تحرمني من نعمة وجودها يا الله..أنا فقدت أبي بعمر صغير وخسارتها ستحطمني..ستتبدد قوتي وإرادتي برحيلها ولن يعود لأحلامي قيمة..هي كل وأعظم ما أملك..ليس ليّ سواها..لقد غمرت القسوة قلب أخي ولن يرحم ضعفي وقلة حيلتي"
سالت عبرة خائنة على وجنتها حينما شردت بتلك الذكرى المؤلمة قبل تدهور حالة أمها ودخولها المشفى باسبوع.
..
دلفت لمنزلها وهي تحمل حقيبتها، هاتفة بصوت مرتفع تغمره البهجة:
"أمي..أنا أتيت يا أمي"
وصل صوتها لمسامع أحلام وهي تجلس بغرفتها على فراشها الذي نادرًا ما تفارقه منذ مرضها لتبتهج وتنير الأبتسامة وجهها المنهك، قائلة بشوق:
"جنتي"
تلألأت العبرات بعينيها حينما أبصرتها أمامها، فتحت ذراعيها لتستقبل ابنتها بأحضانها وتروي ظمأها قائلة من بين عبرات إتخذت طريقها إلى وجنتيها:
"اشتقت لكِ جنتي، طال غيابك تلك المرة، أهنت عليكِ؟؟"
ابتعدت لتشبع عيناها من ملامحها، احتضنت وجهها الشاحب الذي يمزق قلبها إربًا، متسائلة بعتاب هادئ:
"ألا تعلمين أنني أموت المًا كلما تركتكِ ولولا الجامعة ما كنت فعلت؟؟"
أومأت موافقة وهي تهتف باختناق:
"أعلم ولكنني لا أطيق بعدكِ"
بدا الألم على محياها لكن سرعان ما تلاشى حتى لا تلاحظ حزنها، هتفت بحب وأناملها تكفكف عبراتها:
"لم يبق إلا القليل، وسأبقى جواركِ دومًا أعتني بكِ واشاكسكِ ليلاً ونهارًا حتى تتمنين رحيلي"
حركت رأسها رفضًا:
"مستحيل"
"وبدأت الفقرة المعتادة"
قالها شقيقها ساخرًا وهو يدلف للغرفة، التفتت إليه لتواجه نظراته المتهكمة، فهي أكثر ما تخشاها وكلماته اللاذعة عند مجيئها، قالت أحلام بنبرة معاتبة وهي ترمقه بضيق:
"أهكذا تكون التحية؟؟!!"
نقل نظره بين أمه وجنة واستقر عند الأخيرة ليقول بنبرة مهاجمة وهو يرمقها بازدراء:
"التحية تكون لمن تستحقها"
حدجته بنظرة غاضبة وكادت تنهره لكن أوقفتها إشارة من جنة التي نهضت من على الفراش لتقف قبالته عاقدة ساعديها أمام صدرها متسائلة بهدوء ظاهري:
"ولماذا لا أستحقها؟؟"
وقف يتفحصها بدقة وكأنه يفتش عن شيء ما بملابسها التي تتكون من بنطال وسترة طويلة تكاد تصل إلى ركبتيها ووشاح يستر خصلاتها السوداء حتى يعزز حديثه لكن خابت آماله ورمقها باستهانة وهو يقول بضيق:
"الفتيات يجلسن ببيوتهن وأنتِ تركضين من الجامعة للسكن ومن السكن للبيت"
"الجامعة..قلت أنني أذهب للجامعة وليس للتنزه"
هتفت بها بمزيج من الحدة والشجاعة، بينما ارتفع صوت الآخر في غضب:
"نعم الجامعة التي أرغمت على الموافقة عليها"
تمعنت في ملامحه المتشنجة بصمت، عارض سفرها للمدينة وبقائها بسكن للفتيات حتى أن الفرصة كادت تتسرب من بين يديها لولا أمها الحبيبة التي أجبرته على الموافقة، لكنه لم يرحمها من مقابلته الجامدة، وغضبه من سفرها وسخريته الدائمة من كل ما تفعله، الحزن كان ينهكها ببداية الأمر لكن مع مرور الوقت برعت في تجاهله.
تنهدت بقوة قائلة بنفاذ صبر:
"أنا بعامي الأخير فلا داعي لحديثك"
خيم الصمت عليهم للحظات قبل أن يلقي القنبلة بوجهها وهو ينظر بعينيها بتحدٍ:
"لم نعد بحاجة لها..تقدم رشيد ابن عمك لخطبتكِ..وأنا وافقت"
قال جملته الأخيرة ببطء مقصود، لترتسم الصدمة على محياها، وتزدرد ريقها بصعوبة، كيف يتحكم بمستقبلها دون الرجوع إليها؟؟!!، ومن أين أتى بتلك الجرأة؟؟!!، هل يظنها ستلتزم الصمت وتقبل بزوج كهذا؟؟!!.
"هل جننت؟؟!!..من سمح لك بالموافقة دون الرجوع لنا؟؟!!"
قالتها أحلام بغضب طاحن لينظرا إليها ويقول سهيل بعجرفة:
"لا أحتاجها..أنا اخترت الأنسب لها"
رشيد ابن عمها الفاسد الذي يهدر عمره بين النساء، يناسبها هي؟!، تبدد ثباتها وتساءلت بغضب:
"هذا الفاسد يناسبني أنا؟!"
تملك الغرور منها حتى أضحى ينبع من كلماتها، نبرتها، حتى نظرتها، وماذا ينتظر بعد أن نصرتها أمه عليه وتجاهلت أوامره وأهانت رجولته؟!، بالطبع ستتمرد وترفع صوتها بكل وقاحة أيضًا، لكنه سيعرف كيف يخرسها ويصلح ما أفسدته أمه.
قطب في غضب، هادرًا بقوة:
"كل من حولكِ فاسدون وأنتِ فقط الصالحة..مدللة والدتها التي لا يجرؤ أحد على معارضتها..لكنني سأكسر أنفكِ حتى تفيقي من غفلتكِ"
نقلت أحلام نظراتها بينهما بحزن يحرق قلبها، وصدمة تكبلها من قسوة ابنها، لكنها تحاملت على نفسها ونهضت من على الفراش بصعوبة لتقف كحائلاً بينهما والوجع يلتهم جسدها، صارخة بسهيل في ألم :
"توقف أنت وهي..أتهددها أمامي؟؟!!..إذًا ماذا ستفعل إن مُت؟؟!!"
لم يكترث لسؤالها بل ازداد قسوة وتبجحًا وهو يصرخ في سخط:
"ألم تملين من دفاعكِ عنها؟؟!!..لقد أفسدها دلالكِ"
بينما همست جنة لنفسها"تنعتني بالمدللة والفاسدة لأنني تشبثت بحلمي!!!، وأحببت أمي حتى غمرتني بعطفها!!، أتحاربني لتسلب مني أبسط ما ليّ وكأنني ألد أعدائك ولست شقيقتك؟؟!!، هل الحقد ملأ قلبك نحوي لهذا الحد؟؟!!"
نفذ صبرها وحررت الصرخة التي أسرتها داخلها لسنوات:
"لست مدللة يا سهيل كل ما في الأمر أنك مازلت تتشبث بعاداتك الزائفة وتصر على فرض رجولتك عليّ لكني لن أمنحك الفرصة"
احمر وجهه وجحظت عيناه، جز على اسنانه بعنف أجج الخوف بنفسها، تبادلت نظرات القلق مع أحلام وقبل أن تنهرها الأخيرة كان يجذبها سهيل من ذراعها ليهوى على وجنتها بصفعة مدوية أسقطتها بأحضان امها، صارخًا باهتياج يكاد يزلزل الجدران.
"أقسم أنني سأعيد تربيتكِ حتى تتعلمين كيف تحادثين أخاكِ..ولن تكوني سوى لرشيد"
فغرت فاها بصدمة، ظلت مأخوذة حتى أفاقت على صوت أحلام المتألم:
"تصفعها بدلاً من أن تحنو عليها!!..لن يوفقك الله يا سهيل مادامت القسوة تفعم قلبك"
انحدرت عبراتها على وجنتيها وهي تراه يغادر الغرفة دون اكتراث، واستشرت حينما طوقتها أحلام بذراعيها وأخذت تهدهدها وهي تشاركها البكاء في ألم وحسرة، ولم تلمها لصمتها فهي مثلها، خاب أملها برجلها الوحيد.
..
أجفلت حينما استمعت لصوتها المنهك، كفكفت عبراتها، تنهدت بعمق قبل أن تلتفت إليها بابتسامة واسعة تعلو ثغرها قائلة بمشاكسة وهي تبسط أناملها الرقيقة فوق صدرها:
"فليسامحكِ الله يا أمي..قلبي الصغير لا يتحمل هذا الرعب"
تنهدت أحلام قبل أن تقول بحرقة زادت من ألم ابنتها:
"ويرحمني من عذابي"
"سينتهي..أخبرني الطبيب أن حالتكِ في تحسن عظيم..وقريبًا سنعود لمنزلنا الدافئ..وأريكِ فنون الرعب فأنتِ تعلمين أنني لا أتنازل عن حقي"
قالت جملتها الأخيرة وهي تشير بسبابتها لتبتسم الأخرى بوهن قائلة وهي تربت على فراشها:
"اجلسي هنا"
استجابت لطلبها وطوقتها أحلام بنظراتها المُحبة، تبصر الحزن يتموج بمقلتيها رغم ابتسامتها المزيفة، تعلم أن قلبها ينشطر ألمًا، تخشى عليها من قسوة الحياة، كانت تتمنى رؤيتها بثوب الزفاف لكن انتهكها السرطان وبات الموت قريبًا.
احتضنت كفها وهي تهتف بصعوبة:
"أعلم أنكِ غاضبة من أخيكِ"
أشاحت بوجهها وهي تتنهد بألم وتقول باختناق:
"صفعني للمرة الأولى يا أمي..زرع الخوف بداخلي..جرحي لن يلتئم..وثقتي لن تعود"
رغم عيوبه سيبقى شقيقها الوحيد، ولن تطمئن عليها إلا وهي في كنفه، لذا قالت بتعقل:
"لا تهذي..هو أخاكِ الأكبر والوحيد..سندك بالحياة..فكيف تنهين ثقتك به لمجرد شجار؟؟"
تساءلت بتعجب وهي تنظر إليها:
"أمازلتِ تظنين أنه السند؟؟!!"
"يحدث بين الأشقاء الكثير ولا تنقطع صلتهم..وهو أعتذر ليّ..وغدًا سأجعله يقبل رأسكِ"
قالتها أحلام بإصرار لتحرك جنة رأسها في رفض قائلة:
"لن أقبل إعتذاره..فأنا كلما رأيته تذكرت فعلته"
لانت نبرة أحلام:
"أنتِ لم تُرهقيني يومًا..ولم أعتد منكِ إلا سماع ما يرضيني"
أطرقت جنة برأسها في ضيق لتشدد الأخرى على كفها قائلة برجاء:
"خصامكم يزيد من ألمي فانهيه رفقًا بيّ ابنتي"
نظرت إليها، تتأمل الحزن الذي خط خطوطه على وجهها، احترق قلبها حينما توقفت عيناها عند فراغ يغزو مستهل رأسها ظهر بسبب انزلاق حجابها إلى الخلف، كبتت عبرة بمقلتيها واحتضنتها بقوة مع اختلاج قلبها، قائلة باختناق:
"وأنا لا أتحمل ألمكِ حبيبتي..سأفعل ما تريدين"
تنهدت براحة وهي تربت على ظهرها بحنو، ومع شروق الشمس فتحت جنة عينيها بتثاقل ورفعت كفها من على جسد أمها، جلست لتربت على كتفها قائلة:
"أمي هيا انهضي"
نفضت الغطاء عنها، نهضت من على الفراش وهي تفرك عينيها جاذبة وشاحها من على المقعد لتضعه على كتفها ثم تعود تنظر لامها النائمة قائلة بابتسامة مشاكسة :
"انهضي كفاكِ كسلاً"
لكنها لم تجب عليها فاعتراها القلق ودنت منها تربت على وجنتها برفق وهي تناديها بنبرة هادئة ارتفعت رويدا رويدا حتى وصلت للصراخ، لفت حجابها حول رأسها بعشوائية، غادرت الغرفة تصرخ بهلع:
"أين الطبيب؟؟..أين الطبيب؟؟..انقذوا أمى"
أقبلت الممرضات عليها، وصل الطبيب ودلف للغرفة ثم أخرجوها قسرًا، وبعد قليل نُقلت أحلام لغرفة العناية المركزة، ووقفت جنة أمامها بوجه ذابل حزين وعينين منتفختين من البكاء، وجسد نحيل ينتفض في عنف، الدقيقة تمر بصعوبة وبطء وكأنها دهر، الفراق يدنو في عزيمة، يزيد من هلعها ويكوي كل خلية بجسدها، أحست بأن قدماها لا تحملانها، فارتمت على أحد المقاعد حتى خرج الطبيب بعد فترة ليست بقليلة من الغرفة والضيق منقوشًا على محياه قائلاً بأسف:
"فعلنا كل ما نستطيع لكن..لكن"
نهضت وهي تنظر إليه بعينين جاحظتين في صدمة، وقلبها يكاد يشق صدرها من قسوة اختلاجه حتى يصرخ بألمه وعذابه، تحررت همسة قاسية من بين شفتين مرتجفتين:
"م..ما..ماتت!!!"
أطرق برأسه دون أن ينطق ببنت شفة، بينما دلفت هي للداخل، وقفت أمام سريرها تنظر لجثتها الهامدة، لتدب البرودة بأوصالها، ويخيم الدمع على عينيها حتى يحجب الرؤية عنها، هذا المشهد كان ملازمًا لأحلامها منذ علمها بمرضها، كانت تنتفض من فراشها وتهرول إليها لتستمع لنبضات قلبها وتهدئ من هلعها، والآن هي تواجه ما أخافها، رحيلها، موتها، فراقها، وهلاكها هي، جرت قدميها نحوها، جذبت الغطاء من على وجهها بكف مرتعشة حتى ظهر وجهها لينتفض جسد جنة بقوة وتنحني مقبلة كل إنش بوجهها، تضمها للمرة الأخيرة والمرة الأولى التي تثق بها أنها لن تبادلها العناق، همست وهي تنتحب واضعة رأسها على صدرها :
"سأفتقدك..سأفتقدك كثيرًا يا أمي"
رحلت من كانت تكفكف دمعها وتداوي ألامها، أمها وصديقتها واختها والأقرب لها بالحياة، ذهبت وتركت خلفها جرح لن يداوى.
************
يجلس خلف مكتبه منهمكًا في عمله، يهرب به من الأفكار التي لا ترحمه، لم يعد لمنزله منذ شجارهما، فضل أن يبقى بالمكتب حتى يقرر ما سيفعل، استشرى ألمه تلك المرة، صدح رنين هاتفه بالغرفة لعدة مرات حتى دخل معتز لمكتبه وقال في مزاح:
"انفجر رأسي من ذاك الرنين يا رجل..أجب على هذا المزعج وارحمني؟؟"
"لا"
قالها بحزم دون أن يبعد عينيه عن شاشة الحاسوب، حدق به معتز بضيق بسبب حاله، هو يخفي عنه خلافاته مع زوجته، لكنه يثق بأن تلك المرأة سبب حزنه، منذ زواجه منها وهو يراقب إنطفاء حماسه وسعادته مع مرور الوقت، يشعر أنها تلتهم روحه حتى تزداد إشراقًا وقوة، يراها امرأة مغرورة، متعجرفة لا تهتم سوى بسعادتها، وهو أسيرًا لعشقها.
جلس على مقعد مجاور لمكتب ريان، هاتفًا بجدية:
"أعلم إنك لن تتكلم..لكن وجودك هنا يزعجني..تعال لبيتي حتى ينتهي خلافكم"
تنهيدة عميقة تحررت من داخله، التفت إليه برأسه قائلاً بإقتضاب:
"لا تقلق بشأني..أنا سأعود لمنزلي قريبًا"
"عنييد..لا فائدة من النقاش معك"
قالها بغيظ ثم صدح هاتف ريان برنين مخصص للرسائل، التقطه من على سطح المكتب ليقرأ رسالة أميرة"أحتاجك ريان..لقد ماتت خالتي"
طغت الصدمة على ملامحه، أطبق جفنيه للحظات مسيطرًا على حزنه، وسرعان ما أغلق حاسوبه وجمع حاجياته دون تمهل، وفي خلال أقل من ساعة كان في طريقه إلى بلدة أحلام برفقة زوجته.
..
شاخصة في الفراغ، صامة أذنيها عن بكائهم وصراخهم، غائبة عن العالم، والعبرات تنهمر على وجنتيها بلا رادع وقلبها يئن ألمًا :
"أنا صغيرتكِ يا أمي جنتكِ مثلما كنتِ تناديني فكيف تتركيني وحدي وأنتِ تعلمين إنكِ تعنين ليّ العالم بأكمله؟؟!!..لماذا أحرقتِ قلبي بفراقك حبيبتي؟؟!!..أخبريني من سيستمع لثرثرتي ويشاركني أفراحي وأحزاني بعدكِ؟؟!..من سيضمني لصدره ويربت عليّ ويغمرني بحنانه سواكِ؟؟!!..شريدة أنا
دونكِ..وحيدة..حزينة..لن يعرف قلبي الفرح من بعد رحيلكِ يا أمي"
ربتت على ظهرها زوجة شقيقها شفا وهي تجاهد لكبت دموعها، وبعد أن خلا البيت من المعزيات نهضت أميرة من على مقعدها متناولة حقيبتها الأنيقة لتحملها من يديها الصغيرتين، طرقت الأرضية بكعب حذائها الأسود الرفيع الطويل، وقفت قبالة جنة لتميل بجذعها قابضة على كفها برفق قائلة بهدوء:
"إذا أردتِ أي شيء ستهاتفيني حسنًا؟؟"
كفكفت الأخرى عبراتها بظهر كفها وهي تومئ برأسها، وغادرت أميرة المنزل وما أن أبصرت ريان وأبيها بعزاء الرجال حتى أشارت لهما لكي يقتربا، أقبلت على أبيها وهي ترمقه بحب، هو والدها وحبيبها، الرجل الذي ضحى بسعادته من أجلها وفضل أن يكمل باقي عمره وحيدًا بعد وفاة أمها منذ عشر سنوات، وبالغ في تدليلها حتى لا تشعر يومًا بالنقص والحزن، احتضنته بقوة ثم تساءلت بابتسامة ناعمة:
"كيف حالك أبي؟؟"
"وكيف سأكون؟؟"
قالها بنبرة مُنهكة لتتنهد أميرة قائلة:
"فليرحمها الله..لا تنس أنها كانت مريضة وتتألم"
"فليرحمها الله ويجعل مثواها الجنة"
خيمت الدهشة على ملامح ريان، تبتسم وتتحدث بكل أريحية، وكأنها لم تحزن على تلك السيدة الطيبة، وهو منذ أن صعق بالخبر وقلبه مازال يؤلمه بالرغم من أنه لم يقابلها إلا بالمناسبات العائلية وعدة مرات تُعد على الأصابع، زارها بها بمنزلها والمشفى عند مرضها، فكيف يحزن الغريب لموتها أكثر منها؟؟!!.
سألها بغضب مكتوم:
"كيف حالها؟؟"
"من؟؟"
تساءلت وهي عاقدة حاجبيها بحيرة، ليجيب الأخر بنفاذ صبر:
"ابنة خالتكِ، جنة"
أجابت بنبرة هادئة خالية من المشاعر:
"لا تتحدث ابدًا، تبكي فقط، تحاول الإستيعاب"
تنهد والدها بقوة قائلاً بحزن:
"مسكينة، يجب أن نطمئن عليها من حين لأخر، لا تنسى يا أميرة"
قال جملته الأخيرة وهو يشير بسبابته محذرًا:
"سأحاول"
أضاف ريان برزانة:
"أظن من الأفضل أن نبقى اليوم"
نظر والدها إليه ليقول مؤكدًا:
"نعم..بالطبع سنبقى"
عقدت حاجبيها في ضيق، ارتفع صوتها في رفض شديد وهي تحرك كفيها بعشوائية:
"مستحيل..لدي عمل بالصباح..وغير ذلك لن استطيع البقاء ببيت غريب"
بدا الغضب على وجهه، كور قبضته بقوة حتى إبيضت سلامياته، كيف تتركها وهي بتلك الحالة المزرية؟؟!!، هل هو يبالغ في حزنه كما تصفه أم أنها كلوح الثلج قاسية المشاعر؟؟!!.
استطردت وهي تفرك كفيها ببعضهما:
"سأتجمد من برودة الجو..هيا لنرحل ريان"
أومأ برأسه على مضض وودعا والدها، وبعد وصولهما للشقة لحق بها قبل أن تدلف لغرفتهما وجذبها من ذراعها متسائلاً في ضيق:
"ألا تملكين بقلبكِ القليل من العطف؟؟!!..ماذا كان سيحدث إذا بقيتِ لليلة واحدة مع ابنة خالتكِ؟؟!!"
خلصت ذراعها من حصار قبضته وهي ترمقه بحدة، هل كانت تنقصها جنة أيضًا ليتشاجرا بسببها؟؟!!، هي لا تفهم لماذا تبقى معها من الأساس؟؟!!.
فقالت بصرامة:
"لقد ماتت أمي أنا أيضًا..لكنني تجاهلت ألمي ولم أقبل الشفقة لذلك يجب أن تنهض بمفردها دون مساعدة..أنا ساؤذيها إن فعلت ما تريده..ستتعلم الإعتماد على الغير وستبق"
لم يتحمل حديثها وظهر الاستنكار على وجهه قبل أن يصرخ بها بغضب:
"كفى..اصمتي..أشعر وكأن الرحمة نفسها تنفر منكِ"
دلف لمرسمه صافقًا الباب خلفه، بينما نظرت إليه باستهانة، يظنها ستذهب خلفه لتنهي الخصام، لا يدري أن كل شيء يحدث برضاها وبالوقت الذي تختاره، تشفق على الرجل حينما يقف بشموخ ويظن أن كلمته الأولى والأخيرة ولا يعلم أن شعوره هذا ليس إلا وهمًا أسقطته به امرأته.

نهاية الفصل

أحبك في صمتي(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن