الفصل الرابع

885 35 0
                                    

الفصل الرابع:

"مرحبًا يا ابنة الخالة"
قالتها أميرة بابتسامة ماكرة وجنة تقف قبالتها، تتحاشى مواجهة عينيها كعادتها منذ زواجها من ريان، وكيف تفعل وهو مازال يسيطر على عقلها؟!، وقلبها ينبض لرؤيته؟!، كيف تفعل ونيران الذنب تكويها؟!، أجفلت على سؤال أميرة المتهكم:
"أستبقين واقفة هكذا طوال اليوم؟!"
لتتسع عيني الآخرى في دهشة وتلين نبرة أميرة وهي تسترسل مشيرة إليها برأسها للداخل:
"هيا ادخلي"
استجابت جنة لطلبها رغم القلق الذي ينهش خلاياها، ثم جلست على أحد المقاعد بعد جلوس أميرة على الأريكة بأريحية شديدة، واضعة ساق فوق الأخرى بكبرياء، تضرب ركبتها بسابتها متلذذة بتوتر جنة، فالخوف يجعل الإنسان في أضعف حالاته، وهذا ما تحتاجه بالضبط، لتستغل ما فرض عليها لصالحها، بينما رفعت جنة رأسها لتتساءل في نفاذ صبر:
"جئت كما طلبتِ، فماذا تريدين؟"
"ألهذا الحد خائفة؟!"
قالتها أميرة بسخرية وهي ترفع أحد حاجبيها، لتستشيط الأخرى غضبًا، لماذا طلبت مقابلتها؟!، ولمَ هذا الصمت السخيف؟!، أتقصد إثارة خوفها أم ماذا؟!، لكنها رغم ظروفها لن تقبل بذلك، هتفت مهددة وهي ترفع سبابتها بوجهها:
"إذا لديك ما تقولينه تكلمي على الفور وإلا رحلت"
لم يرمش لها جفن، بل ازدادت غرورًا وثقة وهي تشبك أصابعها فوق ركبتها وتهز قدمها ببطء متسائلة بابتسامة واثقة:
"لم تجبِ، لكنني أثق بخوفك، فماذا ستكونين غير ذلك بعد فعلتك المشينة؟!"
لماذا هاجمها الحزن الآن؟!، ألم تتوقع هذا الهجوم من قبل؟!، بالطبع توقعت لكن مواجهته قاسية، غير محتملة، فليس هينًا أن تحادثها كفتاة سيئة، فاسدة وهي كل ما فعلته أنها فرت من جحيم كاد ينهيها، أحست بغصة تخنقها فارتفع صوتها في احتجاج:
"وما دخلك أنتِ بيّ؟!"
هتفت بهدوء وهي تنظر بعينيها عمدًا:
"أخاكِ من جاء لهنا وتوسلني لأوصله إليكِ، وأنا وعدته أنني سأفعل إذا قابلتكِ، لكن من سوء حظك أنكِ أتيتِ ليّ دون أن أفكر للحظة بالبحث عنكِ"
تجمدت أطرافها وكأن أحدهم سكب فوقها دلوًا من الماء البارد، شحبت بشرتها، وتسارعت أنفاسها في خوف احتل نبرتها وهي تتساءل:
"أتقصدين أنكِ ستخبرينه عن طريقي؟!"
أمسكت هاتفها لتتلاعب به وهي ترمقها بنظرة تهديد:
"يمكنني فعل هذا بلمسة واحدة، لكنني سأصمت إذا قمتِ بمساعدتي"
سألتها بحنق:
"أي مساعدة تلك التي تريدينها؟!"
نهضت لتنحني بجذعها، مسندة كفها إلى ظهر مقعدها، مقتحمة عينيها بنظراتها الحادة:
"إهدئي جنة، أنتِ اخترتِ البعد عن كنف أخيكِ، فانضجي قليلاً وتعلمي أنكِ لن تأخذي شيء دون أن تعطي، حتى إذا كان ما أخذتيه مجرد صمت يساوي حريتكِ"
غرزت أظافرها بكفها كعادتها عند الخوف والغضب، وتساءلت في نفاذ صبر وصدرها يعلو ويهبط في انفعال:
"وما المقابل؟!"
استقامت بجسدها وهي تقول:
"المقابل بسيط جدًا"
تنهدت مسترسلة:
"أنا ابتليت بزوج يعشق الفشل، يركض خلفه دون ملل، أهدرعمره في ذلك المكتب وهو لا يجني منه إلا الفتات، ولقد حاولت اقناعه بتركه أو إلغاء الشراكة بينه ومعتز ورفض جميع الحلول، لذا أريدكِ أن تخبريني بكل ما يحدث بالمكتب وتقتربي منهما بقدر الإمكان حتى يمنحاكِ الثقة ووقتها سنفكر كيف نفرق بينهم وننهي تلك الشراكة"
خيمت الصدمة على ملامحها، لا تصدق أنها تدفعها لمراقبة وإيذاء زوجها!، كيف تجاهد لزرع الحزن بداخله؟!، أهكذا يكون جزاء حبه لها؟!، نهضت وهي متسعة العينين متسائلة في غضب:
"كيف تخططين لإيذاء زوجكِ؟!، هو لم يفعل شيء يستحق هذا الغدر"
جحظت عيناها في غضب، واحتدت نبرتها قائلة بتهديد:
"هذا ليس من شأنكِ، نفذي ما طلبته فقط وإلا.."
القلب العاشق يجهل الأذى والخيانة، مهما كانت العواقب، عذابها مع سهيل أهون عليها من أن تتسبب بإيلامه، تساءلت بحدة:
"وإلا ماذا؟!، ستخبرين أخي أليس كذلك؟!"
أومأت برأسها ببطء مدروس لتنفجر الأخرى صارخة:
"افعلي ما تريدين يا أميرة لكنني لن أخون من ساعدني"
غادرت المنزل صافقة الباب خلفها، بينما كان هناك من يراقبها وهو يشتعل غضبًا، منذ أن سمعها تصرخ بزوجته قائلة"كيف تخططين لإيذاء زوجكِ"وهو يقف أمام شقته يهم بفتحها، فتصلبت يده ووقف واستمع لباقي الحوار وما أن أحس بمن يفتح الباب حتى صعد السلم والصدمة تجتاحه، زوجته تعرض على امرأة أخرى إيذائه!، كيف تفعل ولماذا؟!، إذا كان أخبره أحدهم لكان أقسم أنه كاذبًا، لكن صوتها الآن اخترق أذنيه، واتضحت الحقيقة أمام عينيه، دلف لشقته ليجدها جالسة على أحد المقاعد مطرقة الرأس، مسندة مرفقيها إلى ركبتيها، ورفعت رأسها إليه بعد لحظات من دخوله، ثم نهضت لتسأله في حيرة:
"لماذا جئت قبل موعدك؟!"
دنا منها ليهتف بنبرة هادئة لكن قاسية:
"مخطئة، لقد وصلت بموعدي بالضبط، لتنقشع الغشاوة عن عيني"
لماذا نظراته حادة ونبرته قاسية هكذا؟!، ولمَ أتى باكرًا من العمل؟!، تغيرت ملامحها قليلاً وهي تسأله بثبات رغم القلق المستعر بنفسها:
"ماذا تقصد بهذا الهراء؟!"
نظر بعينيها هنيهة، أهاتين العينين اللتان ذاب بعشقهما لسنوات؟!، كيف لم يبصر هذا المكر الذي يفعمهما؟!، أهي من أجادت التمثيل أم العشق أعمى بصيرته؟!، تسأل بضياع بعد تلك الأفكار:
"أهذا هراءً؟!، إذًا ماذا عن حديثكِ اللطيف الذي دعوتِ جنة لأجله؟!"
اضطربت نبضاتها، وألجمت المفاجأة لسانها، كيف علم بما دار بينها وجنة؟!، أيمكن أن تكون أخبرته؟!، حاولت استعادة ثباتها وتجميع كلماتها لكن ما أن فتحت فمها حتى قال بصوت مرتفع يقطر ألمًا:
"إياكِ والكذب، أنا سمعت كل شيء، سمعتِك وأنتِ تحريضها على إيذائي وتصري عليها بكل وقاحة وجبروت"
سمعها!، يا للكارثة!، سرعان ما سيطرت على توترها، هتفت مبررة:
"ريان أنت لم تفهم، أنا لم اقصد إيذائك كل ما رغبته أن يكون لك مكتب مستقل ونتخلص من معتز هذا ولجأت لجنة لأنك تجاهلت رغبتي"
أتظنه صبيًا حتى تحاول إجباره على ما تريد؟!، هل صمته على أفعالها السبب في تجاوزها أم ثقتها في عشقه؟!، لكن أي عشق هذا الذي يصمد أمام الغدر والمؤامرات؟!، تصاعدت الدماء لرأسه، وصرخ غاضبًا مع ظهور عروقه:
"وإذا تجاهلتها تحاولين اجباري!، وبتلك الطريقة المهينة!"
واجهته بثبات ونظرات صارمة، قائلة في حدة:
"لأن رأيي هو الصواب، أنت ضائع في عالمك، تهدر وقتك في هذا السخف المسمى الرسم"
رفعت سبابتها مسترسلة بغيظ:
"وتقف في مكانك لا تتقدم خطوة واحدة"
هو لم يخجل من هوسه بالرسم يومًا، ولن يزلزل أحد ثوابته، لكن كلماتها الساخرة كانت كخناجر سامة اخترقت صميم قلبه لتدميه، أهذه هي من منحها حبه وثقته ووضع قلبه بين يديها؟!، وأقسم أنها ستبقى ملكة متوجة على عرش قلبه إلى آخر رمق؟!، لا ليست هي من تستحق عشقه وتضحيته، حبه لها لم يكن إلا سقمًا زرعه بروحه حتى ذبلت، أظلمت ملامحه وهو يسألها باستنكار:
"وإذا كان عالمي يغضبك لهذا القدر فلمَ قبلتِ بالزواج مني؟!"
لم تكن كبقية الفتيات اللاتي يبحثن عن رجل وسيم يسقطن بعشقه منذ النظرة الأولى، هي كانت تبحث عن رجل طموح يحقق أمانيها ويضع عمره كله أسفل قدميها حتى ينال رضاها، وتتفاخر بعشقه لها أمام الجميع، وعندما قابلته ظنت أنه هو فارس أحلامها، لكنه خيب آمالها بعد زواجهم، قالت بجرأة وهي عاقدة ذراعيها أمام صدرها:
"رأيتك شاب طموح ومكافح وظننتك تستطيع إسعادي، لكنك خيبت ظني منذ تركك للشركة، وبدأت معك سلسلة من خيبة الآمل لم تنته حتى هذه اللحظة"
صدمة، صدمة اعتلت ملامحه، عيناه متسعتان على محجريهما، وأنفاسه توقفت للحظة، اثنتين ربما لم يشعر بهذا إلا حينما نفذ الهواء من رئتيه، أكان بالنسبة إليها مجرد رجل يحقق آمالها؟!، ومشاعره لا تعنيها في شيء؟!، كيف أوصل نفسه لهنا؟!، كيف أحبها لهذا القدر دون أن يستشف قبح نفسها؟!.
"أنا أهنت كرامتي بتلك العلاقة، لكنني فقت اليوم من غفلتي"
قالها بحزم ثم لاذ بالصمت للحظات يذكر أول لقاء بينهم، وشغفه بها، وضحكاتها التي تزلزل قلبه، وهمساتها بين ذراعيه، وغدرها، كور قبضته في عنف حتى ابيضت سلامياته، اختلج قلبه بين أضلعه بقسوة، ونقش الألم على كل إنش بوجهه، تجمد لسانه لا يقوى على نطقها، يحجمه القلب ويدفعه العقل حتى انتصر الأخير، وقال:
"أنتِ طالق"
كلمة واحدة، أنهت صراعه وزادت من ألمه وحطمت كبريائها، لكنها كانت يجب أن تنطق منذ زمن.
************
كانت جالسة على مقعد بالشرفة، وظلام الليل يكتنفها، والحزن يقبض على عنقها بقبضة من حديد حتى يكاد يسلب روحها، لأجل كرامتها التي هدرت اليوم ولأجل ما يعيشه ريان، هو لا يستحق الغدر، كيف يمنحها ثقته وتأتي لتطعنه بظهره؟!، حتى الآن لا تفهم ما الذنب الذي اقترفه بحقها لينال هذا الأذى؟!، لكنها تثق أنه مظلوم وما فعلته أميرة نتج عن عجرفتها وقسوتها، لكن ماذا ستفعل معها هي؟!، هل ستنفذ تهديدها وتبلغ سهيل عن مكانها؟!، نعم يمكنها فعلها، لذا يجب أن تترك المكتب، أحست بغصة استحكمت حلقها عند خاطرها الآخير، نعم أحبت عملها وتشعر وكأن جزءً منها تعلق بهذا المكان، لكن منذ متى ونحن نختار مصائرنا؟!.
أوت إلى فراشها بعد عدة دقائق بنفس كسيرة وقلب محطم، وما أن أطبقت جفنيها حتى تسللت من بينهما عبرة آسرتها طويلاً حتى تحررت رغمًا عنها وتبعتها الكثيرات.
وعند إشراقة الشمس كانت تضع الهاتف على أذنها، حتى وصلها صوت معتز قائلاً:
"صباح الخير، أين أنتِ جنة؟!"
أجابت بنبرة ضعيفة:
"لن استطيع المجيء"
قال بغضب شديد:
"لا، لا يمكنكِ، يجب أن تأتي، أنا سأكون معظم اليوم بالخارج، وريان هاتفني بالمساء وصدمني بخبر سفره المفاجئ الذي لم أعرف سببه حتى الآن وأغلق هاتفه بعدها ولا أستطيع الوصول إليه، فماذا سنفعل؟!، أسنترك المكتب فارغًا؟!"
انقبض قلبها عندما أخبرها بسفره، واخذت الأسئلة تدور برأسها، هل علم بشيء؟!، هل تشاجر معها؟!، أم حدث له مكروه؟!، حدسها يخبرها أنه ليس بخير، اشتد انقباض قلبها، وتجمدت أوصالها وبين كل هذا قالتها بحزم:
"حسنًا معتز"
تبخر كل ما برأسها ولم يبق إلا هو وفقط.
************
شاردًا، ضائعًا، الحزن يتمايل على قسمات وجهه، والكأبة تعانق نفسه وهو يجلس أمام البحر، يتساءل في حسرة وصدمة، كيف بدد مشاعره في حب زائف؟!، كيف بقى في هذا العذاب لسنوات؟!، لماذا صبر ولمن؟!، لامرأة لم تحمل له بقلبها ذرة من العشق!، لكنها ليست مخطئة، هو من زرع عشقه في أرض بور، سلبت حبه وصبره وعمره ولم تمنحه سوى الألم.
وقف فوق الرمال الصفراء، لبث يتأمل زرقة البحر وسحره، النيران تضطرم بقلبه وعقله وهو يجذبه إليه ليبثه همومه، استنشق رائحته الخلابة لتملأ رئتيه، استجاب لندائه وهو بكامل ملابسه لعله يخمد نيرانه، بعد مرور عدة دقائق كان يسير على الشاطئ بملابسه المبللة، وبدأ يفك ازرار قميصه حتى خلعه، ليصفع الهواء صدره العاري، الذي أخذ يرتفع ويهبط في عنف، حتى دلف إلى الشاليه الخاص بأسرته بقدمين مغمورتين بحبات الرمال، ثم تناول علبة السجائر ليضع منها واحدة بين شفتيه ويشعلها ثم يرتمي على مقعد خشبي، هذا المخبأ الذي أختاره حتى يستعيد نفسه ويتخلص من صدمته بعيدًا عن الجميع، أختارها دون الرجوع لأحد وسيداوي جراحه بمفرده أيضًا.
وبعد مرور عدة أيام فتح هاتفه ليحادث أمه ويطمئنها عليه، وقبل أن يعاود إغلاقه صدح بالرنين، ليقرأ اسم والدها على الشاشة، سيطر التردد عليه للحظات قبل أن يجيب قائلاً:
"نعم عمي"
سأله بنبرة منفعلة بعض الشيء:
"أين أنت ريان، أحاول الإتصال بك منذ عدة أيام لكن هاتفك مغلق دائمًا"
"أعتذر"
قالها بنبرة هادئة ليقول الأخر بضيق:
"أنا غاضب منك، كيف ترتكب كارثة كتلك دون الرجوع ليّ؟!"
مسح ريان وجهه ثم أجاب بصوت مختنق:
"ابنتك لم تترك ليّ خيار أخر"
"لا بأس، تعال لنصلح ما حدث"
تنهد بقوة محاولاً السيطرة على غضبه حتى لا يزعجه دون قصد، وقال برزانة:
"يا عمي أنا.."
قاطعه بحزم :
"أميرة حامل ريان، وأظن أن لا هناك حديث يقال بعد هذا"
اتسعت عيناه في صدمة، حامل!، خفق قلبه في قوة وهو يتساءل في لهفة:
"كيف علمت يا عمي، كيف؟، هل أخبرتك؟؟!"
"بالطبع لن تخبرني وهي في تلك الحالة السيئة،لاأنا وجدت التحاليل بغرفتها"
تسلل بعض القلق إليه من إجابته، لماذا لم تخبر والدها؟!، ما هي نواياها؟!، انتشله الأخر من شروده قائلاً:
"هي ببيت صديقتها مها منذ الأمس وستأتي غدًا، سأنتظر قدومك حتى تتصالحا وتردها إلى عصمتك يا ابني"
صمت قليلاً ثم قال:
"سآتي بالتأكيد"
أنهي المكالمة ولبث شاخصًا البصر إلى نقطة وهمية، كلمة، أحترق شوقًا لسماعها، وحينما اقتحمت أذناه كانت بمثابة صدمة له، عجبًا لتلك الحياة، منحته أغلى الآماني بعدما احترق أخر خيط بينه وزوجته، لكن كل ما يهمه الآن إبنه، هو لا يعنيها في شيء لكنه يعني له العالم كله، سيطلب منها أن تسمح له بتربيته، لا يمكنه تركه لامرأة أنانية مثلها، شقت الابتسامة طريقها إلى شفتيه حينما اجتاحه إحساس غريب بالشوق نحوه، نعم شوق للحظة سيحتوي فيها قطعة منه بين يديه، لسماع كلمة "أبي" من بين شفتيه الصغيرتين، كيف سيكون شعوره وقتها؟!، هل سيبقى لديه عقلاً بعد سعادته به؟!، هو سيجن الآن لمجرد التفكير، هو من سيعوضه عن كل ما عاشه من ألم، من سينير دربه ويروي ظمأه ويشرق أيامه القادمة.
..
كان يجلس على أحد المقاعد بغرفة الصالون ينتظر مجيئها بوجه جامد ومشاعر باردة، حتى دلفت للغرفة بملامح مُنهكه، شاحبة، وجرت قدماها بخطوات متلكئة لتجلس بهدوء على مقعد مقابل له، حاجبة عينيها بكفها المستندة على جبهتها، وظهرت الدهشة على وجه الآخر، أهذه هي أميرة التي تسير بكبرياء رافعة أنفها بكل شموخ وهي ترمق الجميع بتعالي؟!، بينما سألته هي بنبرة ضعيفة:
"ماذا تريد ريان؟!"
شعر بالشفقة نحوها رغمًا عنه، فهو لم يرها بتلك الحالة المزرية من قبل، مهما واجهت من صعاب تبقى صامدة، قوية، فماذا حدث لها لتصبح بهذا الإنكسار؟!، تجرأ وسألها:
"ماذا بكِ؟!"
رفعت كفها لترمقه بعينين يملأهما الإنهاك، بالكاد تفتحهما، متسائلة بحدة رغم ضعف صوتها:
"ماذا أنت؟، أنت من طلبت رؤيتي ولست أنا، فأخبرني ماذا تريد إذا سمحت"
تبدلت ملامحه من الشفقة للتجهم، وقال دون أي مقدمات:
"أريد ابني"
هل ما سمعته صحيح أم أنها تتوهم؟!، كيف علم بهذا الأمر وهي لم تخبر أحد سوى صديقتها؟!، تسارعت نبضاتها في انفعال، تفاقم وجعها، كورت قبضتها فوق ساقها وتساءلت بتعجب من وسط أنفاسها المتسارعة:
"ابنك!، أي ابن هذا؟!"
تكذب وتراوغ من جديد، أتظن أنه سيترك ابنه لها؟!، ستكون في قمة الحماقة إذا فعلت ووقفت بوجهه، نهض والغضب يحتل ملامحه ليرتفع صوته في انفعال:
"لا داعي للكذب، فوالدكِ أخبرني أنه قرأ تحاليل الحمل خاصتكِ"
أطبقت جفنيها للحظات تحاول استيعاب ما قاله، فهي فضحت وعلم بحملها، أحست الهواء ينسحب من رئتيها بينما استرسل هو محذرًا رافعًا سبابته وعروقه النافرة تظهر بوضوح:
"لا تأملي أن تحرميني من ابني، هو كل ما ليّ الآن وسأحاربكِ حتى أأخذه منكِ ويعيش في كنفي، أفهمتِ؟"
"انتهى، تخلصت منه"
قالتها بنفاذ صبر ووجه ازداد شحوبًا وألم ينهش جسدها حتى لم يعد محتمل، سيطرت الصدمة على كل إنش بوجهه، انتفض قلبه بصدره، وصدى تلك الكلمة يتردد بأذنيه بلا رحمة، ودنا منها، قبض على ذراعيها ساحقًا عظامها بأنامله لتنهض رغمًا عنها وهي تتأوه وجعًا، تحاول التملص من حصار قبضتيه، والفرار من عينين تقدحين شررًا ونبرة غريبة أمرها بها:
"أعيدي ما قلتيه"
"هذا الحمل حدث بالخطأ لذا ذهبت إلى الطبيب وتخلصت منه"
قالتها بجرأة ليتمزق قلبه إلى أشلاء، أقتلت إبنه؟!، كيف استطاعت فعلها؟!، كيف تقتل قطعة منه ومنها؟!، لا، لا يصدق إنها فعلتها، حرك رأسه رفضًا بعينين جاحظتين وهو يصرخ بها دون وعي:
"كاذبة، كاذبة، لم تقتليه"
خفتت نبرته وهو يرجوها بعينيه قبل شفتيه:
"قولي أنكِ كاذبة، قولي أنه مازال ينمو بأحشائك، أنني سأحمله بين يدي بعد عدة أشهر، قولي أنني سأصبح أبًا، قولي"
صرخ بكلمته الأخيرة وهو يهز جسدها بعنف لتصرخ من هول الألم، ثم قالت وصدرها يعلو ويهبط بقوة:
"أنت طلقتني وانتهينا فليس من شأنك أن أحتفظ بالطفل أم لا، هذا الشيء يعنيني وحدي"
هتف بشراسة ونبضاته المتسارعة تكاد تصم أذنيه:
"لا يعنيكِ من الأساس، أنتِ لم تحلمي به كل ليلة مثلي، ولم يحرق الألم قلبك من شوقكِ لرؤيته، ولم تتخيلي ملامحه يومًا، ولم تبني على حضوره عمركِ القادم"
قال جملته الأخيرة بنبرة تمزق نياط القلوب، لكنها لم تتأثر وقالت بجمود:
"انتهينا قلت لك تخلصت منه"
"قتلتيه!"
قالها بضياع وعينين حمراوتين لتزيد من جنونه بقولها:
"إذا كان هذا المسمى الأفضل لك، فأنا قتلته"
نيران!!، نيران تلظت بقلبه، فهذه المجرمة قتلت صغيره الذي تاق لرؤياه لسنوات، سلبت أمله، نهشت المتبقي من روحه، أحس بألم يتملك من كل جارحة به، لكن ليس ألمه هو بل ألم هذا الصغير الذي لم يرج شيئًا سوى المجيء للحياة، لكنها إغتصبت حقه، وعذبته حتى مات، احمر وجهه بشدة، قبض على خصلاتها بأنامله قائلاً في شراسة مشوبة بالألم:
"أنتِ سمحتِ لذلك المجرم بقتل صغيري ولم يكن مذنبًا، لكنكِ مذنبة وتستحقين القتل"
شهقت في صدمة من فعله وصرخت متألمة:
"اتركني"
سألها في حقد وهو يشدد من جذبه لخصلاتها بقدر عذابه ليستشرى وجعها:
"هل تتألمين حقًا؟؟!، أألمك أقوى أم ألم ابني؟!، تكلمي"
دلف والدها حينما وصل صراخهما إلى حديقة المنزل حيثما كان يجلس، وصعقه مشهد ابنته وهي تتوجع بين يدي ريان، ركض نحوهما ليدفعه بعنف مطوقًا ابنته بذراعيه:
"أجننت أم ماذا؟؟!"
أومأ ريان برأسه والعرق يظهر على جبينه قائلاً وهو يشير إليها:
"نعم جننت عندما تزوجت هذه القاتلة"
اتسعت عيني والدها وهو ينقل نظره بينهما ليجيب ريان على سؤال لم تنطقه شفتاه بنبرة متحشرجة حملت كل معاني الوجع:
"ابنتك قتلت ابني"
ثم رحل بعينين مغمورتين بعبرات الألم وقلب كسير، ونظرت أميرة لوالدها بوجه شاحب، يتصبب عرقًا وشفتان زرقوان مرتعشتان، لينقبض قلب الآخر، وتسقط مغشية عليها.
*************
دلفت للمكتب بالصباح وهي تنظر لغرفته بضيق يستحكم قلبها، تنهدت بقوة وهي تدلف للمطبخ لتعد فنجان من القهوة، ووقفت شاردة، واجمة، القلق ينهش روحها منذ رحيله، تتمنى لو يخبرها أحدهم أنه في أفضل حال ليُخمد النيران المستعرة بنفسها، غادرت المطبخ، ووضعت فنجانها على سطح مكتبها وقبل أن تجلس خلفه اتسعت عيناها وهي تجده يخرج من غرفة مكتبه بعينين يملأهما النعاس، لتشهق في فزع وهي تهمس بدهشة:
"ريان!"
رفع كفيه أمامه قائلاً:
"ششش، إهدئي"
سألته بحيرة:
"متى جئت؟!"
صمت قليلاً يتذكرعجزه عن البقاء بمنزله بالأمس بسبب ذكرياته القاسية التي هاجمته بعنف، وهروبه للمكتب.
أجابها بضيق يظهر جليًا على وجهه:
"أتيت مساء الأمس وكنت أنهي بعض التصاميم واضطررت للبقاء هنا"
نبض قلبها بقوة وهي ترنو إليه بلهفة، شوق، صبابة، وكل ما قيل بمعاني الحب، وتتساءل بحيرة، لمَ الحزن يتدفق من عينيه؟!، ولماذا التعب يغطي ملامحه؟!، ما الذي حدث إليه بالآونة الأخيرة؟!، شعرت بغصة تخنقها رغم سرورها بعودته، وتساءلت بعفوية وهي تنظر بعينيه:
"أين كنت؟، لقد أقلق.."
بترت جملتها وهي تلعن غبائها، ازدردت ريقها بتوتر لتسترسل:
"أقلقت معتز"
لم ينتبه لخطئها، وأجاب بنبرة مُنهكة:
"كان لدي بعض المشاكل، لكن انتهت"
أي مشاكل تلك التي تجعله يختفي هكذا دون مقدمات؟!، هل يمكن أن تكون بينه وأميرة، غلبها فضولها لتتساءل:
"كيف حال أميرة؟"
غامت عيناه عند سؤالها، ران السكون للحظات، حتى قال بصوت مختنق:
"أنا سمعت حديثكم جنة، سمعتها وهي تحرضكِ على ايذائي"
فغرت فاها في ذهول، خيمت الصدمة على ملامحها، تسارعت أنفاسها حينما التقت الأعين، عيني ريان تضج ألمًا وعيني جنة تشفق وتواسي، حتى انطلقت شفتي الأخيرة بالحديث:
"ريان..ااا"
هتف ريان برزانة:
"لا تبحثي عن كلماتكِ جنة، الموقف غاية في السوء، لا داعي لأن تبرري ذنب لم تقترفيه"
لا تحاول التبرير من أجلها، بل من أجل انهزامه وأوجاعه، لأنها تثق بعشقه لها وهوسه بها، وتعلم أن فراقها يعني دماره وهذا ما لا تحتمله، هي اعتادت على عذابها في عشقها الصامت، كل ما يهمها أن الحزن لا يلامس قلبه، تنهدت بقوة متسائلة:
"لماذا لا ننظر للأمر من زاوية أخرى؟!"
"جميع الزوايا أوصلتني لنفس النهاية"
قالها بحدة لتشهق جنة في صدمة:
"نهاية!"
"نعم، أنا طلقت أميرة"
هاجمتها الكثير من المشاعر المختلفة، صدمة، خوف، قلق، وضيق أيضًا، ضائعة بين حزنها على ألمه وحبها له، وانتصر شعورها الأول، لتتجاهل احتراق قلبها وتتساءل بانفعال:
"لماذا يا ريان؟، أنت تحبها وهي ت"
قاطعها بصلابة:
"لا تكملي، فالصورة اتضحت أمامي كاملة"
دلف لمكتبه ليرتمي على الأريكة الجلدية، يمسد جبهته والألم ينتهك روحه قبل جسده، ودخلت خلفه لتقف أمامه قائلة في إصرار:
"لا تظلمها، هي كل ما أرادته أن تتقدم في عملك، لكنها فشلت في توصيل فكرتها..و"
تبخر صبره وقال في إنهاك:
"كفى"
التزمت الصمت ثم استرسل متسائلاً وهو ينظر إليها:
"تعلمين ماذا أريد الآن بالضبط؟"
رفعت كتفيها بجهل ليردف ببساطة:
"قهوة"
"قهوة!!"
قالتها وهي عاقدة حاجبيها في دهشة ليقول مفسرًا:
"نعم، أريد القهوة، ما الغريب في هذا؟"
هو يريد الهرب من النقاش، لذا احتل الضيق ملامحها وهي تقول:
"حسنًا"
وبعد قليل كانت تضع فنجانه على منضدة صغيرة أمامه، ما أن استقامت حتى قال:
"وأريد شيء آخر"
"وما هو؟"
سألته بمزيج من الضيق والحيرة ليجيب بهدوء:
"أن لا نتحدث عنها ثانية"
استطرد في ألم يغمر مقلتيه ليخترق روحها على الفور:
"أنا لم أظلمها ابدًا، أميرة أخذت كل ما بقلبي من عشق، وما بنفسي من تحمل وصبر، هذا يعني أنها حصلت على فرصتها للنهاية، فلا داعي للمبررات، خاصة بعد ما اقترفته بحقكِ"
عادت تهتف في عناد:
"لا أنكر غضبي وخوفي من تهديدها، لكن هذا لا دخل له بما بينكم"
نهض بغتة ليقول مُصححًا في حدة:
"بما كان بيننا، كان يا جنة"
مرر أنامله بخصلاته السوداء الناعمة، لبث ينظر إليها للحظات، زاد احترامه لها بعدما رفضت عرض أميرة رغم خطورة وضعها، وسيفعل كل ما يستطيع ليحميها من شرها ويعيدها لأخيها دون أن تتأذى.
هتف مطمئًا:
"إنسي هذا الأمر، ولا تكترثي لتهديدها، أنا معكِ"
كلمته الأخيرة اخترقت قلبها لتغمره بسكينة لم تزره من قبل، لكن سرعان ما اندثر وحل الخوف بدلاً منه حينما استطرد:
"وسأتحدث إلى سهيل قريبًا دون أخباره بوجودكِ هنا بالطبع"
"لا، أرجوك لا تفعل"
صرخت بها في رجاء وهلع، ليقول ريان بنبرة هادئة:
"اطمئني لن تعودي إليه قبل أن أثق أنه لن يؤذيكِ"
حركت رأسها رفضًا بذعر استحوذ على ملامحها:
"إذا عثر عليّ سيقتلني ريان"
انسابت دمعة على وجنتها ليتنهد ريان بقوة قائلاً:
"إهدئي، أخبرتك أنني لن أخطو أي خطوة دون موافقتكِ، سأؤجل هذا الأمر حتى تقتنعين، هيا أمسحي دموعكِ"
ابتسمت من بين دموعها ثم مسحتها على الفور، لتهدأ نفسها، ويعود الأمان يغمر وجدانها.
..
"هل يمكن أن يكون الفراق هو الدواء؟!، النفس الذي ينعش قلب توقفت نبضاته؟!، وكأن هذا العشق لم يكن إلا سم يسرى بالوريد"
همس بتلك الكلمات لنفسه في تعجب، مر شهر على فراقها، وهو يشعر أن جرحه يتداوى مع مرور الأيام، وأن ألم الفراق لا يضاهي ما عاشه معها، كانت كمرض خبيث ينهش روحه بتأني وصبر، تنهيدة قوية تحررت من أعماقه وهو يدخل للمكتب، وتجمدت قدماه حينما صدمه صوتها العذب وهي تدندن بإحدى الأغاني، جالسة خلف مكتبها ترسم بتركيز وكأنها تحلق في عالمها الخاص.

أحبك في صمتي(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن