نوفيلا "نوتفكيشن"
الفصل الثاني عشر والأخير
دخل زيدان من باب فيلا "الشريف" الموجودة في أرقى مناطق محافظة القاهرة أو ربما قصرً هو غير متأكد، لكن بالطبع فهنا يستقر عُلِّيَّة القوم وصفوتهم ولولا ذلك الشعور الصلب في معدته وكأنه ابتلع حجرًا لوقف منبهرًا بتلك المناظر الخلابة فقد بدا وكأنه انتقل إلى مكان خارج حدود مصر.
كانت أصابع يده يسيطر عليها الصقيع بسبب أنامل تلك الصغيرة الشبة متجمدة داخل كفه الكبير، سارت "ميرا" إلى جواره في خطوات مرتعشة وكأنها تحتمي به من القادم.
تحرك جسده للأمام خطوة قاطعًا شروده في حالتها عندما قام الأصلع بدفعه نحو الردهة، فحدقه "زيدان" بنظرات قاتلة وكاد يلتفت ويلكمه على وجهه حتى لا يتجرأ على لمسه مجددًا، لكنه انتبه في اللحظة التالية إلى وجود رجل بملامح عابسة متوسط القامة مكتنز قليلًا يتوسط الردهة.
ومن تصلب جسد ميرا جواره يستطيع القول بأن هذا الرجل هو والدها!
جذب شهيقًا عميقًا كي يستعد للمواجهة الكبرى، فتلك الشرارة المتقاذفة من عينيه الجاحظة لا تبشر بالخير.
دون تفكير توجه "شريف" نحو ابنته المتعلقة في صفاقه بذراع "المتسكع" الحقير جوارها، ووقف أمامها يرمقها بنظرات تعكس خيبة الأمل فيها قبل أن يصفع وجهها.
كاد ينقض "زيدان" عليه في غضب لولا كف "ميرا" الصغير الذي أوقفه في مكانه.
-مبسوطة بالطين اللي حطتينا فيه!
-بابا أنت فاهم غلط.
أسرعت تخبره في تلعثم متجاهله آلم وجهها الذي يخرج نارًا فآلم النفس كان أقوى، لكنه قاطعها مبتسمًا في ابتسامه مقززة معلنًا:
-لا ما تخافيش "رامي" صاحبك الغالي قالي كل حاجة وحكى على عملتك السودة مع الكلب ده،
بتتجوزي عرفي يا ميرا؟
عايزة تفضحيني وتدمريني بعد تعبي للسنين طويلة عشان أوصل لمكاني، وقدام مين قدام رامي وأبوه الجيار اللي بيدور على خرم إبره يدمرني بيه!
هربت عبراتها الحارة دون توقف، تشعر بنفسها تعود طفلة صغيرة يملئها الضعف غير قادرة على اللحاق بهذا الصوت الصادح داخلها والذي يحثها على الحديث والمدافعة عن نفسها وتفجير كل المشاعر السلبية المكتومة داخل قلبها.
أما "زيدان" فوقف مذهولًا من منحنيات تفكير هذا الرجل متحجر القلب والذي يجب حرمانه من لقب الأب، فمنذ وقفا بين يديه وهو لا ينفك عن الإشارة إلي الاضرار الواقعة عليه متناسيًا الصورة الأكبر والأضرار الأهم التي تمسها هي كأبنته.
استمر "شريف" في نوبة الخذلان وهو يغرس أصابعه في أعلى ذراعها يهزها في عنف:
-هي دي تربية أمك ليكي، ولا التربية مكنش ليها مكان في وقتها اللي بتقضيه كله في الشغل والسفر وسيباكي كده على حل شعرك.
أشعلت كلماته الساخرة من والدتها حفيظتها وفجرت غضب كاسح أحرق صدرها، فطفحت نيرانه على لسانها رغم ارتعاش فمها والطنين في أذنها:
-ما بلاش ترمي باللوم على ماما في تربيتي وأنت كنت فين؟
قول وفهمني طول العمر ده مخلي للظروف هي اللي تربيني ودلوقتي جاي تلومني على التربية!
لاحظت كيف تحرك رجال والدها إلى آخر الغرفة وكأنهم شعروا بالكلل لما يدور أمامهم، ثار والدها هاتفًا:
-اخرسي أنتي ليكي عين تتكلمي، مش كفاية عملتك الهباب مع الهلفوت ده!
أشار نحو "زيدان" الذي كان يضغط على قبضتيه يقف عاجزًا ويمنع نفسه من التهور في التعامل مع هذا الشخص الكامن أمامه فهو للأسف لا يزال حاملًا للقب والدها.
لكنه لم يتحمل عدم التدخل أكثر وهو يراه يذويها عن قصد محاولًا ترهيبها حتى تعود لضعفها وسكوتها خاصة عندما جذب خصلات شعرها صارخًا:
-ده أنا عايز أشرب من دمك قبل دمه!
تدخل "زيدان" في هذه المرحلة بان دفع والدها مجبرًا إياه على التراجع خطوة ليترك شعرها وقبل أن يصرخ اعتراضه كانت "ميرا" تهجم كالمحارب المقدام واضعه جسدها بينه وبين والدته، تفجر قنبلة أوقفت عقله عن العمل لبضع ثوان:
-لو زيدان حصله أي حاجة الصبح الورقتين العرفي هيكونوا لفوا على الإعلام المصري كله!
كان صوتها يتحلى بالعزيمة والثقة وكأنها لم تكن غارقة في البكاء لتوها، اتسعت أعين والدها في صدمة قبل أن يعتصر ذراعيها بين كفيه متسائلًا في ذهول:
-تقصدي أيه !
-أقصد أن زيدان أو أنا لو جرالنا حاجة صاحبنا هيوصل الورقتين للصحافة وأنت راجل مش بتاع شوشرة ومش عايز تهز منصبك ولا أيه؟
-اه يا بنت ال....
رفع كفه يصفعها إلا أن "زيدان" تدخل ممسكًا كفه قبل أن يلمسها ثم جذبها خلفه في دفاعيه، وقد فهم لعبتها ثم أردف مهددًا من بين أسنانه:
-ما قالتلك لو حصلها حاجة الدنيا هتخرب، أنا عديت أول قلم عشان حقك، لكن التاني مش هقبله على مراتي.
دوت ضحكات "شريف" المستهجنة والساخرة المكان قبل ان ينكمش وجهه في اشمئزاز يرمقه من أسفله إلى أعلاه باصقًا سخريته:
-لا راجل أوي ياااض،
اومال لو مش واحد حقير داير على حته عيله صغيرة ومتجوزها عرفي من ورا أهلها كنت عملت أيه!
عاد للخلف على مهل وعيناه الثعلبية تطالع "ميرا" باستخفاف مشيرًا بأصبعه نحو "زيدان" متهكمًا:
-اوعي تكوني مصدقه جو البطولة اللي هو بيعمله ده، ده واحد طمع في فلوسك وفي أبوكي يا غبية!
-صدقني لولا ميرا تبقى بنتك ما كنت اتمنى أشوفك حتى!
صفق "شريف" مرتين وهو يلوي شفتيه للأسفل في سخرية جليه ثم قال في قساوة:
-انت مكنتش تتمنى تشوفني في أحلامك لولا بنتي اللي رخصت نفسها وسلمتها لواحد خسيس زيك،
هو لو فيه ذرة شرف وحس انك غالية كان على الأقل طلبك مني ودخل البيت من بابه!
وجه نهاية كلماته السامة إلى "ميرا" الصامتة ولكن الإجابة جاءته من خلفهما:
-خسيس؟
مش ملاحظ أن الكلمة دي كبيرة شوية انها تطلع منك!
يا سيدي يمكن لو لقى باب الأول أو رقيب يطلبها منه كان طلبها، لكن هو لقاها زي اليتامى بتدور على سقف يحميها من الدنيا.
استدارت أعين الجميع نحو "أماني" التي وقف عند الباب المفتوح، والتي تنفست الصعداء وهي تتفحص ابنتها وزيدان تتأكد من عدم لحاق أي سوء بهما، ثم ثبتت أنظارها الحادة فوق زوجها السابق وحمدت الله ان ابنتها شغلت عقلها وفكرت في إرسال رسالة تخبرها بما حدث وبانهما في طريقهما مع الحيوانات الضالة التي أرسلها والدها لجرهما كالمجرمين!
-الحمد لله.
همست "ميرا" وهي تمسك بذراع "زيدان" وقد شعرت بالدماء تعود جسدها الضعيف، فهي واثقة من قدرة والدتها على حمايتهما، سعيدة بأنها امتلكت من العقل ما يكفي لمراسلتها وسعيدة ان والدتها تدارك الأمر سريعًا وأرسلت لها تحذرها انه في حاله الشعور بالخطر يجب عليها التمسك بكذبة زواجها السري وترهيب والدها بالفضائح التي قد تثيرها هذه الورقة، حتى تصل إليهما وتنقذهما من براثنه.
توجهت "أماني" للداخل تحت مرأهم، تحاول لجم ارتعاش جسدها الذي كان ينتفض منذ تحججت لوالد زيدان بضرورة ذهابها واصطحاب الولدين معها، وحمدت الله انها لم تستلم لضعفها وتنهار طالبه منه مرافقتها، فأخر ما ترغب به هو رؤيته للوجه الحقيقي لوالد ميرا.
وتابعت كيف رمقها شزرًا واحتقارًا كما اعتادت منه لسنوات عديدة عاشتها معها، لينعش ذاكرتها بالأسباب التي جعلتها تصر على الابتعاد عنه وعدم التواصل تحت أي ظرف من الظروف.
-أنتي كمان ليكي عين تقفي قدامي وتدافعي عنه، بعد ما أنتي وبنتك حطيتوا راسي في الوحل !
- أنت عمال تزعق وتوجه الاتهامات لينا ليه؟
الوحل ده يا شريف بيه، أنت اللي حطيتنا فيه من زمان أوي.
علا صوت "أماني" في حزم دون مهابه مصره على انهاء صفحة سوداء طال طيها كثيرًا دون تمزيق، لكن "شريف" عكس صراخها معلنًا في وقاحه:
-الله، ده انتوا متفقين عليا،
وانا اللي كنت فاهم حوار ان الجربوع ده قريبك صدفه، لكن لا واضح انكم طبخينها عشان توقعوني وتنتقمي مني!
انكمشت ملامح "أماني" في ذهول وعدم تصديق من جراءته العالية فقالت من بين أسنانها مستنكره:
-هتفضل طول عمرك عايش في نظرية المؤامرة وعايش عشان نفسك وبس!
-متحاوليش تجيبي تقصيرك وان بنتك بتلف على حل شعرها عليا!
هتف في وجهها وهو يشير نحو ميرا قاصدًا بها هذا التقصير، فاندفعت والدتها كقطة متوحشة تزمجر فيه:
-أنت تعرف أيه عن بنتي، ولا تعرف أيه عن اللي مرت بيه،
انت لازم تحمد ربك ألف مرة انها وقعت في أيد زيدان مش تبجح فيه!
-بجاحه هو لسه شاف مني بجاحه ده أنا عايز أشرب من دمه ودمها،
اسمع ياااض....
توجه مقتربًا من "زيدان" الذي وقف شامخًا في صمت أمام "ميرا" وكادت تخرج عيناه من مقلتيه حين أخبره "شريف":
-أنت هتتجوزها حالًا ورجلك فوق رقبتك!
-أنت اتجننت يا شريف!
صرخت "أماني" تحاول وقف هذا الجنون وحماية مصير الأثنان من قراراته الهوجاء، لكنه زجر في جنون كبير وجسده ينتفض من الغضب:
-ايوة اتجننت يا ست أماني، ما اللي ايده ف المايه مش زي اللي ايده في النار،
ومش هسمح أبدًا ان انتي وبنتك تغلطوا وأنا اللي ادفع التمن واخسر منصبي!
-منصبك هو ده اللي هامك؟
تمتمت "ميرا" في صوت مهتز ضعيف فحدقها والدها بنظراته الغاضبة باصقًا:
-أيه عايزه تلومي عليا؟
وانتي كنتي فكرتي فيا قبل ما تتجوزي عرفي عشان أفكر فيكي،
هاه قوليلي كام مرة قولت بلاش رامي واللي معاه وابعدي عن ابن الجيار لكن لا لازم تخالفي كلامي وتحطي رقبتي تحت سكينه ابوه من غير ما تفكري انه أول منافس ليا على الطريق واللي عايش حياته كلها عشان يوقعني وكل ده امتى قبل التعيينات الجديدة بأسبوع!
اندفعت "أماني" ترفع أصبعها في وجه منذرة في حده:
-أبعد عن بنتي ومستقبلها يا شريف، أنا مش هسمحلك تجبر حد منهم هما الاتنين على حاجة!
-أبعدي أنتي وسبيني أنقذ ما يمكن انقاذه يا أماني أحسنلك!
حذرها "شريف" في صوت غليظ مختنق من الغضب والقلق على "منصبه" بالتأكيد، فكر زيدان ساخرًا ثم قرر أن الوقت قد حان كي يتولى زمام الأمور:
-اسمحيلي يا طنط اقاطعك، بس الموضوع مش محتاج جدال أنا كده كده كنت هطلب ميرا للجواز،
مش لأن انت طلبت، لا لأني مش هقدر أنام مرتاح وأنا عارف ان ليك حكم عليها أكتر من كده!
-طيب يا شاطر، جلال ابعت هات مأذون!
-مأذون؟
تمتم "زيدان" بعدم فهم، ضحك والدها ضحكة جافه مزعجة وهو يخبره ساخرًا:
-لحقت تغير رأيك ده معداش عشر ثواني على خطاب الشهامة!
-أنت عايزني أتجوزها حالًا وأقول لأهلي أيه؟
-يتحرقوا أهلك.
قرص "زيدان" فوق أنفه كي لا يمطره بوابل من الشتائم احترامًا للسيدتين جواره لكنه استكمل متحديًا:
-مفكرتش شكل بنتك هيبقى أيه لو دخلت بيها على أهلنا وقولتلهم كتبنا الكتاب؟
على الأقل اديني أسبوع أمهد الموضوع ليهم.
-تمهد الموضوع ولا تخلع منه!
نظر زيدان نحو أماني وكأنه يتساءل مما هو مصنوع هذا الرجل، لكنه زفر يحاول إخراج شحناته السلبية قائلًا في هدوء:
-بص يا أستاذ شريف، اديني أسبوع .....
-الموضوع مفهوش نقاش، مش بعيد واحنا بنتكلم دلوقتي يكون الجيار وابنه مسربين الخبر،
أنا لازم أسبقهم وأعلن جوازكم مش هقعد استنى الفضيحة!
أصر والدها فوقف "زيدان" يحك رأسه بتفكير يحاول ايجاد منفذ لقلب هذا الرجل الفولاذي قبل أن تلمع عيناه بفكرة فنطق سريعًا في تحفز:
-طيب واللي يديك حاجة تخليك تحط رامي وابوه في جيبك؟
-ازاي مش فاهم.
-عندك كومبيوتر؟
لمعت عيناه في مكر مبتسمًا ابتسامته الواثقة وهو يرفع ذاكرة تخزين الكترونية صغيرة متدلاه من ميدالية مفاتيحه.
*****
في مكان آخر ليس بعيدًا عن مقر ال "شريف"، دخل "الجيار" والشرر يتطاير من عينيه إلى غرفة ابنه "رامي" البائس والغارق في النوم لاهيًا عن المصائب الذي أوقعه بها بأفعاله قبل أن يدفع جسده في عنف زاجرًا إياه حتى يستفيق:
-قوم يا بغل شوف المصيبة اللي وقعتنا فيها.
-في أيه، حصل أيه؟
سأل "رامي" وعقله الغافي يحاول استيعاب ما يخرج من فمه والده إلا أن الصفعة التي باغته بها والده أفاقته بشكل كامل فجلس مشدوهًا واضعًا كفه فوق وجهه الملسوع بينما يستكمل والده نوبة غضبه:
-أنت عملت أيه في شريف راضي وبنته؟
-أنا مش فاهم هو بيكلمك ويشتكي مني وسايب بنته اللي مرافقه واحد في السر عادي.
ضرب والده فوق رأسه مرتين يكاد ينفجر من شدة الغضب والخيبة لكنه رفع هاتفه مشغلًا مقطع مسجل صغير مثبتًا إياه أمام وجه أبنه، وراقب كيف شحب "رامي" وانسحبت الدماء من وجهه بشكل تراجيدي وهو يشاهد نفسه يتوسط الشاشة ويميل لاستنشاق بعض السموم البيضاء تلاها بجرعتين من زجاجة الخمر التي فارقت أصابعه فقط لتحتضنها شفتاه المرأة المحتلة أحضانه وتجلس في صفاقة بين ساقيه.
حانت منه نظره خاطفة نحو والده ذو الملامح الغائمة بعدم الرضا، لا يستطيع فتح فمه بكلمه أو التبرير يعلم مدى وقع تسريب فيديو كهذا وتأثيره على مكانة والده لكنه همس في صوت محشرج:
-وهنعمل أيه؟
-احكي انت حصل ايه بينك وبين بنت شريف؟
ارتبك "رامي" أمام والده فكيف يخبره انه سعى لضم ميرا تحت أجنحته كي يشبع رغبة داخليه صورت له ان امتلاكها سيزيده نشوة وسلطه وهي ابنه أكبر المنافسين أمام أبيه، إلا انه وجد نفسه يغرق وينساق وراء شهوة امتلاك براءتها المُجسدة لكل ما حُرم عليه.
وهذا هو سبب صبره عليها شهورًا طويلًا قبل أن يطلق عليها "ريناد" لتوسوس في عقلها ضرورة الارتباط وتجربة شعور الانتماء لرجل.
ضم شفتيه في غضب فقد جن جنونه وقتها حين علم انها كانت ترفض تلميحاته متعمدة فتلك الخبيثة مدعية البراءة انتهت بتفضيل شخص أخر وتسليمه مقاليد ما اشتهاه شهور كثيرة له، وحين فقد الأمل في الحصول عليها بعد تدخل زيدان وتهديداته التي فرقت جمع الأصدقاء وتركته وحيدًا، فقرر الانتقام منها بفضح أمرها أمام والدها الأحمق الذي قلب الطاولة عليه!
-انطق أنا معنديش وقت!
أردف متلعثمًا يحاول إخفاء توتره عن والده الذي قد يقتله في سبيل الحفاظ على منصبه:
-مفيش حاجة بنته متعوده تتجمع معانا وبعدين عرفنا انها اتجوزت واحد عرفي وأنا روحت نبهته!
-ولما أنت عارف انها بنته بتدخلها وسطكم ليه، اهي غفلتكم وصورتكم يا غبي!
أخفض رامي بصره يشعر بالغليان فالخداع كان بفعل "زيدان" الأحمق الذي دخل حياتهم وقلبها رأسًا على عقب في البداية سرق ميرا منه ثم اتبعها حادثة رائف وتفرق الأصدقاء كلًا إلى حياة بعيدة عن أحدهم الأخر.
أخرجه من مرارة مشاعره فجأة وهو يلقي ببضعة أوراق في وجه معلنًا:
-دي تذكرتك لأمريكا قدامك ساعتين زمن تلم فيهم اللي محتاجه وتطلع على المطار،
وإياك يا رامي شيطانك يوزك ترجع هنا قبل ما أشوف حل للمصيبة دي وأشوف شريف ناوي على أيه!
لملم رامي الأوراق عنه ثم قال:
-هعمل ايه هناك؟
-هتلاقي واحد مستنيك هناك هيظبطلك كل حاجه وخلال أسبوع هبعتلك أمك،
أتفضل أتحرك من مكانك.
خرج والده كالإعصار، تاركًا "رامي" ينظر نحو تذكرة الطيران في غموض ومشاعر كثير سلبية كبيسة بدأت تتراكم وتستقر فوق قلبه القاتم ربما هو يطالبه بالانتقام ولكن أين اوصله الانتقام الآن؟
ازدرد ريقه في صعوبة ربما عليه التروي في الأمر والتمهل في مخططاته أو ربما هو في حاجة أكبر للابتعاد عن الساحة وترتيب حياته بشكل حقيقي واعي كما فعل كل الأصدقاء.
وضع رأسه بين كفيه يتذوق قباحة حياته ووحدته المريرة لكنه تحرك بعد دقائق طويلة مرت عليه كالساعات حتى يلملم أذيال هزيمته مقررًا اتباع أوامر والده لعله يجد في الابتعاد الصحوة والنجاة.
*****
وبالعودة إلى داخل فيلا ال "شريف"، وبعد أن هدأ الوضع أغلق شريف هاتفه في قناعة محتفظًا بابتسامه صغيرة فوق فمه، فنظر إليه "زيدان" مقررًا قطع احتفاله الصغير بالنصر مردفًا:
-اعتقد كده مفيش خوف من الفضايح.
-لحد دلوقتي مفيش خوف، لحد ما التعلب يشغل دماغه من جديد.
-جميل وبكده أقدر أتفق مع حضرتك زي الناس الطبيعية وأطلب أن كتب الكتاب والفرح يبقوا في يوم واحد ... لكن بعد أسبوعين.
-احنا ما اتفقناش على أسبوعين!
انفعل "شريف" قائلًا بملامح متحجرة فاندفعت "أماني" تخبره في حسم:
-كفاية اعتراض وخلاص، أنا واثقة من قرارات زيدان،
ثم أن أسبوعين يعتبر أقل مده أقدر أجهز فيها البنت للجواز.
-وبعدين معاكي يا أماني، هو عناد معايا وخلاص.
-شريف ممكن لمرة واحدة تعترف بغلطك وان دي أقل حاجة ممكن نقدمها لبنتنا،
الفرح بعد أسبوعين يا زيدان احنا موافقين وبكده نقدر نمشي كلنا ونخلص من اللي بيحصل هنا!
نظرت إلى "ميرا" الناظرة للأسفل تحدق في الأرض وقد طال صمتها طويلًا دون أن تنتطق بحرفٍ واحد، إلا أن والدها تابع في صوته القاسي:
-أسمعني كويس، أنا مش واثق فيك ومش هثق فيك،
وأعمل حسابك في واحد من رجلتي هيفضل معاك لحد يوم الفرح!
فتحت والده "ميرا" فمها للصراخ في وجهه ولكن زيدان قرر التدخل محاولًا إنهاء حدة الوضع وتحجيم شكوك والدها المجنون اعتبارًا على إنها أقل خسائر قد يفعلها رجل تزوجته ابنته سرًا أو هكذا يعتقد، فتنهد قائلًا:
-وأنا موافق، مفيش مشكلة وهنيمه في أوضتي كمان على أساس إنه صاحبي اللي قرر يلازمني لحد يوم الفرح.
حدقت "أماني" ب " شريف" تغدقه بنظرات محتقره قبل أن تتجاهله موجهه حديثها لابنتها الصامتة بشكل أكثر من اللازم:
-يلا يا حبيبتي عشان نروح...
إلا أن هذا الرجل ذو القلب البشع قرر فتح فمه مقاطعًا لها بلهجته الحاده المزمجرة:
-لا ميرا مش هتطلع من هنا لحد الفرح!
تحركت "أماني" لتقف أمام شخص شريف مباشرةً ثم هتفت به في شراسة دون خوف أو رهبه:
-لحد هنا والزم حدودك، بنتي رجليها على رجلي وهتطلع عروسة من بيت أمها وإلا يمين بالله لهعرفك معنى الفضيحة اللي بحق وحقيقي!
وقف زيدان مشدوهًا لا يصدق القوة المنبثقة من فم والده ميرا، ثم رمق "ميرا" يتابع صدمتها هي الأخرى التي توازي صدمته ولولا خطورة الموقف لاندفع يمدحها هاتفًا "عظمة على عظمة يا ست".
ولم تنتظر والدتها أن يتعافى والدها المتسمر مكانه من صدمته وقالت بأنف مرفوع بابتسامه منتصرة واسعة:
-يالا يا ولاد من هنا، ورانا فرحة كبيرة!
*****
كان ليلهم في طريقه للهروب تاركًا الأجواء تسيطر عليها الهدوء إلا من تخبطات القلوب، استقام "زيدان" ساحبًا معه سجادة الصلاة ينهي صلاته ببعض الدعاوي الصادقة لنفسه ولزوجته "ميرا" المتربعة فوق رقعة صلاتها تتلوى دعوات دون توقف.
تراجع للجلوس على مقعد الصالون معطيها مساحة لإفراغ رغبات قلبها في حديثها السري بينها وبين الله.
رفض وجهه العودة لطبيعته والتخلي عن ابتسامته المبتهجة فاليوم يوم زفافهم الذي انتهى بكل خير، ولا يزال يأبى تصديق ان الأسبوعان المضيان مرا بسلاسة دون صعاب.
خاصة أنه لم يثق بوالدها ونوبات جنونه الفجائية لحظة وكان متوقعًا الأسوأ، بالإضافة إلى تخوفه من رد فعل والده والذي على غير المتوقع رحب بحفاوة ما أن أخبره برغبته في الزواج من "ميرا" صحيح أنه اعترض في البداية على التعجل في إتمام الزفاف طالبًا منه منح نفسه ومنحها فرصه للتأقلم مع الفكرة قبلًا ليقرر "زيدان" اختلاق قصة كاذبة بأنهما يعيشان قصة حب خرافية وانه لن يشقى ويواجه عقبات في التجهيزات بسبب قراره بالزواج في المنزل مع والده رافضًا التخلي عنه في هذا السن.
كاد يبتسم متذكرًا نظرات والده المصدومة عندما أضاف بأنه صار رجلًا يخشى إغضاب ربه بالركض خلف شهواته، ليتأفف والده في النهاية قائلًا في اشمئزاز:
-تفاصيل زيادة عن اللزوم، أتنيل أتجوز يا سيدي بكره تقعد جنب الحيط و...
ترك جملته مفتوحة وراقب الفرحة تقفز من عيون طفله، فرك "زيدان" أسفل عنقه في خجل ربما هي ليست كذبة بشكل كامل لأنه غارق في غرامها بالفعل كما انها وهي في طريقها في لاستعادتها لذاتها زادت نضارتها وتوهجها مع كل يوم جديد مما أشعل مشاعر ولهَهُ بها فكانت تتغذى ببطء على خلايا تفكيره وتهيئها أمام عيونه الناعسة في صورة فاكهة وصلت أوج نضوجها منتظرة منه اقتطفاها والتذوق.
لعق فمه متحفزًا ثم نظر إلى الساعة المعلقة فوق الحائط في تعجل وترقب، عاد بنظرة إلى جسدها الصغير الساجد في خشوع، يتمنى لو تنتهي قبل أن يُحرقه الانتظار شوقًا ويتحول إلى رمادًا في سبيل عشقها.
سيطرت عليه ذبذبات السعادة متحمسً لبدء أولى لحظات حياتهما الزوجية معًا بينما يطرق أطراف أنامله فوق فخده في نفاذ صبر منتظرًا إياها، لكنه استسلم لمكنونات صدره المشتعلة متذمرًا:
-لا يا حبيبتي انتي مش قدام الكعبة، احنا في صالون بيتنا عادي تقدري تكملي دعاوي بعدين.
اعتدلت من سجودها ترمقه في انزعاج قبل ان تزم شفتيها مستنكره:
-سيبني في حالي يا زيدان أنا فيا اللي مكفيني.
-أنا عملتلك ايه ان شاء الله عشان يبقى فيكي اللي مكفيكي؟
ده احنا لسه بنقول يا هادي، طيب أستني أنكد عليكي الأول.
هتف مغتاظًا معترضًا على حديثها ففي الوقت الذي يتراقص فيه هو فرحًا لانه يجمعهم سقف واحد، تجلس هي بوجه متجهم وشفاه ممطوطه تنافس الحزن الثقيل المنبعث من عيناها السوداء الواسعة ... طائر البومة... أجل هذا هو لقبها الزوجي الجديد، لقد تزوج بومةً متنقلة!
-مش منك طبعًا، أنا مبسوطة وسعيدة اننا اتجوزنا.
رفع ذراعيه أمامه يوقف استكمالها الحديث متهكمًا:
-بس بس أصل أنا دمعتي قريبه، وقصتك السعيدة دي غلط على صحتي،
يا شيخة حرام عليكي أومال لو زعلانه هتعملي فيا أيه!
-يا زيدان أنا بتكلم بجد.
زجرت منزعجة بينما تربع ذراعيها امامها وساقيها فوق الأرض، فتنهد مستسلمًا وأقترب يجاورها قبل أن يهمس متسائلًا:
-فهميني مالك يا ست الحسن والجمال، مين مزعلك؟
-بابا.
قالت في نبرتها الخافتة فمال فمه لليسار مؤكدًا:
-حقك الصراحة، أبوكي راجل مريب أوي يا ميرا، المهم زعلك في أيه؟
-زعلني عشان كان نفسي يرفض اننا نتجوز!
أطبق جفونه في غصة ورفع كفه في غيظ يكتم أنفاسها متمنيًا اقتلاع روحها قائلًا في حدة:
-زعلانه عشان وافق تتجوزيني، بعد المرار اللي أنا عيشته ده كله عشانك زعلانه يا كائن النكد الأزلي يا بومه حياتي عشان اتجوزتيني!
دفعت يده عنها موبخه تسرعه:
-يا ابني افهمني بقى ما تجننيش!
-أنا اللي هجننك، أنتي معندكيش أخوات عرسان!
وبعدين يا ستي لو مش موافقة تتجوزيني اتجوزتيني ليه؟