1| بخيرٍ؟

50 10 2
                                    

قد تكون الحياة كريهة ومُنهِكة بقدرِ ما تُحاول لملمةَ القذاراتِ المُبعثرةِ بالطّرقِ في بلدٍ عُرِفَ عن أهله بالهمجيّةِ.. لعدمِ اعترافهم بالقانون المدنيّ.

وكذلك العالَم، رُغم وجودٍ للكثيرِ من القوانين، لكن مع ذلك، فإن العالم وضع قانونه الخاصّ، القويّ يستنزف من لحمِ ودمِ وتعبِ الضّعيفِ إلى أن يتضاءل فيختفي تمامًا، وهذا القانون، هو ما يسري بالفعل، هو المُحرّك الأساسيّ لخُطّةِ سير هذا البائس.

إن لم تملك شيئًا تُقدّمه للعيش، فعليك أن تدفع، حتّى وإن اضطُررتَ لتقطيعِ جسدك إربًا إربًا وبيعها في السّوقِ السوداء.

الأمر أشبه بإجراءِ جِراحةٍ نسبة نجاحها ضئيلة بقدرٍ كبيرٍ من المال، لكنك فقط، تُريد العيشَ بلا تفكيرٍ لعواقِبِ أفعالك، أو كيف ستُدّد ثمن هذه الجراحة حين يتمّ إنقاذك من الموت.

لكن ماذا إن قُدِّمَ عرض سخيّ لكَ خِصيصًا، تعيشُ مجانًا.. أو ليس تمامًا، مُقابل ثمنٍ زهيدٍ لكنّه أثمن ما تملك؟

أيّهما ستختار؟ حياةٌ أم.. موت؟

لكنّك فقط ستلتفتُ إلى قلبك ثُمّ ستسأل:
هل أنت بخيرٍ مع ذلك؟

رُبّما قُدِّر الأمر من السّماءِ وكُتبت الأقدار وانتهى الأمر، لم يعُد بإمكانه المُجازفة أكثر.

لديه خيارينِ، إما العيش بذنبِ صغيرتِه التي تُوفّيت مُتعبة القلبِ مُنذ الصغر، أو الموت تارِكًا صغيرته لحمًا نيئًا للضّباعِ الخسيسةِ فتنهشه بلا رحمةٍ إلا من رحِمَ الربّ؟

هل الصّواب أن يختار لها ميتةً هنيئةً أم عِيشةً غير كريمة؟

«وهل هناك خيارٌ ثالث أقلّ قسوة أيّها العالم البائس؟» هدر صوته فيتردّد صداه على طولِ الزّقاقِ الخالِ، اكتفى بالصّمتِ بعد ذلك وتولّت جفونه الحديث، علّها شعرت بتعب رئتيه وإجهاد قلبه فقرّرت تحريره من أسر هذه المُعاناتِ ولو لفترةٍ غير وجيزة.

كان راكعًا على الأرض منذ وقتٍ ليس بقصير، بروحٍ تُعذّب بالذنبِ وعقلٌ شُلّ عن إدراك الموقِف، رغم رعشةِ جسده من البرد القارس، لكنّ حواسّه خُدِّرت فباتت لا تأبه إلا بآلام قلبه الجريحِ.

المطر ينهمر بقوةٍ بزخّاتٍ حُمِّلَت بقطعِ ثلجٍ تذوب ما إن تسقط أرضًا، فتندثر صلابتها أمام صُلبةِ الأرضِ القاسيةِ.
كحاله.. حين كان دِرعًا صِدِئًا يحمي ابنته بوهنٍ، علّه يفلح بتنفيذِ وعده لها.

وكأنّ العالم سيسمح أو سيتهاون..
فهو ليس بنقاءِ قلبِ بياضِ الثلج، أو أقذامها السبعة.

ظِلٌّ توارى خلفه ذلك الضوء الشحيح الصادر من عمودِ الإنارةِ الصّدِئ بالزُقاقِ الضيّق، رفع رأسه للأعلى بثُقلٍ فقِواه خارت.. لم يتبيّن وجه الواقِف أمامه كونه جالسٌ في زاويةٍ مُظلمةٍ كِفاية فتُعجزه عن فعل ذلك.

«لِمَ أنت بائسٌ هكذا أيّها الرجل؟ هل انتهت حربك أم أنك ضعيفٌ لتُكمل؟» نَبَس الواقف أمامه بصوتٍ خشِن، عقد الرّاكع أرضًا حاجبيه بدهشةٍ من أمره، البائس من؟ هل يقصده؟

وكأن الرجل سمِع تساؤله فأجابه بنفسِ الشدّةِ بقبضتينِ مُتكوّرتينِ وأنفاسٍ هادِرة:
«أجل أنت، وهل هناك رجل يبكي على طول الزقاق غيرك؟»

زادت دهشة وحيرة الأخير من صوته المُتهجّم وحديثه الغريب، مدّ كفّيه فمسح دمعه بوهنٍ ثُمّ حاول النّهوضَ بجسده المُخدّر، لكن ركبتيه لم تستجيبا، يبدو أنهما تشنجا من جلوسه بهذا الشكل عليها منذ فترةٍ طويلة.

تأوّه بخفوتٍ مُمسكًا بفخذيه محاولًا كالبائس فعلًا منع الألم الشديد الذي يراوده، مدّ الرجل أمامه كفّه له حتّى يساعده.

ازدادت دهشته منه لكنه لم يملك خيارًا إلا الإمساك بها حتّى ينهض، نظر له مُمتنًا بعد ذلك ولكن ملامحه لا زالت خفيّة عن عينيه.

«أنظر أيّها الرجل الغريب والمُستضعف.» سَمِعَ صوته يتردد ثانيةً بعد وقتٍ عمّ فيه الصّمت وأصواتِ المطر الذي يهطل.

«حربك.. أنت من يصنعها، وأنت من ينهيها، لا تترك نهايتها للعالم، لأنك ستكون قد ارتكبت خطأً فادِحًا، لأن العالم الذي يجعلك تعاني، لن يكون رؤوفًا أبدًا مع نهايتها، وستكون جُزءً شبيهًا لانهيارك، ولكِن أقسى.

لكنّك إن حاربت للنّهايةِ بكُل قواكَ، لن تشعر بالندم القاتِل يتسلّل إليك من وقتٍ لآخر، لن تقول لنفسك يا ليت، ولن تُعاني كما تُعاني الآن بشعورٍ حالِكٍ بالسّوادِ والذّنب.

تعلّم، إن ظهرت أمامك عقبة صعبة تحدّى نفسك وتخطّاها، لأن لكل شيءٍ نهاية، وإن لم تفعل.. ستنتهي أنت قبل كل شيء.
لا تجعل من نفسكَ صيدًا وندًّا لعالمٍ ساد به الفساد فأصبح هو العدل، تفشّى به الكره على أنه حُبّ، واكتنفه الظلام فبات نورًا غريبًا عليك تقبّله.»

أنهى حديثه وتقدّمت خُطاه للرحيل، لكنّه هدر بنفسٍ مُهتاجٍ:
«في الساعةِ التّاسعةِ صباحًا، سيصلك رجلٌ سيدلّك على حلٍّ لقلبِ ابنتك المريض، لن تُضطر للتبرع لها بقلبك، لن تموتَ، وهي لن تموت.»

اختفى بعدها بين سوادِ الزقاق الحالك فسلك المنعطف حتى توارى عن ناظريه، تارِكًا الأخير يشعر بمشاعِر مُضطربة، لكن رُبّما السعادة العارِمة كانت تُسيّر مشاعِره إلى نورٍ لم يَرَه من قبلٍ.

سُمِعَ صدى صوته يتردّد بالمكانِ ساجِدًا أرضًا، بنحيبٍ فَرِح:
«اللهم حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه، اللهم حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك.»

لكن ابتسامة الرّجل الذي توارى عن الأنظار خلف العتمةِ جعلت السّماء توقِف نحيبها والليل يسحب صقيعه من الأجواء.
رُبّما مرّةً أدرك العالم كيف يكون سعيدًا.

رُبّما لن يزورك رجل حالك السّوادِ وملثم بالظّلام حتّى يفكّ كربك، ولكنّ الله يراك ويعرف كم قاسيت وكم تحمّلت، ويعرف أيضًا كيف يُجازيكَ لنقاءِ قلبك وسطَ قذارةِ العالم.
يعرف كيف يخبرك أن كل شيءٍ بخيرٍ حتّى لو لم يبدُ ذلك، وأن البأسَ لن يدوم طويلًا.

يوم يأتي ربيعُ الغدِ فيندثر ظلام اليوم.

رَوححيث تعيش القصص. اكتشف الآن