الفصل الثاني

170 79 63
                                    

الفصل الثاني
لم انسي هذه الليلة ابداً ،تلك الليلة التي قطع فيها الشك باليقين، وعرفت ان عمتي كلثوم لم تتخلي عني ابداً ..لا استطيع ان اعرف اذا كانت والدتي سوف تعتني بي بهذا الشكل من عدمه ،لم اعرفها حتي لم اراها من الاساس.. لهذا من الصعب الإجابة ،ولكن من المؤكد ان عمتي هي افضل الاشخاص الذين اعرفهم .
***
لقد وصلنا الي المنزل الذي اصبح هادئ بشكل يثير الريبة بنسبة اليِ شخصياً ،فأنا معتاد علي رن هاتف عمتي..، الذي لا يتوقف لخمس دقائق علي حد اقصي ،او التلفاز الذي يجلس عليه زوج عمتي الي الفجر بدون راحة ..يشاهد المباريات وكأنه يلعب معهم .
حتي انه في احد المرات واقفنا انا وعمتي لنضحك عليه بدون ان يعلم ،بالطبع اذا علم سوف يغضب علينا ويصرخ فينا ،لقد حدث قبلاً وصرخ عليّ عندما كنت اريد مشاهدة احدي القنوات التي تذيع الطبيعة والغابات ..والحيوانات ،حتي الاسماك ..لا اتذكر طرفي هذه المباراة ،ولكن عن حق لقد غضب وسرعاً بعد انتهاء المباراة ذهب اليِ واعتذر وجلس بجانبي ليشاهد معي قنوات الطبيعة هذه ..ولم يكمل خمس دقائق حتي ذهب في النوم ..اخفضت الصوت احترماً له ..واذا كنت تسأل عن عمتي في هذا اليوم فهي لم تكن موجودة ولا اتذكر اين ذهبت في هذا التوقيت .
  تأكدتُ ان هنالك خطباً ما في عمتي ،لربما تشعر بالتعب من العمل او هي مريضه ولا تريد اخباري ..لقد رجحت اعتقادي الثاني اكثر ..ومع مرور الايام تأكدتُ اكثر واكثر من هذا ..في احدي الايام لم اذهب الي المدرسة ،كنت اريد معرفة ما يحدث ليس أكثر.. فأنا اعرف انهم لم يخبروني وتيقنت ان عليّ معرفة ما يجري بنفسي .
جلست هذا اليوم الذي هو الاول لي علي طوال حياتي المدرسية ،فأنا معروف "بمعجزة المدرسة" ،حسناً امزح لست معروفاً بهذا ولكن كنت من ..من يذاكرون ،ايضاً من المتفوقين النادرين هذه الايام ،فنحن في 2045م ،لقد اصبح من النادر ان يتعلم الناس هذه الايام ..الخيار المنتشر في ايامنا هذه هو "شريحة الذكاء الاصطناعية" ،لدي واحدة ولكني نادراً ما استخدمها من الاساس ..تريد ان اخبارك بشيء اخر ،التلفاز هذه ليس تلفاز بل شاشة عرض ضوئية نشغلها باستخدام شريحتنا ..ولكن اجعل زوج عمي من يشغلها لي .
رغم هذا كنتُ اواظب علي ذهابي للمدرسة بشكل يومي ،فأنها اختيارية في الاول والاخير ..حتي المعلمين معظمهم لا يذهبون ..ايضاً بنسبة لهم هي اختيارية ..انها التكنولوجية يا عزيزي.
***
جلست هذا اليوم بعدما نجحت في اقناعهم اني اشعر بتعب بعد عدم قدرتي علي النوم بسبب الكوابيس التي تلازمني كثيراً هذه الايام ،كانت اكذوبة احترافية بلا اي ادني شك ..ولكنها ولحسن الحظ قد نجحت معهم .
جلست في غرفتي وانتظر طرقهم لباب غرفتي لأخباري بأنهم سوف يذهبون ،ومن ثمة انا علي فور ارتدي قبعتي السوداء التي اشترها زوج عمتي في وقتاً لاحق ..كنت قد جهزت ملابسي واخذت بعض المال للحالات الحرجة ..انتظرت تقريباً  بضع الدقائق حتي رأيتهم في الخارج من النافذة ..اخذت مفتاح المنزل ونزلت علي الفور بقصي سرعة الدرج لكي لا افقدهم وفي نفس الوقت لا يروني ايضاً ..
كانوا قد وصلوا الي نهاية الشارع وواقفوا منتظرين سيارة اجري حتي يركبونها ..وانا كنت مختبئاً وراء احدي السيارات ارقبهم عن كثف ،لم يكملوا اللحظات حتي استقلوا واحدة ..وبدأوا تحركهم وسط تركيز مني لمحاولة معرفة ما يجب ان افعله ..واقفت في مكان وقوفهم لتخمين وجهتهم ..وصلت الي خيارين وحداً منهم هو طريق المشفى القريبة من المنزل ،والاخر هو طريق البنك ..كنت علي المراهنة في هذه اللحظات ،وكان من حسن الحظ اني اعرف طريقاً مختصراً للمكانين .
عليّ وضع رهاناً ،مكثت بركبتي علي الارض واضعاً يدي علي وجهي ..ومعي اقل من دقيقة ايضاً ..استقر رهاني علي الذهاب للمشفى رغم انها اقرب من البنك وهذا لا يستجدي ركوب سيارة ..،وايضاً رغم كرهي للذهاب الي هذا المكان ..لقد ذهبتُ له مرةً عديدة عندما كانت تأخذني عمتي لجرأ الفحوصات علي حلقي الذي ألمني كثيراً وانا في الثامنة ..،اختياري هو وضع رهاني علي المشفى هو انني لاحظت شيئاً في عمتي ليس جسدياً ولكن نفسياً اكثر ..لهذا سلكت هذا الطريق الذي لا احبذه ابداً .
وانا اركض في الطريق الذي لم يكن مزدحماً بالناس كثيراً ابتسمت، ابتسامة تدل علي شفقة ..نعم ما الذي افعله ،ما الذي فكرة فيه من الاساس ماذا اذا كانوا سوف يتوجهون الي مقصداً اخر ان لم اتوقعه ،ماذا اذا كانوا ذاهبين لمقابلة احداً حتي !!
لا اعرف ما الذي افكر فيه في هذا اليوم او الصباح اليوم بشكل التحديد ،لكن كان كل هدفي هو معرفة ما يجري من حولي ..وحتي انا لم اخسر شيء اذا جلستُ في يوماً وحداً من المدرسة ..وذهبت صباحاً للركض، هذا كان مقصدي منذ البداية ..فقط احاول لن اخسر شيء من عدمه.
***
وصلت الي الباب الرئيسي لمدخل المشفى ،واستند بيدي علي ركبتي لالتقط انفاسي من كثرة التعب من الركض ..وفكرة قليلاً عن ما سوف افعله تالياً ،كان لدي ثلاث من الخيارات ليس لهم رابع ،اولاهم :
-اختبئي خلف اي من العربات القريبة وانتظر خروجهم ومن ثمة امسك بهم متلبسين ،واجبرهم علي اخباري بما يخفونه
هذا الاختيار له شيء سلبي وهو اني لا اعرف متي سوف يخرجون .
اما الخير الثاني الذي ارجحه اكثر :
-هو دخول والبحث عنهما ..ومعرفة ما يحدث ،لربما عمتي مريضه ..ليست ربما ،لا انها مريض ..حدسي يخبرني هذا ولكن اتمني ان يخفق حدسي في النهاية .
كنت علي وشك مراجعة الخيار الثالث حتي لمحت زوج عمتي خارجاً من الباب الرئيسي متوجهاً الي احد محلات البقالة المجاورة للمشفى ،حينها شعرت بنبض قلبي الذي تسارع بدون ان يهدأ لبضع الدقائق ..كان صعباً ،ما الذي يحدث لي ..قلبي ليس علي ما يرام ،واضعت يدي علي صدري وانا بالكاد استطيع التنفس وفي لحظة فقد الاحساس وسقط علي الارض خلف احد السيارات التي توجهت لها مسرعاً حتي لا يراني احد.
لم يمر هذا الحال الا بضع دقائق فقط ..استعادت واعي واستندت علي السيارة حتي لا اقع بسبب توازني المضطرب ،وانا اشعر بالخوف ..شعرت انني سوف افقد احد اقرب الناس لدي قريباً ..حاولت ان اهدأ ،لا استطيع ..تحركت اليِ احد الشجيرات القريبة ومن ثمة واقفت خلفها حتي لمحت زوج عمتي يخرج من باب المشفى اتسعت عياني وانا انظر في اتجاه، وانا علي وشك البكاء مسائلاً نفسي :
-ما الذي يفعله واحده ،اين عمتي ..لما ليست معه ،هل يعقل !هل فقدها ام ماذا ؟ربما كان هنالك شجاراً فيما بينهم ؟!
بدأت اجيب عن اسئلتي :
-لا هذا مستحيل لم يتشاجرون ابداً ،انا اعرف هذا ..اذاً اين هي لما ليست معه !!
اعدت النظر الي عمي الذي انتهي من شراء علب العصير ،بددت عليّ نظرات الاضطراب تزداد اكثر واكثر ..وانا شبه مختبئي خلف الشجارة ،وافكر عن ما انا علي وشك فعله الان ،وفي لحظة لم اشعر به بنفسي ..تحركت كلتا قدمي مسرعة الي الداخل وانا ابكي ..حتي انني مررت من امام زوج عمتي ولم الاحظ هذا ،نعم اتذكر لقد لمحني وصرخ عليّ بعدما تعجب من وجودي ،صرخ عليّ وهو متعجب وعليه علامات الحزن هو الاخر ،ولكن تشعر انه كان يخفيها رغم وضحوها عليه ،صرخ علي وانا قريباً سوف اكون في داخل المشفى نفسها :
-ماذا !!هل هذا شحتة ؟اللعنة شحتة ما الذي تفعله هنا ..توقف
وبدأ يجري خلفي وهو ممسكاً بحقيبة علب العصير ،متابعاً :
-توقف سوف اخبرك بكل شيء .
لم استمع اليه ابداً ليس لأني لا اريد ولكن فقط لم استطع ..كنت علي وشك الدخول والبحث عن عمتي ،ولكن امسك بي احد رجال الامن السمينين البغيضين اللعنين ،غضبت وبدأت اتشنج عليه ،اخبرته عديد المرات ان يتركني ادخل، حاولت الافلات من قبضته القوية ولكن بلا نفع كان صلباً للغاية ..كان علي وشك ان يضربني بسبب سبي له بلا توقف ..انقذني زوج عمتي من قبضته واعتذر نيابةً عني ،وشدني من يدي بقوة وهو عليه ملامح الغضب يتبعها الحزن وعدم الاتزان ..جرفني الي الخارج واجلسني في احد المقاهي القريبة ..وطلب مني ان اهدئ من روعي ،وسألني اذا قد كنت اكلت طعامي الذي قد احضره صباحاً ..اجبت بهز رأسي مشيراً الي "نعم" وكنت اكذب حينها ،فكما اشرت قبلاً اني كنت علي عجلة من امري للحاق بهم قبل فقدان اثرهم .
ذهب واحضر لنفسه كوب من القهوة رغم علمي انهُ لا يحتسيها صباحاً مما ثار تعجبي ،واحضر معه كوب من الشاي لي بعدما خيراني بينه وبين العصير ..جلس بعدما احتسي القليل في شرود وكأنه يفكر عن ما سوف يخبرني به ..اخذ نفساً له صوت واطلقه معلن عن بدأ حديثة :
-شحتة ،عمتك مريضة
لم اتفاجأه لقد توقعت هذا ولكن ما الجديد كل ناس يمرضون هذا شيء معروفاً ،كنت فقط اريد معرفة ما هو مرضها ،وحالتها ايضاً
حتي اكمل زوج عمي محاولاً كبح دموعة من التساقط:
-انظر شحتة ،اعرف انك توقعت هذا سابقاً ،فلقد كنا انا وعمتك في حالة اضطراب  طوال هذا الشهر ..مما اوصل لك ان هنالك خطباً ما ،كل ما اريد اخبارك به ان حالة عمتك ليست بالجيدة ابداً
بدأت تتساقط دموعة قبل تكملة نهاية الجملة ،مما جعلني انا الاخير في حالة من عدم الاحساس بما حولي ،حزن ..اضطراب ..كل هذه الاشياء الصعبة الحزينة التي لا يقدر الا البكاء علي ترجمتها .
***
  "اصيبت بمرض جديد كان منتشراً مواخراً في عالمنا هذا ،لا يصيب الا  السيدات فوق سن الخامسة والثلاثين ..يصيب كرات الدمي البيضاء او ليس يصيب ..بل يأكلها بمعني الكلمة ،وتنتهي حياة المصاب بمدة اقصاها عامان ..فقط ادوية المنشطات تستطيع.. ،تعلم تقليل المعناه ليس بأكثر"
***
انتهيت من الشاي وانتهي زوج عمتي من القهوة ،وتحركنا لدخول المشفى والبقاء بجانب عمتي الي ان تنتهي من عمل الفحوصات ..،دخلنا ووصلنا الي الغرفة التي تتواجد فيها ..مستلقا علي السرير الطبي هذا ويملئها الكثير من الابر والمحاليل البيضاء والصفراء ..اظن انها كانت في حالة من فقدان الوعي الموقت من كثرة ما تتلقاه ..انتظرنا قرابة الساعة علي كراسي الانتظار ليسمح لنا الطبيب بدخول وافاقتها ..كنت شارداً وفاقداً التركيز ربما من جوعي الذي  لم اشعر به  ولكن تأثيره بدأ يظهر ..وعندما التفت ناظراً الي زوج عمتي الذي لم ابالغ اذا وصفتُ ان حالته لربما اسوء من حالتي هذه ،واضعاً رأسه بين يديه ناظراً الي الاسفل وتبدو عليه علامات الخوف من شيء مثلي تماماً ولكن بشكل يسبق اوانه ..وكأنه يخفي شيئاً اخر عني ولا يريد اخباري به ..
دقت الساعة الواحدة ظهراً ،لمحت فيها احد الاطباء يدخل الغرفة التي تتواجد فيها عمتي ربما يريد فحصها ،واقفت انا ناظراً الي نافذة باب الغرفة ولمحت ان عمتي قد فاقت اخيراً ..ولم تمر لحظات حتي وجدتها لمحتني هي الاخرة تبتسم.. تشير الي بيدها لأدخل ، دخلت من هنا وخرج الطبيب من هنا فلتفت وانا اتعجب من فعله ..لما لم يفحصها لقد قال بعض الكلمات وخرج ..حتي انه لم يزيل هذه الابر الذي بدأ جسدي بسببها يرتعش من كثرتها ..لم اهتم لهُ كل ما كان يهمني هو عمتي ليس الا ،ولكن بدأت ثورة في داخلي عندما وجدته يتحدث مع زوج عمتي في الخارج ..وقفت بعدما استدرت بظهري الي عمتي ادقق النظر فيها ..واجدها بهتت المظهري ..وكأنها تحتضر الان امام او تحت ناظري .
واقفت لم اتحرك لبضع اللحظات وكأن الزمن قد توقف من حولي ..اري من كان بجانبي طيلة حياتي التي لم تبدأ بعد يموتُ وانا ليس بيدي شيئاً افعله ..التفت الي خلف مرة اخري اجد زوج عمتي يبكي محاولاً كتم صوته باستخدام قبضة يده يضغط و يضغط بأسنانه وهو علي وشك ازالة جلد قبضته ..تقدمت الي الامام ممسكاً بيد عمتي محاولاً ان اجد مكاناً لتقبيلها ولم اقدر بسبب كل هذه الابر.
لم تزل ابتسامتها الموعودة وهي حتي علي وشك الموت ..هي ابتسامه تعطي الأمل ولكن تخفي الكثير والكثير من الالم .
دفنتُ رأسي علي سريرها ابكي وابكي بشدة ..حتي وجدتها تقول بصوت يكاد مسموع يملئه الحزن :
-شحتو ،اخبرني لما تبكي ؟ انا لا ابكي ..لما اذن تفعل انت ؟
رفعت رأسي متعجباً بما تقوله ..اخبرتها وانا لا اريد فعل هذا :
-لا يا عمتي، انتِ تبكين .
ربما هي حقاً فقدت الشعور بالنفس، فضلت ان لا اكمل واتابع بكأي فقط  ..حتي وجدتها تحاول الصعود بظهرها وتلتفت لي قائله :
-ربما تظن ان الموت هو النهاية ونعم اوفقك الرأي هو النهاية ،ولكن لبدأ شيئاً اخر له اهميه وهو حياتك ..اريد اخبارك بشيء طلبه مني جدك بعدما طلبه ابيك منه..
قطاعتها علي الفور وانا بالكاد استطيع الحديث من بكأي :
-عمتي ،لا تتحدثي ارجوكِ ..فقط استريحي سوف تصبحين علي ما يرام بعد قليل ..انتِ ..انتِ تحتجين لراحة ..جميعنا نحتاج للراحة ..
حتي صمت وتابعت في داخل نفسي :
-"هذا كبوس ..هذا كبوس سوف ينتهي قريباً انا اعرف هذا ..سوف استيقظ بعد قليل "
وضعت يدها  فوق شعري الطويل والناعم ..تنشف دموعها وتبدأ الحديث :
-انت تشبه ،عن حق انت تشبه اخي المجنون ..ولكن بأقل قليلاً (وكانت تضحك) حتي اكملت :
-دعني افعل ما اخبرني به جدك عندما احضرك الي وانت قطعة من الحم ..طلب مني ان لا اخبرك عن والدك او الدتك الا عندما يحدث لي مكروه ،وها هو قد حدث ..اخبرني ان اخبرك ان تستمع له اذا موت وهو مازال علي قيد الحياة  ..لا اعرف التفاصيل ولكن كان هذا طلبه الاول ..،كان قد طلب مني شيئاً اخر غير ان اعتني بك بالطبع وهو اخبارك ان والدتك ربما  مازالت علي قيد الحياة الي الان ولكن ليس علي الارض ..
بدأت تضع يدها علي قلبه من الالم ،حتي ان بدأتُ اشعر بألمها ..رغم كل هذا لم تتوقف للحظات واكملت :
-اريد ان اسألك شيئاً شحتو، انا عمتك هل اعتنيت بك جيداً ..اخبرني بصراحة ؟
لا اعرف ما كانت حالتي عليه بعد جملتها الاخيرة هذه ،ولكن كل ما تذكر ان جوابي كان :
-لا انتِ لستِ عمتي ..انتِ امي .
***

بحر الذهبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن