تبدو ضرورة المعرفة شيءً بديهياً، ويبدو لنا أن الإنسان العارف أكثر قوة وأكثر قدرة، ولهذا يتسابق الجميع نحو المعرفة بصورة أو بأخرى، حسب جهود وإمكانيات مختلفة، ويسعى الجميع للإستعراض والتباهي المعرفي ... فالمعرفة قوة ظاهرة، وللقوة أثرها فوق أرض الواقع. وهنا ستجد العديد من الشواهد والأمثلة، فمن تلك الأمثلة الشائعة أن البعض يتسابق نحو نشر المحتوى الرقمي الجديد لتقديم نفسه عبر سبق معرفي (أو سبق صحفي إن جاز التعبير) عبر وسائل السوشال ميديا، وهذا السلوك ما هو إلا نوع من أنواع إبراز هذه القوة المعرفية العقلية، لتحقيق الذات وإبراز القدرة والكفاءة واكتساب مكانة وفرز معادلات لتلك الحقيقة المفترضة، فوق أرض الواقع، ولو عبر هذه الصور الركيكة.
لكن التأملات العميقة، تجعل عالم المعرفة أكثر وعورة وصعوبة وتعقيداً، فما يجعل المعرفة قوة، هو ما قد يجعلها ضعفاً، وما يجعلها نجاة، هو ما قد يجعلها خطراً، وما قد يجعلها وعياً هو ما قد يجعلها غيبوبة وضياعاً ... فالمعرفة عالم معقد جداً ... والشياطين تكمن في التفاصيل كما يقولون.
في عالم المعرفة سنحتاج حتماً لترتيب أولوياتنا المعرفية، وسنحتاج لفرز ما هو ضروري عن ما هو أقل أهمية وعن ما هو عديم الأهمية، وسنحتاج أيضاً لفرز ما هو حقيقي عن ما هو وهم وخرافة أو خدعة أو كذبة. كذلك سنحتاج لتفريق ما هو ضروري بالنسبة لنا، عن ما هو ضروري بالنسبة للآخرين، فلكلٍ منا احتياجات معرفية مختلفة، أضف إلى ذلك أيضاً تأثر احتياجاتنا المعرفية بمعادلات (الزمكان) أو تبدلات الزمان والمكان ... والمعادلات المعرفية لا تنتهي هنا.
وقد تبدو هذه الأمور بديهية وسهلة: فكروية الأرض حقيقة، وكون الأرض مركز الكون مجرد وهم، والسفر في الفضاء حقيقة، والأطباق الطائرة مجرد وهم ... وقس على ذلك.
كما أن الطبيب بحاجة للمعارف الطبية، والمهندس الزراعي بحاجة لمعارف الهندسة الزراعية، وطالب المدرسة بحاجة لمعارف مرتبطة بالمناهج الدراسية ... فعصور إنفجار المعرفة تحتم التخصص كأداة ضرورية من أدوات النجاح والإتقان، والتشتت هو الضياع المحتوم.
لكن إذا نظرنا لكون الأرض مسطحة كعقيدة أو قناعة راسخة عند من يتبناها أو يؤمن بها، فهي تماماً كحقيقة كون الأرض كروية عند من يتبناها أو يؤمن بها، فقبل الطلاق بين صاحب القناعة والعقيدة وقناعته، ستجد أن دماغه قد أصبح كالمغناطيس يجذب باستماتة حتى الرمق الأخير كل ما يؤيد ويدعم فكرته العميقة، لتصبح حقيقة لا جدال فيها بالنسبة له، كما هي حقائق الآخرين تماماً بالنسبة لهم، وهنا تذهب جهوده المعرفية هباءً منثوراً، وتصب في صالح صناعة وتعزيز الوهم.
ونحن جميعاً غالباً ما نضيع أعمارنا وأوقاتنا في إثبات ما نؤمن به وما نتبناه دون أن نشعر أننا قد وقعنا في فخ التزييف العميق للواقع، وهنا تنهار نظرية أن المعرفة قوة، فنحن نبني بروجاً مشيدة من أوهامنا، وأوهامنا لا توصلنا في الحقيقة للقوة بل إلى الجحيم، في الوقت الذي نقارع فيه الحجة بالحجة في جبهة الصراع مع المخالفين لنا، ونظن يقيناً أننا نحسن صنعاً.
وكما هو واضح هنا، فالمعرفة هنا ليست سلاحاً وليست قوة أبداً، ويخطيء كل من يروج لتلك المعرفة، إذا نزعت بنا تلك المعارف المزعومة إلى وهم أو إنحياز يقتل القدرة على التفكير والتأمل، ويعطل قبول أفكار جديدة مغايرة تهدم ما نقع فيه من أوهام المعارف والتصورات.
وضع في اعتبارك من زاوية أخرى، أن ترتيب الأولويات، قد يقع بك في أخطاء قاتلة أخرى، كتلك التي تنتج عن توهمات معرفة الحقائق من الخزعبلات والمغالطات، ليكون حالك هنا مع ترتيب أولوياتك، كحال ذلك الذي يسأل ويستفتي أيهما هو الواجب الذي يتوجب علي القيام به، أن أصلي صلاتي الواجبة قبل إنقضاء وقت وجوبها، أم أن أنقذ غريقاً قبل أن يفارق الحياة، ليكون جوابه أن واجبه هو الصلاة في وقت وجوبها، لحرمة تأخير الصلاة عن وقت الوجوب، غافلاً هنا عن أن ذلك الوجوب قد ارتبط هنا بتراتبات الوجوب ضمن مجموعة من واجباته المتزامنة، ولا يمكن هنا فصل الوجوب عن التراتبات الواجبة أبداً.
في الواقع، يقع كثيرون منا في أخطاء من هذا النوع من أنواع أخطاء ترتيب الأولويات. فطالب مدرسة لم يلم بدروسه في اللغة الإنجليزية المدرسية يذهب لتعلم المرادفات الأجنبية في علم الهندسة أو في السياسة أو الإقتصاد بشكل يخل بمحافظته على إتقان مناهجه المدرسية.
ورب أسرة يذهب لتعلم فنون الكارتيه، دون حاجة حقيقية أو ماسة، بينما ليست في يده بعد مهارات صنعة تسد جوعه وجوع عياله.
ومن جهة أخرى، فإن الغرق في التخصص الذي هو ضرورة في عصور انفجار المعرفة، قد يحيل ضرورة التخصص إلى خطورة، فالتاجر الذي يغرق في تجارته دون دراية بالتقلبات السياسية العالمية والتحولات الإجتماعية التي تؤثر على تجارته سيخسر، وطبيب الحنجرة الذي يصف أدوية مضادة لالتهاب الحنجرة كمضادات البنسلين دون أن يراعي وجود مشاكل صحية أخرى لدى مرضاه، تتجاوز تخصصه الدقيق، مرتبطة بأجزاء أخرى من جسم المريض كأمراض جهاز الدوران مثلاً، كعوز أو نقص إنزيم G6PD يعرض مرضاه للضرر والخطر، فهناك بعض الإمتدادات المعرفية خارج تخصصاتنا، تبقى ضرورية وملحة دائماً، مهما كانت الحاجة للتخصصات مهمة وضرورية.
إن الخطأ في ترتيب الأولويات معضلة، ووهم المعرفة والغرق في الوهم تحت عنوان الحقائق واليقينيات الدامغة معضلة أخرى، كما أن الإنغلاق في تخصصاتنا بقدر ما هو ضروري إلا أنه خطير وقاتل أيضاً.
إن ساحة المعرفة كبيرة ومعقدة جداً، لدرجة أنك قد تجد أوهاماً قد تضخمت وأصبحنا نشير إليها بالبنان كمعارف ضرورية، وشخصيات قد تضخمت في رؤوسها الأوهام ونحن نشير لها كقامات معرفة ضخمة، وجزء ضخم من أوقاتنا وأعمارنا يهدر ونحن نظن أننا في ركب المعرفة الصحيح، في حين أننا نزداد توغلا في أوهامنا، أو نهدر أوقاتنا الثمينة فيما لا ضرورة له، وهذا جميعه بالتأكيد يحتاج منا إلتفاتات جادة، قد تنقذنا لتنهض بنا من كبواتنا في عالم المعرفة.
فما ندركه اليوم، قد يكون الوهم الذي ينكشف لنا في نهاية العمر زيفه، وما نضيع جل أوقاتنا في تحصيله من معارف في يومنا هذا، قد نكتشف بعد سنوات طويلة أنه الهامش الذي أضعنا فيه العمر بلا فائدة ترجى ... فلم لا نتوقف برهة من الزمن لنفكر ونتأمل في تعقيدات وحقيقة المعرفة، علنا ننجوا من الأوهام ومن مزالق عالم المعرفة؟!.