البارت الاول

4.4K 104 90
                                    

غسق الماضي
الفصل الأول

تجلس على نفس الكرسي منذ ساعات، رغم أنه غير مريح لكنها لم تهتم، فمنذ الفجر وهي تنتظر في نفس البقعة.
تسمع صوت المكبرات تذيع أرقام الرحلات المغادرة والقادمة، تنظر إلى من يودعون أحبتهم ، وهي وحدها كما كانت دائمًا، لم تكن المرة الأولى التي تجلس فيها نفس الجلسة، بل الثالثة، في خلال عشر سنوات أو أكثر بقليل، جلست هنا ثلاث مرات وتم إعادتها في المرتين !هل تحدث معجزة ويأتي الآن لإعادتها مرة ثالثة؟
تعرف الإجابة، لكن ذلك لم يمنعها من العودة بذاكرتها للمرة الأولى، الأصعب.  كانت لاتزال في السادسة عشر من العمر، بعد موت والديها وأخيها في حادث، خرجت منه حية بمعجزة، لم تُصب إلا ببعض الرضوض، وكسر في الرسغ، وارتجاج تسبب في دخولها الغيبوبة لعدة أيام.
عندما أفاقت وعرفت الفاجعة، لم يمهلها القدر الوقت لتحزن، فقد رفض جدها لأمها استلامها، ولم يكن لها أقارب من جهة الأب! أو هكذا اعتقدت، مما أدى إلى تدخل السفارة التي تحمل جنسيتها حيث ولدت وعاشت كل حياتها هناك مع أسرتها فقد كانت هذه أول مرة يأتون لزيارة وطنهم الأم!
كانت مع ضابط مكلف بترحيلها لبلدها الذي عاشت به، فهي قاصر وسوف
تصبح تحت رعاية الولاية، وطبعًا سوف توضع في بيت الرعاية، وهذا أكثر ما تخشاه، فكم سمعت عن هذه البيوت وما يحدث فيها من تنمر، وتحرش، كم دعت ربها أن تجد أسرة عربية أو مسلمة لتأخذها, قد تكون أهون عليها, هذا ما كان يجول في بالها, حين أتاها صوت خالها يقول للضابط المرافق لها بأنه أخذ وصايتها وستبقى معه, يا لها من فرحة لم تعرف أنها بداية اللعنة.
اقترب موعد رحلتها, فذهبت لإنهاء إجراءات السفر، لم تكن لديها أي حقائب غير حقيبة يدها, مما جعل الأمر سهلًا وصعبًا في نفس الوقت, فقد حاول ضابط الأمن التحقيق في طريقة سفرها دون أية حقائب وأمتعة وهو شيء غير معهود، لكن جواز سفرها أوقفه عند مكانه خصوصًا عندما قالت له:
- أنا عائدة إلى بلدي هل لديك مانع؟
وفعلًا ركبت طيارتها في رحلة أقل ما يقال عنها شاقة جدًا، على امرأة حامل في الشهور الأولى.
*****
بعد أسبوع تقريبًا، استطاعت بمعجزة أن تجد شقة ستوديو وكانت أكثر من راضية بِها، كما انتهت من اكمال استخراج جميع أوراقها, وهذه لم تحتاج إلى وقت أو مجهود كبير, لأن كل شيء مسجل؛ فقد جددت العنوان وغيرت صورتها والآن يجب أن تجد عملًا لتصرف على نفسها.
كانت تستخدم بطاقة الدفع المسبق (كريدت كارد) لأنها متأكدة أن ساجي عندما ينتهي من شهر العسل, ويعلم بسفرها سوف يقوم بوقف استخدامها، يا لغبائها!
لم تدخر قرشًا لهذا اليوم، بل هي حتى لم تأخذ مجوهراتها معها، كانت لتنقذها الآن، تسرعها جعلها تسافر دون تخطيط .
أخذت نفسًا وقالت:
- حسنًا لقد ذهب الصعب والآن الأسهل: تأملت الشقة الفارغة, لكنها لم تغضب بل كانت ممتنة لأنها وجدتها بهذا السعر في منطقة آمنة, جهزت نفسها للذهاب للطبيبة, فهي تشعر بالتعب، كما لأنها لاحظت نزول قطرات دم ,لا تريد أن تتوقع الأسوأ، يكفيها ما حدث، رغم كل شيء هي تريد الطفل، لا تريد أن تعيش وحيدة يكفيها يتمًا!
*****
في بلاد غريبة، تضم جميع الأجناس والأديان، رغم الاختلافات بينهم إلا أنهم وجدوا طريقة للتعايش معًا في سلام مؤقت، قد يكون كاذب أو مصطنع لكنه يفي بالغرض, العجيب أن نفس الأشخاص لم يستطيعوا تنفيذ هذا السلام الكاذب مع أبناء جنسيتهم على أرض بلادهم، وفضلوا اللجوء إلى بلاد العم سام !هروبًا من حرب أهلية هم السبب فيها، وهم اقتيدوا خلفه كالبعير وطالبوا بحرية كانت ملكهم دائمًا، ضيعوها دون حتى أن يعرفوا أنها موجودة!
هذا حال البشر يخسر ما بيده ليبحث عنه في مكان آخر.
استيقظت سارة، وقامت بتحضير قهوتها رغم تحذير الأطباء بعدم الإكثار منها ولكنها لا تبالي، لا شيء يضاهي القهوة سريعة التحضير، تبتسم بتهكم، من يصدق أن ساره تشرب القهوة الأمريكية بعد أن كانت لا ترتاح إلا عند شم القهوة العربية، وشربها في طقوس خاصة كأنها عبادة وليست شرب قهوة، ارتدت ملابسها وخرجت لموعد طبيبتها؛ برغم أن الوقت مبكر لكنها تحب التنزه صباحًا قبل أن تخرج العصافير من عشها لتبحث عن طعامها، دخلت العيادة النسائية وجلست تنتظر موعدها، كانت قد اختارت هذه الطبيبة لأنها عربية، هذا ما عرفته من اسمها، فتحت هاتفها المحمول على موقع التواصل الاجتماعي وصفحتها المفضلة فيه مجموعة (همسات الغربة )، يا له من اسم مبتذل لمجموعة سيدات يتناقلن أماكن التخفيضات لشراء الماركات العالمية، حسنًا ليس هذا ما يجذبها بل المشاكل التي تبعث بها المقيمات، البعض منها تكاد تكون قصص خيالية.
اقتربت منها الممرضة لتخبرها أن الطبيبة سوف تتأخر إذا أرادت تغيير موعدها ليوم آخر؟
رفضت سارة قائلة:
أنا متفرغة، وليس لدي مواعيد أخرى.
ابتسمت الممرضة وذهبت؛ فعادت تتصفح مجموعتها وتقرأ المشاكل، لتعرف أي مشكله تنشرها على المجموعة، وأيها ستقوم بالرد عليها شخصيًا، معظم المشكلات عادية لا تحتاج استشارة منها.
تضحك قائلة لنفسها
(حلالة المشاكل تحتاج لطبيب نفسي يحل مشاكلها (!
يا لها من سخرية قامت بجولتها اليومية، نشرت إحدى الرسائل من العضوات تسأل فيها عن طريقة نقل أوراق مدرسة أطفالها من منطقة إلى أخرى، لم تعلق تابعت التعليقات، استغربت لغباء السؤال، فالطريقة لا تحتاج كل هذه الأسئلة من صاحبة المشكلة، ولكنها لم تهتم؛ فالكثيرات من بنات جنسها مصابات بمتلازمة لا اعرف زوجي يفعل كل شيء، لكن ما لفت نظرها، أن صاحبة المشكلة لا تريد لزوجها أن يعرف مكان مدرسة أولادها الجديدة! هل هي من المعنفات؟ هل فرت من زوجها لأنه يرغب في أن يأخذ أطفالها؟ أكثر من سيناريو جاء في مخيلتها وجميعها ضد الزوج ! طبعًا في قانونِها دائمًا الرجل مذنب.
قامت بإرسال رسالة خاصة لصاحبة المشكلة قد تفهم منها أكثر لتساعدها، لم تتلقى أي إجابه فتابعت نشاطها في هدوء.
*****
في الوطن خلف مكتبه العصري، يجلس ساجي سليم القاسم، حفيد عبدالرحيم القاسم، المدير العالم لواحدة من أكبر مصانع منتجات الألبان واللحوم في البلاد، ساجي في منتصف الثلاثينات رغم أن حدة ملامحه قد تعطيه أكبر من عمره الفعلي، كما أن الشهادات التي نالها في التجارة والاستمارات والبرمجيات، تعد كثيرة بالنسبة لعمره، لطالما كان ساجي من المتفوقين في دراسته، وكثيرًا ما درس دورتين في نفس الوقت، وذلك ما جعله منطوي على نفسه في طفولته وفترة المراهقة، لكن ذلك لم يمس تأثيره على الجنس اللطيف، فعيناه ذواتي اللون الأزرق الأقرب للرمادي وملامحه الحادة شديدة الجاذبية، وشعر الأسود الناعم، مع بشرته التي استعارت من الشمس لونها جعلته مميزًا وجذابًا جدًا، كل ذلك مع اسم عائلته ومكانته جعلته فارس أحلام الكثيرات، رغم زواجه في سن مبكرة من ابنة عمته، إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرات من الارتماء تحت قدميه، ربما لعدم معرفة الكثير عنه.
لم يكن ساجي يومًا زير نساء، لم تكن العلاقات العابرة تثيره أبدًا، حتى عادت معشوقة قلبه التي قلبت كيانه منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره.
فُتح الباب ودخل إياد يصرخ:
- ساجي هل عرفت بالمصيبة؟ لقد مات البقر في المزرعة والخسائر تعد بمئات الآلاف! ماذا سنفعل في هذه الكارثة؟
- أين سراج أليس هو المسؤول عن المواشي؟ كيف يحدث ذلك؟ أريد تحقيق فوري، ويجب أن تتأكدوا أن لا تصل هذه الأخبار لصفحات الانترنت، وإلا سوف تكون كارثة فعلًا.
ما يصل إلى صفحات النت ينتشر كالنار في الهشيم، هذا ما فكر به ساجي، يجب أن يتصرفوا قبل أن يعلم أحد بالكارثة  فتكثر الاشاعات والأقاويل لتكبدنا خسائر مضاعفة.
قام بالاتصال بسراج ليعرف العله، أجابه سراج لاهثًا كأنه في سباق ركض:
- القصة ليست مصادفة! أحدهم قام بتسميم المياه؛ لتموت جميع الماشية!
ألجمته الصدمة، هل هناك عدو لهم؟ نعم لديهم منافسين كُثر، لكن لم يتجرأ أحدهم على فعل ذلك من قبل! حتى عندما كانت المجموعة صغيرة، لم يحدث تخريب أبدًا، ومن داخل المزارع! هذا يعني شيء واحد، هناك خائن بينهم.
*****
في صالة العيادة النسائية، كانت غسق تنظر إلى الورقة التي أعطتها لها الممرضة، بعد أن كشفت عليها بجهاز الأمواج فوق الصوتية، فقد سمعت نبض جنينين ومات الجنين الثالث، اقترحت الممرضة أن تذهب للعيادة الخارجية، فهي من تقوم بالإجهاض! كانت غسق تبكي بصوت مكتوم عندما اقتربت منها امرأة تكاد تكون في نفس عمرها، طويلة ذات شعر قصير، يكاد يغطي رقبتها، بشوشة رغم الالم في عينيها الجميلتين.
- لماذا تبكين؟ (قالتها بلغة أجنبية)
لكن غسق لم تكن في مزاج يسمح لها بالرد عليها بلغتها فقالت:
- يا ربي ارحمني!
- آه عربية، أهلًا أنا سارة زين، وأنتِ.
ابتلعت غصة كي لا تصرخ باكية وتنحنحت قائلة:
- غسق ديب.
- اسم فني جدًا. (قالت سارة مازحة)
إلا أن غسق لم تبتسم لها، بل نظرت لها بدون تعبير، عقدت حاجبيها قائلة:
- واضح أن الموضوع مهم.
ثم أخذت الورقة من يد غسق وقرأتها بملامح مصدومة، لتسالها:
- لماذا تريدين الإجهاض؟
*****
نزلت سما من سيارة زوجها تعدل ملابسها، ألقت نظرة على أطفالها وعدلت ملابسهم بإعجاب، لابد أنهم أجمل من أطفال إخوتها جميعهم، دائمًا كانت تتفاخر بشكل أطفالها، الذي ورثوه عن والدهم، عكس أطفال أختها ذوي البشرة السمراء، وأخيها الذي لم ينجب سوى الإناث! ها هي سما تتباهى بأولادها الثلاثة، دخلت فوجدت الجميع يضحكون، ربما بسبب نكته لم تسمعها، لكنها ظنت أنهم يضحكون عليها، خصوصًا أختها الكبرى صاحبة القلب الأسود كما تلقبها دائمًا!
سما بنبرة من يريد مشاجرة: على ماذا تضحكون؟
لترد الأم: أهلًا سما، تعالي سلمي عليّ، لا أستطيع الوقوف.
-أهلًا أمي، كيف حالك؟ لقد جلبت الأولاد لكن...
قاطعتها قائلة: تعالوا يا أحبتي لقد اشتقت إليكم.
ذهب الأطفال إلى جدتهم ثم أسرعوا في اتجاه باقي الأطفال، يلعبون معهم، فيما بقت سما مسلطة نظرها على شقيقها وزوجته هبة، المتغطرسة، وأختها وزوجها يحيى، الذي هو أقل من مستوى عائلة زوجها.
- أهلًا سما كيف حالك؟ أهلًا وسام.
صافح سامي أخته وزوجها بغير حرارة، كذلك فعلت زوجته وأختها سمر، لكنها لم تصافح وسام، فهي تعرف غيرة سما، أما يحيى فلوح من بعيد وأكمل ما يفعل من شواء، فاليوم عيد ميلاد والدتهم؛ لذلك تجمع الإخوة معًا، في العادة يتجنب سامي وسمر، سما دائمًا، فما فعلت ليس هين ولا يغتفر، لكن فقط ارضاء لِوالدتهم يحاولون أن يتقبلوها في مناسبات معينة متباعدة، جلست هبة بقرب سمر وأخذتا تتحدثان دون الالتفاف لسما، أما سامي ويحيى انشغلا في الشواء، وقف معهما وسام، رغم معرفته أنهما لا يطيقانه إلا أنه كان دائمًا متطفل لا يهتم برأي أحد، أما سما فقد اتخذت مكانًا بجانب أمها تتذمر.
- رأيتِ يا أمي كيف استقبلتني ابنتك! إنها تأخذ صف هبة ضدي، تفضل الغريبة على أختها.
قالت أمها بهدوء: هي لا تأخذ صف أحد، ثم إنها ليست حرب! تعرفين أن هبة وسمر مقربتين لأن سمر تحب سامي فتقربت من زوجته.
- أعرف أنها تكرهني وتغار مني ذات القلب الأسود.
- سما! أرجوكِ كفي عن هذا الكلام، وحاولي إصلاح علاقتك بإخوتك، لن أعيش لكِ دائمًا، وأنتِ أصبحتِ بلا سند، أخاف عليكِ من زوجك أن يستضعفك! هل مازال يضربك؟
انتفضت سما من داخلها لكن لم تظهر شيء بل قالت ووجهها تعلوه بسمة:
- لا أبدًا كانت غلطة، وسام يحبني جدًا يا أمي، هل نسيتِ أنه اختارني وفضلني عن...
- اغلقي الموضوع يا سما، كلنا نعرف ماذا حدث وقتها، وأنتِ تعرفين أن أختك لم تكن قد رأته أصلًا.
امتعض وجه سما وقالت: ماذا تعنين؟! هل أكذب؟ هو اختارني وقرر أن لا يرى أخرى لأني الأجمل.
قالتها وهي ترفع وجهها بغرور وتنظر في اتجاه سمر، لكنها لم تجدها تنظر إليها وهو ما أصابها بخيبة أمل!
- يا إلهي! صدقي ما تشائين، لستِ صغيرة، كل ما أتمناه أن تسترضي إخوتك.
- من يسترضي من؟! هم من طردوني من حياتهم، حتى لم يرفعوا سماعة الهاتف ويسألوا عني عند انجابي، طبعًا هذا من غيرتهم، واحدة تنجب معاق والآخر إناث.
قالت أمها في حزم: سما، لن أسمح لكِ أن تتجرئي على أحفادي كما فعلتي مع إخوتك هذا لآخر تحذير وإلا!
أنزلت رأسها والغضب يأكلها، ثم رسمت ابتسامة زائفة وقبلت رأس والدتها
- آسفه أمي فقد انفعلت.
مر اليوم مشحون والكل يحاول يتجنب المشاكل، وتعليقات وسام السمجة، عند غروب الشمس دخلت سما لفيلا سامي الجديدة، فهي لم تدخلها أبدًا منذ أن بناها وسكنها مع والدته، كما بنت سمر فيلا ملاصقة له ليكونا قرب بعض دائمًا، العلاقة لم تكن دائمًا جيدة بين سمر وسامي في الطفولة، بل كانا دائمي الشجار لكن موت والدهم وقصة الميراث هو ما قرب بينهم، كما أنهم ثلاثتهم كانوا دائمًا يحبون بعض رغم كل شيء، إلى أن...
عند هذه النقطة توقفت سما عن التفكير لا تريد أن تعيد الماضي ليس في مصلحتها دخلت إلى البهو الكبير لترى الأرضية الرخامية بالون الأسود مطعم بالذهبي، لابد أنه غالي الثمن، فكرت سما وألقت نظرة على الأثاث مزيج بين الرقي والحداثة لم تصدق مدى روعته.
منذ متى امتلك سامي هذا الذوق؟ ومن أين له بالأموال ؟ كانت نظراتها تتجول في المكان حتى لمحت مصعد في آخر الرواق!
فشهقت: مصعد في المنزل هذا كثير!
قالتها بصوت عالي دون أن تدري.
جاءها صوت من خلفها يحمل في كل حرف نبرة غضب شديد: كثير على من بالضبط ؟
انتفضت بقوه وقالت: لقد أفزعتني.
ألقى عليها نظرة مشمئزة وتابع:
- لم تجاوبي السؤال كثير على من؟
قالت محاولة تغير الموضوع: مبروك، الفيلا جميلة بل هي قصر.
لم يرد عليها بل ظل ينظر إليها بنفس النظرات:
- ماذا تفعلين هنا من سمح لكِ بالدخول لمنزلي؟
اتسعت عيناها وقالت: هل أنا ممنوعة من الدخول لمنزل أبي؟
- ليس منزل أبيكِ، منزل أبيكِ قمتي بِالاستيلاء عليه زورًا وبيعه أم نسيتِ؟
ابتلعت ريقها وقالت: هذا منزل أمي، إذن فهو منزلي.
ضحك ضحكة مخيفة وقال: أمك حقًا! هذا منزلي وليس مسموح لكِ بأن تدنسيه بقدمك، اخرجي قبل أن أجعل الخدم يقومون بطردك، وليكن في معلوماتك الشيء الوحيد الذى يجعلني أنظر في وجهك دون أن أمزقه هي أمك، فلا تتجاوزي حدودك حتى لا أنسى وجودها.
امتلأت عينيها بالدموع وخرجت مسرعة إلى وسام قائلة: هيا بنا.
- لماذا لازال الوقت مبكرًا؟
ردت وهي تُصِرُ على أسنانها: أنا متعبة.
نظر خلفها لوجه سامي المحتقن وعرف أنها قالت شيئًا أثار غضبه فاستقام، وقال بنبرة مرحة:  نحن سوف نستأذن، كما تعرفون سما أكثرت من الأكل ويجب أن تنام مثل الدب بعد وجبة دسمة وأطلق ضحكة مجلجلة.
ظلت صامتة طول الطريق لشقتها، وهو لم يكف عن تأنيبها، لأنها لم ترغب أن يبدأ الشجار أمام أطفاله، يكفي ما شاهدوه.
بمجرد دخولهم للشقة جذبها من حجابها ولفها له؛ ليضربها على خدها بكفه الكبير، وقعت أرضًا من شدة الضربة، داس عليها وضربها بقدمه على ظهرها ثم أخذ العصا الموجودة خلف الأريكة وأخذ يضربها وهي تصرخ تطلب الرحمة منه،  بعد عدة ضربات تركها ودخل غرفته يستحم كأنه كان يمارس رياضة.
بقيت على وضعها لفتره من الزمن، ثم استقامت وذهبت لترى أطفالها، أطفالها الذين اعتادوا على اعتداء وسام عليها، حتى لم يعد يؤثر بهم، وجدتهم ناموا، ماعدا الصغير اختبأ أسفل السرير من الخوف، أخرجته وربتت على وجنتيه.
حاولت أن يخرج صوتها غير باكي: لم تختبئ هنا يا صغيري؟ ألم أقل لك أنهُ
خطأ؟
- ماذا فعلتي أمي؟ لم ضربك أبي؟
حتى الصغير مقتنع أنها أخطأت.
- آسفه لن أفعلها مرة أخرى.
لا تعرف لماذا تعتذر؟ لكنها أرادت أن تجعله أفضل، وضعته في فراشه، وذهبت لغرفتها، دخلت تستحم بماء دافئ قد يخفف عنها الوجع، فهذه ليست أول مرة ولن تكون الأخيرة.
*****
في منزل سامي كانت هبة تساعد حماتها لكي تستلقي في فراشها الواسع، فقد أصيبت بالشلل منذ فترة، مما جعل سامي يضع مصعد كهربائي خصيصًا حتى تبقي غرفتها بالقرب منه وليس بالأسفل.
قالت أم سامي: هاتي ما عندك يا هبة.
تنحنحت هبة وقالت: أريد أن أسألك سؤال ولكن أخشى أن تغضبي أو تحزني
مني؟
- أعرف ماذا تريدين أن تسألي! لماذا لم أعاتب سما وسامحتها، بل وأصر أن تأتي لزيارتي هنا بعد كل ما فعلته؟
فتحت هبة عينيها على اتساعها ثم قالت: نعم كيف ذلك؟ لو قامت إحدى بناتي بظلم أختها هكذا لما سامحتها بل قاطعتها، وبقيت أدعي عليها، كيف تقفين في صف الظالم هكذا؟ بل تجبرين سامي وسمر على أن يتعاملا معها؟
لم يظهر التأثر على وجهه أم سامي، مرت لحظات، حتى سقط قلب هبة خوفًا لعلها تجاوزت حدودها، وقد يسبب ذلك مشاكل مع سامي، فهي تعرف أنه لن يتحمل حزن أمه.
- أبدًا لأني أنا السبب!
انتشل صوت أم سامي هبة من أفكارها، فنظرت لها غير مستوعبة ما قالته للتو.
- أنا من جعلت سما بهذه الأنانية.
أكملت بصوت تملأه الحسرة:
- والد سامي لم يرث الأموال، بل ولد في عائلة بسيطة جدًا، تعب جدًا، واصل الليل بالنهار، كان يمكنه أن يسافر إلى إحدى الدول الغنية ليكون ثروة في وقت قصير كما يفعل الكثير، لكنه فضل البقاء بقربي وقرب أولاده، سامي وسمر ورفض مساعدتي؛ رغم أن عائلتي تملك المال كما تعرفين، وذلك جعل من مهمته صعبة جدًا، أن تبدأ من الصفر في بلدك ليس سهلًا بل مستحيل تقريبًا.
تابعت وكأنها تعيش الماضي من جديد:
- لقد حُرِمَ سامي وسمر من كل متع الطفولة حتى الملابس الجديدة، كنت آخذ لهم القديم من أبناء العائلة، لم تحصل سمر على دمية جديدة أبدًا، أذكر مرة قام أحد الأقارب بجلب ألعاب جديدة لهم، فرحوا بها جدًا، لكن أبناء ذلك الرجل قاموا بمعايرتهم أن والدهم لا يستطيع شراء الألعاب لهم، يومها قامت سمر بلف الدمية وأعطتها لقريبي قائلة: لا أحب الدمى، أعطها لابنك فهو يعشق ألعاب الفتيات!
قُمت بضربها أمامه لأني شعرت بالحرج، لم أكن أعرف ماذا فعل الطفل لها، لكنها لم تبكى.
أكملت بحسرة: عود سامي وسمر نفسيهما على الاستغناء عن كل ما لا يستطيعان الحصول عليه.
كانت هبة تنظر إليها بعينين مفتوحتين يملأها الألم تارة، والفخر تارة أخرى. تغيرت نبرتها قليلًا لمزيج من الفرح والخزي:
- عندما تحسن وضعنا أنجبت سما، ولم أحرمها من شيء أبدًا كان كل شيء يأتيها قبل أن تطلب، تعاملت معها كأنها طفلتي الأولى وليس الثالثة، ونسيت سمر ولم اهتم بها، كانت سمر تكبر سما بقرابة سبع سنوات، يعني لازالت طفلة وترغب هي أيضًا في الدمي والألعاب وبعض ملابس الفتيات، لكني غفلت عنها.
امتلأت عيناها بغيمة من الدموع لم تصمد كثيرًا حتى نزلت على خديها:
- لم أهتم بكلام والدها، لطالما حذرني بأني أربي وحشًا من الأنانية ،عندما ترغب سما بشيء تأخذه وأنا ساعدت على ذلك، لا يهم من يخص سامي، سمر، أي شخص، طالما سما طلبت سأنفذ لها! سمر ابتعدت، ولم تعد تهتم بي أو بها، أصبح كل اهتمامها دراستها وعملها مع والدها كذلك فعل سامي، تجنبا كلاهما سما كيلا يغضباني، كان غضبي شديدًا جدًا ودائمًا أقف في صف سما دون حتى أن أعرف السبب!
عندما تقدم وسام لخطبة سمر، لم يكن رآها من قبل، وهي لم تكن ستوافق عليه لكنها وافقت على مقابلته فقد من أجل إرضائي، لكن سما طبعًا لم يعجبها الأمر كيف لسمر بأن تخطب لشخص وسيم جدًا مثله!
سكتت قليلًا كأنها لا تستطيع المتابعة.
أمسكت هبة يدها وقالت بصوت يقطر ألم: لا داعي لأن تكملي اعذريني.
ربت على يدها وأكملت كأنه حمل ثقيل ترغب في التخلص منه وهذه فرصتها الوحيدة:
- ذهبت سما لمقابلته من وراء الجميع.
شهقت هبة واضعة يدها على فمها، نظرة أم سامي كانت كافية لتعرف مقدار الحسرة في قلبها.
لتكمل قائلة: وتعددت لقاءاتهما دون علمي أنا شخصيًا والتي كنت أظن نفسي قريبة منها، وعندما حل اليوم المقرر لمقابلة وسام وسمر، اشترط وسام أن يكون في المنزل، تفاجأنا بأنه أحضر والدته وأخته لخطبة سما، والتي كانت قد جهزت نفسها كعروس مسبقًا، أذكر يومها قام والد سامي بطرده شر طرده، وانقلب المنزل وعندما سألنا سما قالت أنه أعجب بها عندما رآها صدفة لأنها أجمل من سمر فقرر خطبتها، اذكر شجار سمر وسما وما بثته سما من سموم بأنها حقودة وتحمل اتجاهها غيرة؛ لأنها عاشت في فقر عكسها، وهنا صدم الجميع حتى أنا! ولكن نظرات الاتهام وجهت لي طبعًا، فأنا من كنت أخبر سما بذلك بأنها ابنة عز عكس أخويها، أنا من ربيت في داخلها حس الأنانية المفرطة، كان زوجي رافضًا لتلك الزيجة تمامًا، فهي لازالت طالبة في الثانوية أولًا، ثانيا، هذا سوف يقطع الصلة بين الأختين فكيف ستتجمع العائلة في وجود هذا الشخص؟ سما ستظل تغار من أختها، وأي لفتة أو كلمة من سمر ستفسرها تفسير خاطئ، وسمر لن تنسى أن سما أهانتها بذلك الشكل وأخذت ما يخصها.
صرخت: لكن سمر لا تريده منذ البداية وأنت تعرف، لذلك هذا ليس عذرًا،
قال بيأس: صدقيني سوف ينقسم البيت، سوف تكره الأختان بعضهما! وسامي ألم تفكري فيه؟ ما هو موقفه، كيف سيتصرف؟ وأخته قامت بخيانة أخته الأخرى!
ما هو منظره أمام زوجته وأهلها؟ ثم إن هذا الشخص خائن كيف يسمح لنفسه بذلك، يدخل بغرض خطبة فتاة ثم يخرج مع أختها الصغيرة! هذا يبين أي رجل هو ومدى تدني أخلاقه! تعقلي يا سميحة، لا توسعي الهوه بينهم أكثر مما هي عليه.
شردت سميحه بنظرها كأنها ترى زوجها أمامها ثم أخرجت تنهيدة حزينة:
- لم أهتم بكلامه، صممت على تحقيق رغبة سما، وحدث ما قاله لي بالحرف، والاسوأ تعرفينه.
كانت هبة تريد أن تكمل معها الحديث فهناك الكثير مما لا تعرفه، سامي وسمر لا يتحدثان عن الماضي، وما تعرفه لا يشبع فضولها، لكنها لم ترغب في زيادة الضغط على تلك المرأة فما عانت يكفي ويزيد.
ـ تعرفين!
انتفضت بقوه على صوت أم سامي وهي تقول دون النظر لها:
- أحيانا استغرب لم لا تكرهني سمر؟ لما لم تعاتبني أو تعقني يومًا! فأنا عققتها طول حياتها ولم أجد منها ذلك؟
لم تكن تنتظر الإجابة بل استمرت...
- أحيانًا أتمنى لو تغضب أو تعاتبني، تلومني، تصرخ، لكني أجد العكس، أعرف أنها لا تحبي كما كانت تحب والدها.
نكست رأسها وهي تقول: أو كما تحب والدة زوجها، لكنها لم تقصر معي أبدًا وهذا يقتلني.
ثم شردت بعيدًا وظهر الألم على وجهها ثم تابعت:
- كما أن هناك دينًا قديمًا! هو ذنب ليس دينًا في الحقيقية! وها أنا أدفع ثمنه بل أتمنى ذلك قبل أن أقابل وجه ربي، عله يغفر لي ما فعلته قديمًا، حتى وإن لم يغفر لي من أذنبت في حقِهم...

يتبع

غسق الماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن