وأنا أمشي على رصيف الخيبات التي أدمنتُها معك، اكتشفتُ – فجأة – أن شيئا بداخلي توقف عن النزيف الذي سببتْهُ جراحك.
لم أعد أشعر بالأسى تجاهك، ولا بالمودة نحوك.. لم أعد أشعر بالألم في داخلي، ولا بمرارة حبّك وفقدك اللّذيْن اجتمعا في قلبي مُذ عرفتك.
اختفت تلك الأعراض التي تصحب كل خصومة معك: حالة اكتئاب عامة، فقدان الشهية، وإيثار العزلة والانطواء على الذات.
لا أدري كيف حدث هذا، ولكنني أدركت أن شيئا ما تغيّر بداخلي – أنا المستعصي على التغيّر – عندما لم أستطع حتى أن أغضب منك وقد استحضرتُ عشرات الأسباب التي توجب ذلك.
هل يمكن أن يموت الحب؟ هكذا.. دون سابق إعلان، ودون مقدّمات.. تنطفئ الشعلة التي توقد القلب، فيستحيل معها ركام السنين التي قضيتها معك إلى شيء هامشي بعدما كان محور الوجود.
أراك أمامي على غير الصورة التي رأيتك فيها أول مرة.. ما الفرق؟ أهي السنوات التي أخذت منا بعض ماء الحياة، أم هو القلب الذي لم يعد يسكن في عينيك؟ أكنّا حينها عاشقين، أم ساذجين.. ونحن نظن أن حبّنا سيبقى، ما بقيت الحياة.. نمضي فينقل صدى أنفاسنا لمن خلفنا، ويُخبرهم أنّنا مررنا من هنا، محمَّلين بعاطفة تسع الكون كلّه!
كلانا يشهد: غيّرتنا السنون.. أخذت منّا ذلك الشغف.
وكلانا يعترف: كلما اقتربنا، ازددنا بعدا!
عند كل خيبة أتذكرك.. أحاول تفجير نبضي يا من اقتربتِ مني إلى حد الابتعاد.
لو كنت أملك سذاجة اللقاء الأول لقلتُ: “ما أشبه الحياة بقوس قزح.. سماء تبكي وشمس تضحك.. يتعانقان شوقا ومواساة فتتفجر الألوان”.
كان ذلك نصف الحقيقة فقط.. أما نصفها الثاني فقد تكفّل الحب بإذاعته: “هذه الأمراض التي أُصاب بها: شيخوخة مبكّرة، فقدان المناعة العاطفية، ألزهايمر، وأخطرها: تبلّد الإحساس”!
هكذا تعلّمتُ منك بعد كل هذه السنوات: الحبّ هو همزة (فصل) بين روحين.. والألم: قاسم مشتركٌ بين قلبين.. يجمعهما الفراق.
لطالما تساءلتُ: ما قيمة حب لا يصلح أن يكون ضمادةً توقف نزيف الذاكرة!
ولطالما صرختُ: أيها الحب المطرّز بعطرها.. لا تخذلني! أيتها الذكرى المطرزة بحبها.. لا تخذليني!
كان الجواب الوحيد الذي استمعت إليه هو “الصمت”! اكتشفتُ – كما حكماء الخيبة الأخيرة – كم هو ثرثارٌ ذلك الصمت الذي يسكننا، هو ذا صداه يَصمُّ الآذان!
لكلٍّ طقوسه في الحزن على الميّت: بعضهم يلهج بدعوات الرحمة المصبوبة على قبره. البعض يبكي، والبعض يثمل حتى ينسى وجع الذاكرة.. أما أنا فلم أجد طقسا أمارسه لأعلن الحِداد.
كان السواد يَلُفُّ الصورة التي رسمتها عنك.. غطّتكِ كملاءة تستر النساء فلا يظهر منهن شيء. لم أجد مدفنا للذاكرة، ولم أحتج إلى خمرة تنسيني وجعك. وما احتجت إلى دموع تغسل ما تبقى منك بداخلي. كنتُ واقفا هناك، وحدي، وقدْ أصابني الحب بأخطر أعراضه “تبلّد الإحساس”!
لو كان لي أن أشرح لك ما حدث، بعدما انتهى كل شيء، لقلت ببساطة الكلمات ذاتها: “خرجتِ من الباب الذي دخلتِ منه: القلب”.
***
عندما قرأ عليها نصّه الجديد قالتْ متعجبة: ما أفظعه! كيف يمكن لرجل أن يستبدل قلبه بصخرة قاسية؟ على الأقل كان عليه أن يحفظ الودّ.. القلب الذي ذاق الحبّ لا يمكنه أن يكره أو يحقد أبدا!
- أهنّئك.. لقد صنعتَ بطلا متوشحا بالسواد.. مصابا بعمى الألوان.. أضمن لك أن القراء سيكرهونه عندما يستمعون إلى صدى تفكيره! لكن كيف واتتك الفكرة في خلق شخصية كهذه؟
كان متأهبا للمغادرة عندما استوقفه سؤالها.. التفت إليها ورمقها بنظرة فارغة ثم غادر. لم يكن يملك شجاعة التلفظ بضمير المخاطَب “أنتِ”.