الخاتمة

3K 134 17
                                    

الخاتمة - حرب مع الرّاء

صفّت الاحجار قرب شاهد القبر وجلست امامه .. الاحجار التي لطالما سخر منها .. كانت هواية غريبة .. منذ ان احبته وهواية جمع الاحجار تحولت الى شئ اكبر .. صارت تجمع الاحجار لفكرة انها سوف تبني يوماً بيتها معه .. قد يبدو تفكيراً غبياً بالنسبة الى طبيبة متمرسة في مجالها .. لكن جانب الانثى منها لم يتوقف عن ارتكاب الاحلام الحمقاء .. مسحت قليلاً فوق الشاهد تتبع بأصبعها اسمه المحفور عليه "مصطفى" همست بالاسم وقد انتابتها غصة .. مضت سنتان على الامر .. لكنها تذكره كأنه البارحة .. كأنها ليلة امس فقط كانت تجلس وسط الشارع بثوب عرسها تبكي وتولول على موت زوجها .. "لقد قتلوك الذين كنت تحارب لأجلهم مصطفى ،، لقد قتلوك عراقييون مثلك .. بلا ذنب اقترفته في حقهم .. هذا ما جلبته الطائفية فوق رؤوسنا .. هذا ما جلبه الاحتلال .. لقد تمنيتَ دوماً أن تموت شهيداً .. لكنك اخذت غدرا وظلماً .. مجرد رصاصة طائشة وجدت طريقها اليك .. والى قلبي .. " .. ترقرقت عيناها بالدموع .. هي ككل الباقيات في بلادها .. لا تستطيع ان تفرح دون ان تحزن .. كم واحدة جلست جلستها هذه امام حبيب او اب او اخ او زوج .. كم عراقية خسرت رجلاً كان يعني لها الحياة كما عنى لها مصطفى .. نهضت من مكانها .. هذا قدر العراق .. هذا قدر بلادنا .. قدرنا ان نطعن في الظهر من اقرب الناس الينا .. وأن نبكي طويلاً كلما نوينا الفرح .. وأن نموت ببشاعة كلما اردنا العيش بكرامة .. مشت مبتعدة عن قبره وهي تردد بسخرية "أذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر!"
*
وقف أمير ينظر الى حوراء الساهمة .. كانت تحب ان تقف وحدها في تلك الحديقة حيث اكتشفت للمرة الأولى حقيقة حبه لها .. يعرف انها في كل مرة تعيد على نفسها ذات المشهد وفي كل مرة تأتي بعد هذه الوقفة المتأملة اليه معانقة .. تهمس له "احبك اميري" .. هذه المرة كانت مختلفة قليلاً .. فحوراء تحمل في رحمها طفلهما .. ثمرة حبهما الصعب .. الحب الذي جناه بعد سنوات كثيرة من الانتظار .. لكن حوراء كانت تستحق كل دقيقة من ذلك الوقت الذي امضاه يحبها في صمت .. السنتان الماضيتان كانتا من اروع ما مرّ في حياته .. بعد استشهاد مصطفى رحمه الله بدت حوراء كأنها في حالة ذهول غريبة .. لأنها بطريقة ما فقدت رجلاً عنى لها الكثير .. استلزمه كامل طاقاته وهدوءه حتى لا يجرحه حزنها على مصطفى .. كانت تلك اخر اصعب اللحظات التي عاشاها .. بعدها بفترة عادت حوراء الى طبيعتها .. وربما ازداد الحب بينهما اكثر .. من ناحيتها هي .. لأنه منذ ان عرف معنى الحب وهو يحبها بكامل قدرته وقوته .. انتهت وقفتها المتأملة أخيراً .. عادت اليه مبتسمة ثم كما كان يتوقع تماما عانقته وهمست "أحبك أميري"...
*
"ماتيو توقف عن رفعه هكذا سوف يسقط" صاحت انجل بخوف وهي تنظر الى ماتيو يرفع ادم في الهواء عالياً ثم يعود فيتلقاه بينما يقهقه ادم بفرح .. غمز لها ماتيو وهي يحمل الطفل "لماذا انتي "هوّافا" كما يقول جو" .. رمقته بأنزعاج "اسمها خوّافة .. من اين اتت عائلتكم المجنونة بهذا اللفظ الغريب .. علي ان اقتل زوجي لأنه يحاول ان يعلمكم لغة مشوّهة" .. ضحك وهو يقول "الفرصة سانحة فزوجكِ خلفكِ" التفتت بسرعة وهي تشهق بفرح "يوسف" .. وركضت اليه .. لقد كان مسافراً لثلاث ليالي لأجل عمل مهم .. وهي تكاد تموت شوقاً اليه .. راقبها ماتيو مبتسماً وهي ترتمي في حضن زوجها ووجه حديثه لآدم "ألم تقل انها سوف تقتله ..؟" .. ثم عاد يرميه الى الاعلى لينطلق صوت ضحكاته .. بينما انجل كانت تعتصر يوسف بذراعيها وهي تهتف "لقد اشتقت اليك" بادلها عناقها بواحد أقوى وهي يدور بها قائلاً "لم تفارقيني للحظة .." .. اخيراً عندما انتهت لحظة اللقاء الحار هذا اعادها لتقف على الأرض بجانبه وسألها حين شاهد ماتيو يرمي ابنه "هل قتلتيه ام لي شرف الجريمة؟" .. ضحكت "كنت على وشك ان اقتلك في الحقيقة" رفع حاجبه "وهل انا من ارمي طفلنا العزيز في الهواء؟" هزت رأسها وهي ترفع سبابتها امام وجهه مهددة "بل أنت من علّمت عائلتنا لغة فضائية يعتقدون انها العربية" ضحك بقوة "انها لغة تخاااابوووول" .. سددت لكمة خفيفة لصدره "سوف اعاقبك لاحقاً" وفهم يوسف تماماً أي عقاب تعني .. نظر الى اخيه الذي لوح له من بعيد مرحباً .. ابتسم له .. لقد تحسنت علاقتهما كثيراً خلال السنتين الماضيتين .. العائلة كلها كانت تتقدم نحو الامام فيما يتعلق بالاواصر الأسرية .. الان وهو يدخل هذا البيت لم يعد يراه قصرا فخماً .. بل مكان دافئ يجمع عائلته .. من بعيد جائت مايا تركض وخلفها تينا .. مرحبتين بيوسف .. حمل يوسف ابنته وقبل خدّ أخته وسألها "هل سيأتي جورج اليوم؟" قالت بسعادة "بالتأكيد .. واوصيك خيراً به" .. غمز لها "لن آكله حياً .. سوف أتأكد من شويه اولاً" وضحك وهو يراقب ملامح تينا القلقة .. فسارعت انجل تطمئنها "انها طريقته الغريبة في القول .. انه موافق" عانقت تينا اخاها بفرح ثم انجل وركضت مبتعدة .. منذ بضعة اشهر تعرفت تينا على جورج واليوم ستقدمه للعائلة رسمياً وبعد البحث والاستقصاء تم التأكد ان الشاب جيد جداً .. وقرر جوبيتر وأولاده استقباله في البيت .. رغم ان الامر بدى غريبا على عادات انجل العراقية لكنها مع هذا لم تهتم .. اختلاف العادات لا يعني ان الحواجز قائمة .. بل يعني فقط ان لكل منا وجهة نظر ولكل منا طريقة في عيش هذه الحياة وفي النهاية الود والتفاهم هو ما يهم .. نظرت الى زوجها الذي ينهال بالقبل على وجه مايا وابتسمت .. لقد مر الوقت سريعاً .. وقد استمتعت بكل دقيقة فيه وما زالت تملك عمراً كاملاً لتستمتع به مع يوسف .. لأنها كل يوم تكتشف لهذا الرجل جانباً اروع من الذي اكتشفته البارحة .. هل ستتوقف يوماً عن حبه؟ امر مستحيل! .. في اليوم التالي اخبرها انهما ذاهبان الى رحلة وانهما سيتركان التؤام في رعاية العائلة .. رغم اعتراضها على ترك الطفلين الا انه اصر كما انه اصر على عدم ذكر المكان .. وهكذا استسلمت له .. كيف لا تستسلم وهو يطلب منها بتلك الطريقة التي تجعلها لا تستطيع الرفض ! عندما تعرفت الى الطريق الى الكوخ على الساحل صاحت بحماس .. لقد اشتاقت الى الكوخ .. الى ايامهما الهادئة فيه .. مضت اشهر طويلة لم يذهبا الى هناك .. عندما وصلا طلب منها ان تتهيأ لعشاء فخم على الساحل .. ارتدت ثوباً بلون الاصداف البيضاء وخرجت اليه .. طاولة يتيمة وكرسيين استقرا على الرمل الدافي والمساء على وشك الحلول .. ووقف هو ببذلته الرسمية .. يتلاعب النسيم بخصلات شعره .. وخفق قلبها ككل مرة تراه فيها واقفاً بعيداً عنها .. اجتازت المسافة بسرعه .. تكره ان تفصلهما اي مسافة حتى ولو شبر ! .. حالما وصلت اليه مد يده يأخذ يدها ليقبلها .. همس لها "تبدين كالبحر .. اروع من ان توصفي" .. ابتسمت له بهيام وهو يسحب لها المقعد لتجلس .. عشاء بسيط جداً .. لكنه رائع .. لم يتكلما كثيراً .. لكن العيون فعلت ... بعد العشاء افترشا الرمل .. وراقبا النجوم .. اخيراً مد يده الى حقيبة صغيرة كانت تستقر على الرمل بجانب المعقد .. واخرج كتابا قدمه لها وهو يقول "لقد انتهيت منه .. وهذه النسخة الأولى" الفرحة على وجهها لم يكن لها وصف .. حملت الكتاب بين يديها على مهل كأنها تلمس شيئاً مقدساً .. تطلعت الى العنوان .. كان منذ سنتين "لعنة" لكنها بعد ذلك تفاجئت به وقد غيره الى "هِبةَ" .. فتحت الكتاب ليطالعها الاهداء "الى هِبة الرب إلي .. الى الرئة التي تبقيني على قيد الحب .. أهدي هذا الكتاب اليكِ .. لتعلمي انكِ الوطن" دموع تأثر سالت على خديها وهي تلتفت اليه معانقة .. وتهمس بأمتنان "بل أنت هبتي يا حبيبي.. شكرا لك .. شكرا" .. بعد ذلك غابا في لحظات حب عميقة .. حب لا يكمن فقط في القبل او العناقات ... حب يبدأ لمسته في الروح اولاً .. ليبقى الجسد مجرد وسيلة تعبر عن الروح وما فيها .. عندما حل الفجر .. كان يوسف يغط في نوم عميق على الرمال بجانبها .. وابتسامة رضى تعلو وجهه .. قضت الوقت كله تتأمله .. وعندما بدأت الشمس بالظهور على استحياء .. نهض تتأمل امواج البحر الواسع .. في اول يوم تزوجت فيه يوسف ظنت ان الفاصل بينهما اكبر من مدى هذا البحر .. اكبر بكثير .. فاصل بحجم وطن .. واليوم بعد كل هذا الوقت وكل هذا الحب تدرك ان الفاصل بينهما كان دوماً لا شئ .. فالوطن كان دوماً يوسف .. وطن شخصي جداً .. وطن رائع جدا .. لقد احبت رجلاً على مساحة وطن .. ووطن على مساحة رجل .. فهل هناك ما يضاهي روعة ان تكون واقعاً في حب وطن؟

🌺تمت🌺

كونوا بالقرب مع الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب تحت عنوان "رقصة سما"

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 13, 2021 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

حرب مع الراء!..(الجزء الأول من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن