دخل أنس الغرفة يزور شقيقته ويرى كيف صار حالها، رأت فيه فرصتها في الهروب، أقنعته أن يساعدها بالحصول على المفتاح الخاص بغرفتها دون توضيح الغرض من ذلك.
رفض في بادئ الأمر ولكنها أقنعته بطريقتها الخاصة وبإصرارها المستمر، استسلم في النهاية وأخبرها أنه سيحاول لكنه لا يعدها بالنجاح.
رضيت هي بذلك متأكدة من نجاحه، فلا أحد من عائلتها يحاول في أمر ويتركه دون أن ينجح به؛ فإما أن يناله وإما لا يحاول من الأساس؛ هم لا يقبلون الفشل.
في تمام الثامنة والثلث، دخل إليها أنس وقد حصل على المفتاح، قبلته شاكرة وتناولت حقيبتها الصغيرة التي سبق وأن أعدتها فور انصرافه؛ فلقد خاف من بطش أخيه إن رأه.
تسللت إلى الخارج فقد اعتادت على ذلك، وانطلقت تركض بعباءتها السوداء والحجاب الأسود، تقاوم كلما تعثرت حتى تلحق به قبل أن يرحل.
وصلت إليه وكان على وشك الرحيل، رأها فترجل من سيارته وانتظرها حتى وصلت إليه، رأى الحقيبة التي تملكها فعلم أنها قررت أن تختاره أخيراً، ابتسم في سعادة وحاول أن يضمها لكنها دفعته بعيداً بغضب.
- لا
أومأ متفهماً وحمل عنها حقيبتها وساعدها على الصعود إلى مقعدها بجواره، انطلق بسيارته الجيب ينهب الطريق بسرعة، كان ذهنها مشتتاً رغم وثوقها في صحة قرارها في البداية إلا أنها الآن تشعر أن ما أقدمت عليه سيجعلها تندم لما بقي لها من حياة .. مما جعل الخوف يتسرب إلى قلبها ولكن هيهات فهي لم ترجع عن قرار أتخذته من قبل ولن تتراجع الآن.
توقف شادي في استراحة على جانب الطريق ليعيد تعبأة الخزان بالوقود وانتهز الفرصة لإحضار بعض الطعام فمازال أمامهم الكثير قبل الوصول إلى القاهرة.
رأته يتحدث إلى الهاتف ولكنها لم تهتم فقد عادت تشرد فيما فعلت، ظلت تطرح على نفسها العديد من الأسئلة دون أن تجد لها إجابة شافية، هل علموا بغيابها الآن ؟، ما رد فعلهم على إختفاءها ؟، هل سيحزنون لفراقها أم سيعتبرونها كأنها لم تكن؟ ...
أفاقت عندما وضع شادي أكياس الطعام والشراب فوق فخذيها طالباً منها تناول بعضها فيبدو أنها لم تذق الطعام منذ عدة أيام.
تنهدت بقوة وبدأت تأكل رويداً رويداً ولكن المحصلة في النهاية أنها أنهت كل الطعام؛ كأنها تعمل على تخزينه ليفيدها خلال الأيام المقبلة.
***
دخل إلى الغرفة المخصصة له في السكن، ألقى جسده فوق الفراش لا يستطيع حتى نزع حذاءه، اتجه إليه شريكه في السكن فزعاً من مظهره وحالته التي تتدهور يوماً عن يوم.
- إيه اللي حصلك يا حمزه ؟؟
أجابه بتعب دون أن يفتح عينيه: مافيش حاجه .. مجرد إرهاق
نهره صديقه بغضب: دي مش طريقة شغل، أنت لو عايز تنتحر مش هتعمل ف نفسك كدا
أولى ظهره إلى صديقه قائلا بتأفف: يوووه أنت وماما عليا يا مُسعد !
- ما هي ليها حق طبعاً، أومال لو شافتك كدا دلوقتي هتعمل فيك إيه ؟؟
- طب سيبني أنام دلوقتي
- يا ابني أنت لا أول ولا أخر واحد ف الدنيا خطيبته هتسيبه عشان لاقت واحد تاني معاه فلوس وجاهز
أكمل: طب أحمد ربنا إنها جت على قد خطوبة وما وصلتش للجواز
انتفض حمزه ونسي النوم الذي كان مسيطراً عليه، هتف بغضب: أنا كنت قتلتها
ربت مُسعد على كتفه: طب الحمدلله إن ربنا نجاك منها بسرعة، بلاش تعاقب نفسك على حاجه مالكش ذنب فيها
فرك وجهه ورأسه: المشكلة إني كان ممكن أبقى جاهز من أول يوم شوفتها فيه بس أنا مكنتش حابب أعتمد على أبويا، كتر خيره إنه علمني وكبرني كمان هو اللي هيجوزني زي البنات ؟؟، أساساً حمل نجلاء مش سهل، لحد دلوقتي بابا بيساعدهم من وقت للتاني، كنت عايز ابدأ حياتي معاها بمجهودنا إحنا بس هي ما قدرتش واختارت الطريق السهل.
- ما تندمش أنك عرفت شخص وطلع مش قد توقعاتك وثقتك فيه ... لإنه دا هينمي عندك خبرة في الحكم على الناس ع المدى الطويل، يا سيدي أديك كسبت معرفة الشخص الواطي بيبقى عامل إزاي !، وعلى فكرة الحكاية دي مش بالساهل ها !
أضاف بجدية: وخلاص زي ما باعتك بعها والبادي أظلم زي ما بيقولوا ولا إيه يا باشمهندس؟
ابتسم حمزه بهدوء: معاك حق يا صاحبي
- يلا بقى قوم خد دوش عشان الساعة داخله على أربعه الفجر، وعقبال ما تخلص يكون الفجر أدن نصليه مع الجماعة بره وبعدين نريحلنا ساعتين قبل الشغل
نهض ينفذ ما أخبره به صديقه وبينما يضع رأسه أسفل الماء المتدفق من الكوب حيث لا يوجد في موقع العمل ذاك نفس الرفاهية المتاحة بالمدن والقرى عقد العزم على أن يخرجها من عقله نهائياً فهي حقاً لا تستحق أن يفكر بها حتى ولو بالسوء.
***
كانت الساعة تدق الخامسة صباحاً عندما وصلوا إلى القاهرة، انطلق إلى المنزل حيث يعيش وكانت حياه قد هيمن عليها سلطان النوم فلم تستطع منه فراراً.
كان المنزل ليس مجرد شقة بل إنه يمثل فيلا تحتل قطعت أرض ليست بالصغيرة بل متوسطة لكنها تقع في منطقة معزولة ... فلا يحيطها سوى حديقة يبدو من مظهرها أنه يتم الإعتناء بها جيداً، وأقرب منزل مجاور على بعد لا يُستهان به.
لم يرد إيقاظها بعد أن صف سيارته في جراج المنزل الخاص؛ فحملها بهدوء إلى الداخل وجعلها ترقد على أحد الأسرّه، لم تشعر بشئ بل استمرت في نومها هانئة.
***
انتهى الطبيب من فحص الطفلة مبتسماً بحنان، ناولها قطعة حلوى صغيرة لتتسلى بها في الخارج مع الممرضة بينما ينتهي من حديثه.
سأله أحمد: خير يا دكتور ؟
تنهد الطبيب: مع الأسف لسه مافيش تحسن ف حالتها
سقطت دمعة من عين سمية وهي تسأل: يعني مافيش أمل ترجع تتكلم تاني ؟
- الأمل مش بيموت يا مدام سمية، وطول ما في رب اسمه كريم يبقى أكيد فيه أمل، بس الفرق إنه التحسن دا هيحصل إمتى ... فالله به أعلم
سمية: بس مش طبيعي لطفلة ف سنها إنها ما تتكلمش، تروح المدرسة وترجع مش بتحكي إيه اللي بيحصلها، ولا صوت ضحكتها بنسمعه
لخص زوجها ما تريد قوله: يعني من الأخر البنت عايشه سن مش سنها، وشايله هموم أكبر من عمرها
نهض الطبيب من مقعده خلف المكتب ووقف يحدثهما مفكراً: اللي البنت مرت بيه نفسه كبير على عمرها، رد فعلها جه بردو كبير، بس أرجع وأقول الحمدلله فيه حالات تانية بيحصلهم رد فعل أفظع من كدا، فعلاً حالات لا يعلم بيها إلا ربنا.
تمتمت سمية: ربنا يشفي كل مريض ويصبر أهله
رددا خلفها: أمين
سأل أحمد: طب والعمل دلوقتي يا دكتور ؟
الطبيب: هي محتاجه حب وإهتمام، كمان محتاجه حاجه تقدر تخرجها من الحالة اللي هي فيها ويكسر القوقعة اللي محاوطه نفسها بيها
تساءل الزوجان في عدم فهم: إزاي يا دكتور؟
- الحاجه إيه هي بالظبط مش عارفها، بس حاجه أو حدث يخليها تتخلى عن موقف عدم الكلام اللي واخداه حاجز بينها وبين اللي حواليها، حاجه ما ينفعش تتحل إلا لو اتكلمت
- ودا نعمله إزاي؟
عاد إلى مقعده وأمسك قلمه يخط بعض أسماء أدوية: خلوها تاخد العلاج دا بانتظام وربنا يسهل، لما يجي أوان شفاها أكيد هتلاقوا الحاجه دي حصلت تلقائي
تناول أحمد الورقة من يد الطبيب ونهض برفقة زوجته، اتجها إلى الممرضة شاكرين لها اهتمامها بالطفلة ثم صحبوها معهم عائدين إلى المنزل.
***
تقلبت في نومها وفتحت عينيها على مهل، رأت سقفاً مزخرفاً وحوائط عاجية اللون، انتفضت .. هذا ليس بمنزلها فأين هي ؟؟؟، تحسست رأسها لتجد حجابها الأسود كما هو؛ لقد انزاح قليلاً جراء نومها لكنه ما زال فوق رأسها، نهضت ترتدي خفيها خارجة لتبحث عن شادي فهو أخر من كانت معه.
تلمست طريقها إلى الغرفة التي سمعت صوت التلفاز يصدر منها، رأت شادي يجلس أمام الشاشة مستمتعاً بالفيلم الكوميدي المعروض لكن ما أدهشها أن هناك ثلاث فتيات يجلسن إلى جواره، إحدهن ملتصقة به ويدها تسريح على كتفه قطبت جبينها متسائلة عن هوية تلك الفتاة.
لاحظت فتاة من الأخرتين وقوفها على الباب فنادت على شادي لتلفت نظرها إليها.
نهض شادي فور رؤيته لها دافعاً بيد الفتاة بعيداً: أخيراً صحيتي ؟؟ كل دا نوم يا مفترية ؟
سألته بهدوء: هي الساعة كام ؟
أجابها بعد أن نظر إلى ساعة معصمه: الساعة 3 العصر
فغرت فمها في دهشة: أنا نمت كل دا ؟؟
ابتسم: ما يهمكيش، المهم إننا مع بعض دلوقتي
هبت الفتاة التي كانت تجلس إلى جواره وقالت ساخرة: مش هتعرفنا يا شادي؟
قدمها لهم وبدأ بتعريفهم عليها، أشار إلى من شغلت بالها أكثر: دي جميلة أختي التوأم، فعشان كدا هتلاقينا قريبين من بعض جداً
نظرت إليها حياه مستغربة، كيف تكون توأمه وليس بينهما أي وجه للتشابه فهي ذات شعر أشقر وإن كان مصبوغ عيون خضراء ولكنها أيضاً صناعية، نفضت عن رأسها هذه التساؤلات فلا يبدو أن ما تراه هو حقيقتها لتستطيع الحكم .. كما أن أغلب التوائم لا يشبهون بعضهم فعلياً.
أشار إلى التي تليها وكانت فتاة بيضاء الوجه سوداء الشعر والعينين، شعرها شديد النعومة والإنسياب على عكس شعرها المجعد، لم يدهشها إعلانه أن نيفين هي شقيقته الوسطى لكن ما أدهشها حقاً نظرة الشفقة الممزوجة بالحزن التي رأتها في عينيها.
نزعت عينيها عنها قصراً لترى أخته الثالثة والصغرى إنها فتون وكانت حقاً تحمل من اسمها الكثير فعينيها رمادية كعيون القطط البرية ورموشها طويلة تضيف إلى جمال عينيها سحراً لا يقاوم، كل هذا يصحبه بياض البشرة وشعر بني في جذوره ويميل إلى الذهبي عند أطرافه.
هؤلاء هن شقيقاته، لم يخبرها عنهن من قبل لكن لم يجمعهم شيء مشترك، فلا واحدة تشبه الأخرى ... لا بل يتشابهن، فثلاثتهن يرتدين ملابس قصيرة تستحي هي من التفكير في شراءها حتى، فواحدة تلبس فستان لا يصل إلى منتصف ركبتيها والأخرى ترتدي قميصاً صبيانياً فقط، أما أكثرهن احتشاماً فكانت نيفين حيث كانت ترتدي بنطال يتجاوز ركبتيها بقليل وفوقه تي شيرت بنصف كُم.
أشار لها لتجلس قائلاً: بصي بقى إنتي هتفضلي قاعدة هنا معاهم لحد ما نشوف حل ماشي؟
نظرت إليه مستفسرة: أنت لسه هتشوف حل ؟، ما الحل موجود
سألتها جميلة بسخرية: وإيه هو بقى يا سنيورا ؟؟
تجاهلت سخريتها مجيبة: إننا نتجوز
صرخت جميلة: نعم ياختي ؟؟
أومأ لها شادي أن تهدأ والشرار يتطاير من عينيه لتصرفها: استني يا جميلة، بصي يا حياه الجواز مش بالسهولة اللي إنتي فكراها دي
تحدثت بتحدي: ليه يعني ؟ أنا عندي 23 سنة يعني مش قاصر وأقدر أتجوز اللي أنا عايزاه وموافقة بظروفك إيه اللي يمنع بقى ؟
- اللي يمنع إنك لسه ما تعرفنيش كمان لسه ما رتبناش أمورنا ولا اتعودتي ع الجو اللي هنا، كمان عندي شغل ضروري لازم اعمله
شعرت بالمهانة وأن كبرياءها قد اندهس فنهضت من مقعدها، قائلة بتماسك: خلاص يبقى أنا ماشيه من هنا ولما بتبقى تخلص اللي وراك، واللي يمنعنا من الجواز يختفي أبقى دور عليا
أمسكها من ذراعها ضاغطاً على أسنانه: هتروحي فين ؟
هزت كتفيها بلا مبالاة: ف أي حته مش فارقه
نظر شادي إلى فتون لتتحدث وتحاول إقناعها، أومأت واتجهت إلى حياه مبتسمة: طب وليه ما تقعديش معانا هنا يا حياه ولا إحنا مش عاجبينك ؟
- لا طبعاً، هأقعد معاكوا إزاي وفي واحد غريب هنا ؟
شادي مدعياً الحزن: بقى أنا غريب يا حياه ؟
أومأت بثقة: مادام مافيش رابط حقيقي بيني وبينك تبقى غريب
أمسكت جميلة بذراعه: خلاص روح خلص شغلك أنت يا شادي ولما ترجع تبقوا تتجوزوا، وأهو إحنا بنات بس اللي هنا هترفضي تقعدي معانا بردو ؟
أسرع شادي: هما يومين .. أظبط الشغل وأرجع نتجوز على طول
فتون بتوسل: يلا بقى يا حياه بلاش تزعلينا منك
مررت نظراتها بينهم بالتساوي حتى توقفت عند تلك العيون الصامتة التي تنصحها بأن ترفض بل تخرج من هذا المكان فوراً، ألا تستسلم لتوسلاتهم، لكنها لم تفهم كل تلك الكلمات فليس لديها الخبرة الكافية في لغة العيون كل ما استطاعت رؤيته تلك النظرة الحزينة المشفقة عندما نطقت بموافقتها على عرضهم.
تهلل وجه شادي بالأخص وقرر أن يحضر غداءاً فخماً للأحتفال بهذه الليلة، معتبرها حفلة خطبتهما.
***
أسرعت الخطى في طريقها إلى المدرسة، إنها المرة الأولى التي تتأخر فيها إلى هذه الساعة فالساعة الآن تتجاوز الثامنة والنصف، لقد تأخرت في نومها بسبب انشغال بالها مما جعل النوم لا يصل إلى جفونها حتى وقت متأخر من الليل.
حيت الحارس، الذي يحمي أعراض الكثير من العائلات بدءاً من الطالبات وصولاً إلى المعلمات، مع ذلك يتقاضى مجرد فتات، بل يصل ببعض الأهالي أن يلقوا عليه بعض الكلمات الحادة والحديث الذي يسم البدن كما يقولون.
سخرية القدر هي أن يكون شخص مثله يتقاضى بضعة قروش نهاية كل شهر، بل إنه إذا مرض أو لم يتواجد ليوم واحد خُصم ذلك من راتبه الذي لا يرقى ليكون راتباً من الأساس بينما أخر وظيفته أن يجلس خلف مكتبه دون فعل شيء في مكان كان غيره أولى به لكنه حصل عليه بالوساطه وتدخل أصحاب النفوذ الذين يعرفهم فيتقاضى أجراً بالألاف إن لم يكن أكثر على عمل يكلف به غيره ليقوموا به.
طرقت على باب غرفة المديرية لتعتذر لها عن التأخير، لكنها وجدتها تقف أمام طفلة وتقوم بتقريعها على تأخرها المستمر.
- أنا مش عارفه أهلك فين، لا حد بيسأل عنك ولا حاجه، كل يوم تأخير مافيش يوم تيجي ف معادك
وقفت الطفلة تضم كفيها وتنظر أرضاً قائلة: أسفة يا أبله مش هأكررها تاني
المديرة بصرامه: كل مرة تقولي كدا وترجعي تتأخري، كل مرة باعديها لكن المرة دي مش هتعدي ، اتفضلي روحي بيتك ولو باباكي أو مامتك ما جوش مش هترجعي هنا تاني، إنتي فاهمه ؟؟؟
بكت الطفلة متوسلة: والله يا أبله أخر مرة، عشان خاطري مش هأعملها تاني
أشفقت حنان على الطفلة فتدخلت: خلاص يا مدام سناء، هي مش هتكررها تاني
نظرت لها المديرة بتعجب: هو إنتي تعرفيها يا حنان ؟، بعدين البنت دي من أول السنة وهي ع الحال دا
حنان مبتسمة: على ضمنتي المرة دي يا مدام سناء
نظرت المديرة لوجه الطفلة الغارق بالدموع وطلب حنان الأول منها، وافقت فهي تحترم حنان بشدة وترى فيها نفسها أيام الصبا.
أومأت حنان للمديرة شاكرة ثم تناولت يد الطفلة وصحبتها معها، أوقفتها على باب فصلها الذي أخبرتها عنه ثم هبطت لمستواها تمسح الدموع من فوق وجنتيها الشاحبتين.
ابتسمت: ادخلي احضري الحصة بتاعتك وف الفسحة تعاليلي الأوضة بتاعت المدرسات ماشي؟
أومأت الطفلة في صمت وتركتها، نظرت إليها حنان بحزن فيا ترى ما سر الحزن الدفين في عينيها اللوزيتين .. فمن المفترض ألا تعرف سوى الفرح والمرح.
***
ليس كل ما يهواه المرء يناله، تأكد لها هذا عندما أخبرها الطبيب بأنها ليست حاملاً، وأن العلاج لم يؤثر بها حتى الآن، جلست على مقعد في حديقة عامة ترى الأطفال يركضون هنا وهناك، لقد حرمها الله من نعمة الأمومة، لم يكن لها ذنبها ولكنها تخاف أن يحملها زوجها حملاً أكبر من قدراتها على الاحتمال.
هو الآن لا يعترض لا يلومها لكن في المستقبل عندما يبدأ التعب في التمكن من جسده والمرض يظهر على السطح وعمله يزداد اتساعاً، وقتها هل حقاً لن يتمنى أن يرزقه المولى تعالى بطفل حتى وإن كان من غيرها؟
عند هذه الخاطرة شعرت بالغيرة تنهش قلبها، لا يمكنها أن تتحمل امرأة أخرى في حياة زوجها، أن تلمسه ويلمسها، تقبله ويقبلها، يضحك لها وتبادله الضحك، إنه زوجها هي من حقها وحدها.
نهضت بتكاسل فيجب عليها العودة لتستعد لاستقبال زوجها، ستوليه المزيد من العناية حتى لا تدع له مجالاً للتفكير بالزواج من أخرى.
في خضم ظنوننا ننسى مشاعر غيرنا، أن ما نظن أنه سيعجبه في الحقيقة قد لا ينال رضاه، فاذا كان الحب عامراً بينهم يبدأ الكتمان والصبر في الظهور، ليتحولا في وقت لاحق إلى ضغط، ولكن لن يستمر الضغط والكبت طويلاً حتى يولدا الإنفجار لكن ليس كأي انفجار، إنه انفجار يتحول فيه الظالم إلى مظلوم والغالب إلى مغلوب.
***
مر أسبوع كامل على غياب شادي، كانت تفكر في عائلتها وما يحدث لهم الآن لكن ما الجدوى لقد ظنوا بها ما ظنوه فلا إختلاف الآن.
الشك تسرب إليها، شادي يتهرب من الزواج بها، لم تحب يوماً أن تحكم على الشخص بدون دليل، اتخذت قرارها ستتحدث إليه عندما يعود اليوم مساءاً فإذا لم يعد يرغب في الزواج منها فلترحل عنه.
نظرت في المرآة متعجبة، إنها لا تهتم إذا تزوجها أما لا، كيف ذلك وهي من المفترض أنها تحبه.
جلست على الأريكة الموجودة إلى جوار النافذة، لقد قرأت أن من يحب لا يستطيع العيش بعيداً عن حبيبه، كم من بطل وبطلة قاموا بالانتحار عندما فقدوا من يحبون، لماذا هي لا تشعر بأنها إذا ابتعدت عنه ستختنق أو كأن روحها ستقتلع من داخلها.
"يبدو أني لم أكن أحبه من الأساس، نعم .. لقد كان تحدياً لأن أبي رفض أي علاقة تربطني به وسجنني أخي في غرفتي يمنعني عن رؤيته، إذا تركا لي مطلق الحرية لكانت فسخت خطبتي لشادي الآن".
لقد اتفقت كل من حياه وسلمى على زواج الحب، ليس زواجاً تقليدياً كما حدث للعديد من صديقاتهم، حققت سلمى ذلك بغض البصر عن طريقته وزواجه الأخر.
يجب أن تحادثه بجدية، ستخبره حقيقة مشاعرها، لم تعد ترغب في الزواج منه، فليعيدها إلى عائلتها أو يسمح لها بالرحيل .. هم بالنهاية أهلها سيغضبون منها في البداية لكن سيسامحونها بالأخير.
ابتسمت بسعادة عندما فكرت بعودتها إلى منزلها، حقاً لم يكن يجب عليها الرحيل، ما كان هناك من داعي للعناد ووضع تحديات ليس لها أساس من الصحة، أعدت حقيبتها وقد أحكمت فكرة العودة برأسها ثم جلست تنتظر عودته.
***
رفعت حنان نظرها عن الدفاتر التي تقوم بتصحيحها، وجدت الطفلة التي قابلتها في غرفة المديرة تقف على بُعد خطوات من مكتبها مترددة في التقدم أكثر.
تركت ما بيدها ونادتها لتقترب، سألتها: قبل ما نتكلم ف أي حاجه مش تقوليلي اسمك بقى عشان أعرف أنادي عليكي ولا إيه ؟
همهمت الفتاة: سمر
ابتسمت حنان: عاشت الأسامي يا سمر .. ممكن بقى تقوليلي إيه اللي بيخليكي تتأخري دايماً ع المدرسة ؟
تجمعت قطرات الدمع في عيني الصغيرة ولم تجب، أشفقت عليها حنان وحاولت أن تساعدها على الحديث: تعرفي، أنا إنهارده اتأخرت على المدرسة بردو، أول مرة أعملها .. عارفه إيه السبب ؟
نظرت لها سمر بحيرة وترقب فتابعت شاعرة بالإنتصار لأنها لفتت ذهن الطفلة إليها: عشان تيته اللي كانت بتصحيني كل يوم إنهارده راحت عليها نومه هي كمان وعشان أنا نمت متأخر بليل مش زي كل يوم بدري
تمتمت الفتاة بحزن: ما أنا ماما ماتت فمافيش حد بيصحيني بردو
كأن قبضة حديدية اعتصرت قلب حنان حتى أدماه، لا يا صغيرتي ماتزالين صغيرة على هذا الحزن وهذه الفرقه.
تمالكت دموعها وهمسن بحنان دفاق: أنا ماما ماتت بردو وأنا صغيرة بس ما زعلتش .. عارفه ليه ؟
سألتها سمر بتعجب: ليه ؟
ربتت على شعرها: عشان أنا عارفه إن هي راحت عند ربنا، وربنا هيخلي باله منها أكتر مني ويدخلها الجنة، هتبقى مرتاحه من المشاكل والزعل، هتبقى قاعدة ف مكان كله أخضر من الشجر والزرع وحواليها ورد في كل مكان ومعاها الناس الكويسين بس وكمان هتكون مع باباها، ومش هتزعل تاني أبداً أبداً
- أيوه، بس هي بتوحشني
– ما هي بتوحشني بردو، بس لما بتوحشني أوي أوي بأقعد ادعي ربنا عشان يخلي باله منها واقرالها قرآن وأصلي كتيررر وقعد أقول يا رب ماما وحشتني أوي صبرني يا رب
- وإيه اللي بيحصل؟
- بأحس إني مبسوطة خاالص، وقلبي بيرتاح لإن ربنا بيحسسني إنها مرتاحه كمان كأنه ربنا بيطبطب على قلبي ويقولي ما تخافيش هي كويسة وأنا معاكي كمان ومش هنخلي حد يزعلك ولا يضرك
ثم أضافت وهي تغمزها بمرح: لما تحسي إنها وحشتك .. اعملي زيي وشوفي هتحسي بإيه وابقي تعالي قوليلي .. إتفقنا ؟
أومأت الفتاة باسمة، تجرأت حنان وسألتها: بس هو مش بابا معاكي عشان يصحيكي للمدرسة ؟
عاد الحزن يتجلى في عينيها، همست: بابا مسافر
نظرت إليها بتعجب: أومال قاعدة مع مين ؟
لم تستطع حنان سماع ما همهمت به فطلبت منها أن تعيد ما قالت، كررت الطفلة برهبة: مع مرات بابا
سألتها بتردد: مش بتحبيها ؟
حمدت حنان الله على عدم وجود باقي المعلمات في الغرفة لتتحدث معها بحرية دون أن تشعر الفتاة بالخجل، أضافت بابتسامتها الحنون: ما تخافيش مش هأقول لحد أي حاجه تقوليها، دا هيبقى سر بيني وبينك
شعرت سمر بالراحة لهذه المعلمة، لقد استطاعت حنان أن تدخل إلى قلبها دون مجهود يذكر، حدثتها الفتاة بما تحمله في قلبها الصغير: طنط مش بتفضالي، مشغوله على طول
- يعني مش بتصحيكي للمدرسة ؟
- لا، هي بتقولي لو عايزة تروحي مدرسة ابقي صحيّ نفسك
شعرت حنان بالحنق على تلك المرأة ولكنها قالت: طب ما تظبطي المنبه
نظرت أرضاً مرة أخرى: رن مرة وأنا ما صحتش على طول راحت كسرته وقالتلي إن مش عشان أنا هأصحى لازم البيت كله يصحى معايا
صمتت حنان تحاول الوصول لحل فعال فإلقاء اللوم على الأب أو تلك الزوجة ليس حلاً عملياً بل إنه لن يحل المشكلة، خطرت ببالها فكرة: إنتي ساكنه فين يا سمر ؟
أخبرتها سمر بعلامة مميزة في طريقها، هتفت حنان: إيه دا !، دا إنتي ساكنه قريب مني بقى، بصي يا سوسو أنا بأكون في المدرسة هنا الساعة 7 ونص، بس مافيش مشكلة لو جيت بعدها بشوية يعني .. أنا هأعدي عليكي في البيت قبل المعاد بتاع المدرسة بوقت كافي عشان تلبسي ونيجي المدرسة سوا وتلحقي الطابور كمان إيه رأيك ؟
لم تصدق سمر نفسها: بجد يا أبله ؟
- بجد يا حبيبتي، على الأقل مش هأمشي الطريق دا كله لوحدي ولا رأيك إيه ؟
عقدت الطفلة ذراعيها خلف عنق حنان: أنا بحبك أوي يا أبله
ضمتها حنان بقوة إلى صدرها وهي تشتم عبيرها: وأنا بحبك أكتر
قبل أن تخرج الدموع من محجرها أبعدت سمر عنها قائلة: يلا روحي كُلي سندوتشاتك بقى عشان الفسحة قربت تخلص
لم ترد، قلقت حنان فسألتها عن سبب صمتها، أجابت: أصل أنا مش معايا سندوتشات
- ليه ؟
- أصل .. أصلي نسيتهم لما كنت نازله بسرعة
علمت حنان أن الفتاة لم تخبرها الحقيقة ولكنها تجاهلت الأمور حتى لا تسبب المزيد من الحرج، قالت باسمة: طب أنا معايا سندوتشات بزيادة ناكلها سوا بقى إنتي واحد وأنا واحد .. كفايه عطلتك عن الفسحة
وافقت سمر صامتة وتشاركتا الوجبة سوياً، لقد كانت الطفلة شديدة الجوع لم تشعر أنها التهمت جميع الشطائر في ذات الوقت الذي تناولت فيه حنان شطيرة واحدة، حزنت على حالها فيبدو أن لا أحد يهتم بها ولا يتأكد من حصولها على الغذاء الكافي.
عندما أنهت سمر أخر شطيرة بيدها طلبت منها حنان: سمر، أنا هأطلب منك طلب ويا ريت ما تكسفنيش ... كل ما تضايقي أو تحصل معاكي مشكلة تعالي واحكيلي، اعتبريني زي ماما –الله يرحمها-.
تبسمت الفتاة وقبلت معلمتها: حاضر يا أبله
حنان: يلا بقى روحي الفصل عشان جرس الفسحة ضرب
ركضت سمر إلى فصلها مسرعة، فكرت حنان بأن تخبر والد سمر عن حالة الفتاة ولكنها تذكرت أمر سفره فقررت تأجيل ذلك إلى وقت أخر.
أصبح الناس قساه، تحجرت القلب وتيبست كجذوع الأشجار؛ ليستبدل الحنان بالقسوه، الحب بالكره ، الشفقة باللامبالاة، الإيثار بالأثره .. مما حول المجتمع إلى غابة يجور فيها القوي على حق الضعيف.

أنت تقرأ
رُزقت الحلال
Romanceإلى كل من رأى أن خطأه لا يغتفر وأنه ما عاد هناك طريق للعودة فلتعلم .. أنا أبواب التوبة دائماً مفتوحة على مصرعيها لا تقفل ساعة أو تستريح حيناً فإذا أدركت خطأك وأين مربطه .. قاومه .. عالج داءك بيدك وقوتك التي وهبها الله لك فلتكن حراً من كل قيد وأسر فل...