شعرت بالحرارة تكاد تُطبق على أنفاسها، حريق يندلع بأحشاءها دافعاً النوم بعيداً، تلهث في محاولة لإلتقاط أنفاسها الضائعة، ارتدت إسدال الصلاة وخرجت إلى الشرفة بيدها كوب من الحليب البارد أملاً في إخماد شعلة صدرها، لم تكن تعلم أنه سيهيج حرقتها أكثر حتى أطلعت الطبيب في وقت لاحق.
قاومت الدموع لكنها أبت أن تبقى في محبسها فهطلت تريحها وترتاح، لقد مرت عليها الجلسة أصعب من سابقاتها تمنت خلالها العمل بنصيحة حياه وإخبار أحد بما تمر به، مع ذلك لم ولن تخبر أحد مهما عانت .. فهذا ليس ذنب سواها ليشاركها المعاناة كذلك ليس ذنبها .. عادت النقمة تملأ صدرها فلم هي ولما يحدث لها هي بعينها.
وُضعت يد على كتفها وصوت يتعجب من سهرها إلى تلك الساعة: إيه اللي موقفك في البلكونة دلوقتي يا نجلاء؟
كفكفت دموعها بسرعة شاكرة لضعف الإضاة حتى لا يستشف بكاءها: أبداً، قلقت شوية فقولت أشرب كوباية لبن عشان أعرف أنام
تشكك: إنتي مش على طبيعتك بقالك فترة .. حصل حاجه ؟
سألته متوترة: لا هيكون فيا إيه يعني ؟؟
أومأ صامتاً، يعلم أن هناك ما تخفيه عنه منذ فترة فهو لا يعرفها منذ الأمس فقط لكنه أبى الضغط عليها وتركها حتى تأتي إليه تقصّ ما تمر به بإرادتها.
***
تململت في فراشها بضيق، حركت يديها في الهواء علها تبعد تلك الهمهمات التي تفسد عليها سباتها .. لكن بلا جدوى.
ركزت لتلتقط الكلمات جيداً لعلها تنتهي منها حتى تعود لنومها من جديد: يا بنتي كفاية نوم .. دا إنتي لو ما نمتيش بقالك سنتين كان زمانك صحيتي .. ع العموم إنتي حرة .. أنا عملت اللي عليا ولو فاتك الفجر حاضر مش ذنبي بقى
بمجرد أن إلتقطت أذناها كلمة "الفجر" حتى انتفضت وسألت بفزع: هو الفجر أذن ؟
اعتدل واقفاً: أيوه .. قولت أصحيكي قبل ما أروح المسجد مع الجماعة
نهضت من فراشها بينما غادر هو إلى المسجد، أدت فريضتها واستكانت على سجادة صلاتها تسبح وتذكر الله.
عاد بينما تُنهي تسبيحاتها، لمحت نظراته المتعلقة بها مما جعل الإحمرار يكسو خديها، اقتربت منه ونظرها لا يتزحزح عن موضع قدميها: أنا أسفة ..
نظر لها مندهشاً: بتتأسفي ليه ؟
هزت رأسها بحرج: عشان الكلام اللي قولته إمبارح ومعاملتي ليك .. ماكنتش أقصد صدقني
رفعت رأسها تنظر إليه بعيون تحمل براءة العالم داخلها، رأى الصدق والتوسل الحقيقي كي يغفر لها كلماتها .. تلك الكلمات التي لم تكن لتعبر شفتيها سوى لخوفها عليه، أمن المعقول أن يكون ظلمها .. أنها ليست بتلك البشاعة التي ظنها، أنها مجرد ضحية من ضحايا وحوش زماننا .. لم يستطع أن يُبقي على غضبه من كلماتها أكثر فارتسمت إبتسامة مغفرة على شفتيه جعلت شفتيها تردها له أكثر جمالاً وحلاوة.
- شكراً
شرد في عذوبة صوتها ورقت همسها، قبل أن يتمتم ببلاهة: على إيه ؟
اتسعت ابتسامتها: عشان صحتني أصلي الفجر .. كان هيروح عليا لولاك .. مش عارفة ما سمعتش المنبه إزاي
- بس عادي .. إيه يعني لما يفوتك الفجر؟ .. ممكن تصليه صبح عادي
هزت رأسها بقوة: لا .. أنا أخدت عهد على نفسي إني أصلي كل فرض ف وقته مهما كان .. وبعدين صلاة الفجر ليها طعم تاني عكس لما أصليه صبح
أومأ بصمت، عادت للحديث: أنا هأنزل أساعد زهرة ف تحضير الفطار
أوقفها بسؤاله: أنا بقالي يومين هنا وما شوفتش البلد .. ممكن بعد الفطار تفرجيني عليها؟
قُرعت طبول قلبها بسعادة وأومأت بفرحة: أكيد .. هتعجبك أوي أصلاً
تركها تركض بحبور تقفز على درجات السلم، كأنه أسمعها من الغزل ما يجعل القلب يهوي إلى القدم فيما تعجب هو من ذاته، لما عرض عليها ذلك فجأة دون تفكير؟؟
***
أغلق الدُرج متأففاً، نسى أين وضع الملف منذ يومين، فتح أحد أدرف خزانة الملابس وبحث بين طيات الأقمشة بلا جدوى ..
انتقل إلى درج طاولة الزينة لعله وضعه هناك في حين غفلة أو وضعته هناك نجلاء، فتش في الدرج بينما يُدخل ذراعه الأخرى في سترة البذلة .. وجد ظرفاً تعجب شكله وحجمه، أخرج محتواه ووضعه على طاولة الزينة بينما أمسك الظرف بين شفتيه محاولاً قراءة محتوى الأورق في نفس الوقت الذي يحارب لإدخال ذراعه الأخرى في السترة.
سقط الظرف من بين أسنانه وتشتت نظراته فوق سطور الكلمات، نادته نجلاء عدة مرات لكن ما من مجيب، وقفت على الباب مؤنبة: بقالي ساعة بأنده عليك .. يلا الفطار جاهـ ..
قطعت جملتها عندما تتبعت نظراته المسلطة على الأورق أمامه، نظر إليها وعينيه تلتمع بشدة هامساً: ليه خبيتي عليا ؟
بكت وانهارت أرضاً: ماكنتش عايزه أشيلك همي
دنى منها وعاونها على النهوض، أجلسها على طرف السرير وسحب مقعد طاولة الزينة وجلس أمامها .. يديه تحتوي كفيها، كاتماً دموعه سألها بصوت متهدج: عرفتي من إمتى؟
هزت كتفيها وبدأت تروي له كل ما مرت به، حتى ما تتسبب فيه الجلسات الكيميائية من أعراض جانبية وألم بالإضافة للحالة النفسية.
شعر أنه مكبل بالأصفاد، هي تعاني وتتألم بينما ليس بيده شئ ليخفف عنها، انضم إلى جوارها وضمها إلى صدره، غمرتها دموعه رغماً عنه وعنها.
***
سارا جنباً إلى جنب بعدما ترك حمزه السيارة التي استعارها من محمود على جانب الطريق، كانت حياه تشير له إلى هذا المكان أو ذاك .. تشرح له تاريخ محافظتها باستفاضة: إحنا دلوقتي في منطقة أبيدوس .. المنطقة دي ارتبطت بأسطورة إيزيس وأوزوريس وأكيد أنت عارفها
- أيوه .. هههه محسساني إني جيت من بطن أمي على هنا ما عدتش على مدارس خالص، يا بنتي أنا خريج فنون تطبيقية .. عارفه يعني إيه فنون تطبيقية ؟؟
- خلاص ما تزوقش بس.. المهم نرجع لموضوعنا.. أبيدوس دي كانت عاصمة مصر في عصر ما قبل الأسر والأسر الأربعة الأولى .. وكانت المركز الرئيسي لعبادة الإله أوزوريس وكان المصريين زمان بيحجوا ليها عشان يبكوا على الإله أوزوريس حارس الحياة الأبدية ..
بعد سير في المعالم الأثرية ومشاهدتها لأكثر من خمس ساعات .. جلسوا في أحد المطاعم يتناولون غداءهم .. سألها حمزه بُغتة وهما في إنتظار وصول الطعام: إنتي ليه لابسه على طول أسود من ساعة ما جينا ؟ .. والطرحة سودا .. حتى مافيهاش خرزة ملونة واحدة
ابتسمت ثم وضعت كأس الماء بعد أن روت عطشها: عشان ما أجرحش حد بلبسي
تعجب: وهتجرحي حد بلبسك إزاي ؟؟
عقدت كفيها على الطاولة أمامها ودنت منه قليلاً: بُص يا سيدي .. إحنا أغلب الناس في البلد اللي إحنا عايشين فيها على قد حالهم .. الموضة والأزياء لا يعرفوها ولا تعرفهم .. أنا وسلمى اللي هي صحبتي وجارتي .. درسنا ف القاهرة .. لما رجعنا لاحظنا الناس بتبعد عنا .. المهم وصلنا في الأخر أنهم افتكرونا عشان اتعلمنا وأخدنا شهادة هنتكبر عليهم .. شافوا إن لبسنا بيبقى زي تكبر عليهم وعلى بناتهم .. عشان كان بيبقى ملون وبأشكال وموضات مختلفة مع إنه ما يختلفش كتير عن اللبس اللي بتشوفني بيه .. وإحنا ما حبناش نضايقهم ولا نحسسهم أنهم أقل مننا مع إنه ممكن يكون العكس .. فبقينا بنلبس اللي على مزاجنا في البيت أو لما نبقى سوا لكن لما نخرج نلبس عباية سودا وطرحة سودا من غير أي حاجه.
تركزت نظراته أكثر على ملامح وجهها الطفولية، ارتسمت بسمة تفهم أخجلتها، وصل الطعام فانشغلت به .. لقد استهلك اليوم طاقتها فتركها جائعة كما لم تكن من قبل بينما حمزه يأكل بهدوء ليتسنى له مراقبتها قدر المستطاع.
سألها بينما يدعي إنشغاله بتقطيع الطعام وسألها كأنه سؤال عرضي لم يقصد شيئاً من وراءه: هو شادي دا .. عرفتيه إزاي؟؟
كانت على وشك الإختناق باللقيمة التي ابتلعتها وتوقفت في حنجرتها، سعلت فناولها كأس الماء وقد كسى البرود معالم وجهه، هذا كله حصل لها عندما سألها كيف قابلته إذا ما رد فعلها إن رأته أمامها.
بعد أن هدأت وجمعت شتات نفسها أجابته بهدوء افتقدته داخلياً: كان بيشتغل في موقع أثري مع علماء أثار .. المكان مش بعيد عن بيتنا .. كنت بأتمشى أنا وسلمى ف البلد وبعدين لما عرفنا أنه في حفر وعلماء قولنا نروح نتفرج .. قابلته هناك
حرك السكين بين أصبعيه بتوتر وسألها بلا مبالاة ظاهرية: حبيتيه ؟
زفرت بقوة: لا .. افتكرت إن دا حب .. بس ما كانش كدا
ابتسم بسخرية: يعني عشان اللي عمله معاكي غيرتي وجهة نظرك ؟
أصابته بنظراتها الحادة القوية: لا .. قبلها، بس مش بوقت كافي إني أرجع ف اللي عملته
صمت تماماً لما بقي من الوجبة وأثناء قيادته عائداً إلى منزل أهلها، كأن الحديث لم يتوقف لما يقرب من الساعة سألها مُهاجماً: ما دام عرفتي إنك مش بتحبيه، سلمتيه نفسك ليه ؟
نظرت إليه بغضب لكنها أجابته بهدوء: حتى لو كنت بأحبه ما كنتش هأسلمه نفسي .. إلا ف نطاق شرعي وهو الجواز
ألقى عليها نظرة عابرة قبل أن يعلق نظره بالطريق أمامه، سألها مجدداً باستهزاء: أومال إيه ؟ ... ساقكي حاجه أصفرا يعني ؟
إلتفتت إليه بكامل جسدها وصرخت بها منفعلة: لا .. ما سقانيش بحاجه أصفرا لأنه مش هيحتاجها ... لما يبقى فيه أربع رجاله قد الحيط واقفين على باب الفيلا من برا وممنوع حد يخرج غير بإذنه .. وإنه كل اللي ف البيت بيمشوا بأمره ولو عمل إيه مش هينطقوا .. هأهرب منه إزاي ولا هأروح فين ؟؟
صرح ببرود غاضب: بس في الأخر هربتي ..
- أه هربت .. عشان لما أخد مني اللي كنت هأهرب عشانه .. أداني الأمان ولو شوية وسمحلي أخرج تحت عين المراقبة .. أفتكر إني زي الباقي.. هاستسلم للأمر الواقع وأخضع لإرادته وطلباته .. بس مع أول فرصة قدرت أهرب .. هربت !
أكملت عندما توقفت السيارة قبل أن تندفع إلى خارجها: أنت قولت م الأول إننا أتجوزنا عشان أنت ترضي والدتك وتبعد عنك واحدة غير مرغوب فيها، وأنا عشان أهلي يسامحوني وينسوا اللي حصل .. إنما إنك تهاجمني وترفع عليا مدافع اللوم والعتاب فــ دا مش من تخصصك يا باشمهندس .. فاهم ؟؟
أغاظه حديثها فهي في نظره المخطئة، وحقه أن يهاجمها ويسئ إليها كما يشاء؛ فالمخطئ يتلقى اللوم دون تعليق حتى وإن كان ضحية للثعابين.
صف السيارة ونزل مهرولاً خلفها، اصطدم بأنس وسأله عن حياه: حياه لسه طالعة فوق دلوقتي .. هو حصل حاجه يا أبيه ؟
لم يرد وتابع تقدمه صاعداً إليها، كانت تحوم في الغرفة كــ لبوة محبوسة في قفص وتم حرمانها من الطعام لعدة أيام.
دخل كالإعصار وصفع الباب خلفه، أمسكها من ذراعها هادراً في وجهها: وليكي حق تتكلمي أصلاً ؟؟ .. وبعدين ما تنسيش إني جوزك يا هانم فاهمة ؟؟ .. يعني من حقي أعرف كل كبيرة وصغيرة ف حياتك
حاولت انتزاع ذراعها من بين يده القوية فيما تصرخ بوجهه: لا مش من حقك، إحنا كان بينا إتفاق .. أنت كنت عايز تتجوزني عشان مصلحتك وأنا كمان.. لكن مش أكتر من كدا .. وأي سؤال منك فيه تدخل ف حياتي مش مسموحلك بيه !
أسندها إلى الخزانة خلفها التي ارتجت من وقع جسدها، ومن بين أضراسه تمتم بقسوة: أنا اللي أقول إيه اللي مسموح بيه وإيه اللي لا..
لا تعرف كيف أو ماذا حدث حتى تحولت نبرة صوته إلى همس مُغري ناعم جعل الدم يتجمد في شرايينها: ماشي؟
سقط حجابها بعد أن حله دون أن تشعر متخللاً خصلاتها بأصابعه وظهر كفه الأخر يداعب بشرة وجهها المخملية، تابع بنعومة: تعرفي .. شعرك لايق عليك أوي ..
شد على شعرها حتى تأوهات بألم مغمضة عينيها: لولا إنك بتداريه تحت الطرحه أنا كنت شيلتهولك خالص .. عشان ماحدش يشوفه
أحست بأنفاسه تلفح وجهها وتتركز على ثغرها: نسيت أقولك .. إن من ضمن اللي هأسمح بيه لنفسي .. إني أخد حقوقي كزوج كاملة
أسر شفتيها بين شفتيه على حين غفلة، وقفت هي مستسلمة لما يفعل دون مقاومة، لما تقوم وهذا ما أرادته .. أردت أن تحيا معه حياة زوجية طبيعية دون أغراض أو مصالح.
تركها بعد فترة متراجعاً وقال بجدية حازمة: أنا اتفقت مع والدك .. إننا هنتجوز تاني وهنعمل فرح كبير لما نخلص تجهيز شقتنا .. عشان يبقى عندك علم
فتحت عينيها بتروي مرددة دون فهم: نتجوز ؟
ابتسم ساخراً: هو أنا ما قولتلكيش؟ .. مش أنا قررت إني أفضل متجوزك لأخر يوم في عمرك، وإن جوازنا هيبقى حقيقي ميه ف الميه .. بكل الحقوق والواجبات اللي عليا وعليكي
لمس خدها ضاحكاً قبل أن يغادر الغرفة، لكنه توقف قبل أن يغلق الباب خلفه، تأملها بعمق قائلاً مع غمزة من عينيه: بس هنأجل حقوقي وواجباتك لحد ما نعمل الفرح .. مبروك يا عروسة
تناولت وسادة من فوق السرير ورمتها على الباب بحنق ثم ارتمت على السرير وكل خلية من جسدها تنبض غيظاً .. لم تمر دقيقة قبل أن تضحك ملئ شدقيها: مجنون والله مجنون
تلمست شفتيها حيث قبلها وارتسمت ابتسامة حالمة عليها، ضمت إحدى الوسائد إلى قلبها: بس بحبك أعمل إيه بقى .. يا نصيبي يا حلالي
***
منذ يومين وهي لا تتحرك من غرفتها، لا تتحدث إلى أحد، فقط تأكل بضعة لقيمات بعد إلحاح شديد من جدتها التي في بعض الأحيان توشك على البكاء إليها متوسلة.
أخبرها بدر أنها أصيبت بصدمة نفسية شديدة سببت لها تلك الحالة وأنها سمعت ما لم يكن هيناً بالمرة، كانت الشكوك كلها تدور حول خليل الذي روى لها ما طلبته منه حنان ونتيجته، لم يكن به شئ يفعل بها ذلك .. إلا معرفة سبب ذلك السؤال وبعد مرور تلك الأعوام.
فكرت حنان في أن تكون مي مي هي ابنتها .. دائماً ما كانت تناديها بذلك وخليل أيضاً، لقد أنبتها جدتها وحذرتها أنها ستعاني بشدة عندما تدخل ميّ الحضانة فيصعب عليها حين ذاك أن تعلمها اسمها الحقيقي وليس اسم الدلال الذي تدعوها به، لكنها لم تهتم فهي تريد أن تدلل طفلتها إلى أقصى درجة.
أخذت حنان قرارها، ستنتظر عودة حياه وتحاول معرفة قصة مي مي فرغم تأكدها أن القلادة ليس لها شقيقة إلا أن حياة طفلة أكبر من هكذا دليل .. ستكتفي برؤية مي مي في المدرسة حتى إشعار أخر.
***
أصر فادي عليها بضرورة إخبار والديها، فهي ابنتهما في النهاية ومن حقهما معرفة أمر يمس حياتها.
رافقها هذه المرة إلى الجلسة، صدمها رؤية السيدة التي كانت تسكن في اليمن، لقد كانت سعيدة في أخر مرة مهللة بقرب شفاءها، لقد أخبرها الطبيب أن تقوم ببعض التحاليل ليتأكد من اختفاء المرض تماماً من رئتها .. إنها تدخل الآن على كرسي متحرك والتعب قد نال من ملامحها، اندفعت إليها متسائلة عما بها ..
ابتسمت المرأة: فجأة ما بقتش قادرة أقف على رجلي وبقيت مش قادرة أتوازن ..
أضافت بهدوء شديد: المرض اتنقل للنخاع الشوكي .. حكم عليا أقعد ف الكرسي دا
اهتز شفتي نجلاء بشدة ولمعت الدموع في عينيها، قلبها تمزق إرباً لما حدث مع هذه المرأة الطيبة، لما يحدث ذلك معهم.
لم تدري أنها نطقت ذلك بصوت عالِ حتى سمعت إجابة المرأة وهي تبتسم: ما هو يا بنتي لو كل واحد قال إشمعنه أنا .. ماحدش فينا هيعيا ولا يحصله حاجه .. أكيد ربنا له حكمة ف كدا .. لو ما عرفتهاش دلوقتي .. مسيري هأعرفها .. سواء هنا في الدنيا ..
أشارت بسبابتها إلى الأعلى مضيفة: أو حتى ف الأخرة
فكرت نجلاء في كلامها، لم تتحدث مع زوجها طوال الطريق وحتى عندما وصلوا إلى بيتهم كذلك، تفهم هو سبب انشغال أفكارها وتركها لحالها فهي يجب أن تتقبل ابتلاء الله –عز وجل- مهما كان صعباً عليها تقبله.
وقفت في الشرفة كعادتها حينما يسحبها التفكير، لقد قالت المرأة أن هناك حكمة إلهيه فيما يحدث .. ليس في مرضها فحسب لكن في كل الأمور التي تحدث لها حتى أتفه الأشياء من وجهة نظرها .. لقد ظنت أن حرمانها من الإنجاب هو نقمة لكن تراه الآن نعمة .. في حالتها هذه بالكاد تهتم بنفسها فكيف إن كان لها طفل يتطلب المتابعة الدائمة في كل لحظة.
لقد رأت أن غياب فادي في عمله أكبر مشاكلها وأشدها إثارة لغضبها لكن بعد معرفتها لمرضها كانت تحمد الله على ذلك حتى لا يراها حالما تعود من جلسة علاجها وكيف تكون شاحبة ذابلة.
إنها رأت العديد من الأمور نقمة لتجدها في وقتٍ لاحق نعمة، إن منظور المرء للأمور يختلف على حسب حالته النفسية وقت حدوثها وما يمر به وقتها، بكت بشدة لسوء ظنها بربها، لقد أساءت إليه بشدة.
لمحها فادي تبكي فانضم إليها شاعراً أن ما قضته مع أفكارها حتى الآن هو كافِ، ضمها إلى أحضانه مُخففاً عنها، تمتمت من بين دموعها وشهقاتها: أنا أساءت لربنا أووي يا فادي .. بدل ما أقول الحمدلله وإنه فيه غيري كتير يمكن عذابهم أكبر ومرضى أكتر مني أو مش لاقيين علاج حتى .. كنت بأقول إشمعنه أنا
ربت على كتفها بحب: بس أديكي عرفتي غلطك وخلاص .. ربنا غفور رحيم يا حبيبتي
هزت رأسها بشدة وهي ما تزال ساندة إياها على كتفه: بس أنا مش مرتاحة
- عارفه إيه اللي هيريحك ؟؟
رفعت رأسها مسرعة: إيه ؟؟
كفكف دموعها: إنك تروحي تتوضي وتصلي .. اقعدي أقري قرآن واستغفري ربنا كتير واحمديه أكتر .. وقتها هترتاحي وتحسي إنه سامحك
تبادلت معه النظرات ثم هزت رأسها: معاك حق
دفعها إلى الداخل: طب يلا روحي أتوضي .. مستنيه إيه ؟؟
نظرت إليه بحب وارتمت بين ذراعيه: أنت أصلاً أكبر نعمة من ربنا، أي راجل غيرك كان زمانه ساب مراته بعد ما عرف المرض اللي عندها وكمان مش بتخلف ..
أمسك ذقنها بين أصبعيه: ما تفكريش في الكلام دا .. أنا عمري ما هأسيبك .. لإنك روحي .. حد يقدر يعيش من غير روحه بردو ؟؟
ابتسمت بسعادة: أنا بحبك أوي
حملها بين ذراعيه ودار بها في أنحاء الغرفة صارخاً بقوة: وأنا بموت فيكي .. بأعشــــــــقك
ضمت يديها حول عنقه ضاحكة، لقد ظنت لفترة أن حبه لها أنتهى لكنها الآن تدرك أنه إزداد .. فالحب الحقيقي لا تضعفه الأيام بل تقويه الصعوبات والابتلاءات.
***
وقفت أمام المحل تختار من بين العديد من الأنواع ما تحبه وحمزه يتأملها صامتاً، لقد ملأت كيساً كاملاً حتى الآن ولم تفرغ بعد، تنهد: يا ابنتي ما تخلصي .. مش كفايه اللي ف إيدك ؟؟ .. هتلحقي تاكلي دا كله إمتى بس ؟؟
نظرت إليه بضيق: دا على أساس إني هأكلهم لوحدي يعني ؟؟ .. يا عم استنى الطريق طويل والواحد لازم يعمل إحتياطه ف الحاجات اللي هيتسلى بيها
ربت أنس على كتفه ضاحكاً: ما تحاولش .. مش تقف غير لما تفضي المحل كله
ألقت حياه لوح من الشوكولاته على أخيها قائلة: كُل دي وأسكت !
فعل كما طلبت مستمتعاً بالنوع المفضل لديه، أخيراً وقفت باسمة: خلاص خلصت .. حاسب بقى
زفر محاولاً إخفاء بسمته: أشهد أن لا إله إلا الله ..
وضعت يدها على خصرها قائلة بحنق: بكره تُشكرني يا اسمك إيه
أمسك يدها بقسوه وأسقطها عن خصرها قائلاً بلهجة ترفض النقاش: اتعدلي وإنتي واقفة .. ما تنسيش إننا ف وسط الناس .. والحركة اللي عملتيها دي ما تتكررش تاني .. الهدوم بتلزق عليكي وتبين شكل جسمك .. ودا ماينفعش ولا إيه ؟
نظرت أرضاً مُهمهمة: أسفة .. مش هأعمل كدا تاني
أحس أنه يقف أمام طفلة أنبها والدها بسبب فعل لا يليق، ابتسم بحب وحنان دانياً منها يهمس في أذنيه بخبث: بس ما عنديش مانع لما نبقى في أوضتنا لوحدنا تعمليها
أزداد أحمرار وجنتيها مما جعله تضربه على كتفه: بس يا قليل الأدب
ضحك مقهقهاً لرد فعل بينما اكتفت هي بالإبتسام، تنحنح أنس: القطر وصل .. لما تروحوا أبقوا هزروا براحتكوا .. راعوا مشاعر السناجل اللي زيي
بعثر حمزه شعر أنس بقوة: طب أبقى سلملنا على كل اللي ف البيت يا عم السنجل
صعدا إلى القطار، وكانت حياه تودع شقيقها بيد والأخرى تكفكف دموعها، مسح حمزه دموعها بيده: خلاص بقى كفايه عياط
شهقت حياه: أصلهم هيوحشوني أوي
- هأبقى أجيبك تاني تزوريهم وهما هيجوا .. مش شوفتي وعد باباكي إنه هيجي يزورنا أول ما نجهز شقتنا؟ .. والله لولا صوت ماما اللي قلقني ف التليفون كنا قعدنا يومين كمان
مسحت أنفها بالمنديل لكن صوتها ما زال يُنبأ بالبكاء: طيب
همس بنبرة ماكرة: افتكري إنك إنتي اللي بتحرضيني ..
تلفت حولها ليتأكد أن لا أحد ينتبه لهما ثم طبع قبلة خاطفة على وجنتها، شهقت بفزع: إيه اللي أنت عملته دا؟
لاحظ إلتفات جميع ركاب القاطرة إليهما فوضع يده على شفتيها هامساً: يا بنتي اسكتي فضحتينا هو أنا غررت بيكي ولا حاجه .. دا إنتي مراتي يا متخلفة !
وضعت يدها في خصرها ونظرت له بغضب: أنا بردو متخلفة يا باشمهندس ؟؟
دفع يدها بعنف لتسقط عن خصرها وضاقت نظراته التي يتطاير منها الغضب: وستين متخلفة .. مش قولت إيدك ما تتحطش على وسطك ؟ .. ولا هي قلت أدب وخلاص
رأى الندم على وجهها والحزن في عيونها التي لمعت منذرة بتجدد البكاء، فمال عليها بحب مُدعياً أنه يعيد ضبط حجابها وهمس في أذنها: بس أحلى متخلفة شافتها عينيا
نظرت إليه ببعض الضيق فأضاف غامزاً: دا أنا اللي متخلف وألفين متخلف كمان إني قولت للقمر دا كلمة ضايقته
أشرقت بسمتها المضيئة فعلق هائماً: خلاص أنا هأشتم نفسي مرة قبل الأكل ومرة بعد الأكل عشان أشوف الضحكة العسل دي يا عسل
لمح اتساع حدقتيها مصاحباً لقبضة تمسك بكتفه، إلتفت إلى الوراء ليجد عامل القطار ينظر إليه شذراً قائلاً: التذاكر يا أستاذ
تنهد حمزه بضيق وسلمه التذكرتين، بعد أن فحصهما الرجل بدقة أمره: يا ريت تقعد عدل يا حضرت وتلم نفسك .. اللي يشوف شكلك وأنت باين عليك محترم كدا ما يشوفش تصرفاتك
صدمه هجوم الرجل عليه: تصرفات إيه ؟؟ .. دي مراتي !
ابتسم الرجل بسخرية: أومال صرخت ليه لما قربت عليها ؟
- عادي .. بتتكسف
نظر الرجل إلى كفها الموضوع فوق فخذها قائلاً: وفين الدبلة ما دام مراتك ؟
لم يدري بما يجيب فألقى عليه الرجل جملة أخيرة قبل أن ينصرف: أقعد بأدبك أحسنلك يا أخ
تجهم وجه حمزه، ولم تدري حياه بما تخفف عنه فالتزمت الصمت لما بقي من الوقت حتى أنها فقدت الشهية لتناول كل ما قامت بشراءه.
***
فتح باب منزل والديه ودلف إلى الداخل حيث حياه تلحق به في صمت استمر طويلاً، حالما رأته والدته أغلقت مصحفها وركضت تضمه باكية .. كأنه القشة الأخيرة التي فجرت آبار دموعها المكبوتة.
ضحك حمزه مشدداً أحضانه حولها: أنا كنت مسافر أه بس مش للدرجة دي يا ماما .. المفروض إنك متعودة على سفري دا
تقدم منهما والده موضحاً: ما هو مش عشانك أنت خصوصاً بس هي جت فيك
ربت على كتف زوجته: اهدي يا سمية مش كدا .. هتقلقي الولاد عليكي
جملته الأخيرة أضافها عندما لاحظ نظرت الخوف والتوتر في عيون حمزه وحياه، اقتربت حياه من حماتها تدعمها: مالك بس يا ماما سمية .. إيه اللي مزعلك ؟
أجهشت سمية في البكاء أكثر وأكثر مما جعل حمزه يبدأ في فقدان السيطرة على أعصابه، اقترب منها وأمسكها بقوة سائلاً بقسوة ونبرة لا تقبل إلا إجابة شافية: إيه اللي جرا؟
أخفت والدته وجهها خلف كفيها: نجلاء يا حمزة .. نجلاء
قست قبضته أكثر متمتماً من بين أضراسه: مالها ؟؟
- عندها الكانسر يا حمزه .. أختك جالها المرض الوحش
لم يستوعب ما قالته والدتها قبل هنية .. أدار رأسه ينظر إلى والده علَّه ينفي قول أمه لكنه بالعكس تماماً أكده والحزن مستقر بقاع حدقتيه .. دخل في دوامة من الأفكار والتخيلات .. تخيل حالة أخته الآن ونفسيتها .. لقد كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها عند إصابتها بشكة دبوس أثناء إرتدائها الحجاب فما بال رد فعلها الآن ؟؟
لم يفق إلا عندما تجاوزته حياه مسرعة لتلحق جسد الأم المتهالك، أمسك أحمد زوجته فزعاً من مرأى زوجته تفقد وعيها، عادت سرعة البديهة إلى حمزه فأخذ مكان زوجته صارخاً فيها بقوة: روحي اطلبي الدكتور بسرعة
أضاف عند رؤيته لمي مي تحاول الإختباء خلف الجدار باكية: وخدي مي مي على أوضتها
جرت حياه تخرج الهاتف من حقيبتها ثم حملت مي مي على ذراعها الأخر متجهة إلى غرفتها، طلبت من الطبيب أن يسرع بالقدوم شارحة الوضع بإختصار.
أنهت المكالمة بتوتر لتجد مي مي منكمشة في أحد الأركان باكية بحرقة، ركعت إلى جوارها تجذبها إليها حتى تستكين بين ضلوعها: هي كويسة ما تخافيش، تعبت شوية بس والدكتور ف الطريق هيديها حاجه تخليها أحسن
تعلقت بها الطفلة: هي على طول بتعيط من ساعة ما سافرتوا .. ما تسفروش تاني يا حياه لا إنتي ولا أبيه حمزه عشان ما تزعلش تاني
ارتسمت إبتسامة مرغمة على ثغر حياه كرد فعل على براءة الصغيرة وملائكيتها، شددت ضمها إليها: ما تخافيش هي هتبقى كويسه وإحنا مش هنروح ف حته
ارتفع رنين الجرس أسرعت حياه تفتحه لكن حمزه كان قد سبقها مُستقبلاً الطبيب ثم وجهه إلى الغرفة التي ترقد بها والدته غائبة عن الوعي، أصطحبت حياه الطفلة معها إلى المطبخ تُعد عصير الليمون لها وللبقية بينما عقلها منشغل في التساءل عما وصلت إليه حالة نجلاء الآن كذلك الدعاء لوالدة حمزه بالشفاء والصبر على هذا البلاء.

أنت تقرأ
رُزقت الحلال
Romanceإلى كل من رأى أن خطأه لا يغتفر وأنه ما عاد هناك طريق للعودة فلتعلم .. أنا أبواب التوبة دائماً مفتوحة على مصرعيها لا تقفل ساعة أو تستريح حيناً فإذا أدركت خطأك وأين مربطه .. قاومه .. عالج داءك بيدك وقوتك التي وهبها الله لك فلتكن حراً من كل قيد وأسر فل...