4

453 16 0
                                    



استعد حمزه متأنقاً للذهاب إلى مشواره مع صديقه مُسعد غير شاعر بأي تأنيب ضمير على طريقة حديثه هكذا أمام والديه مع شقيقته الصغرى، لقد كف عن شعور بأي شيء منذ أمد ليس ببعيد.
خرج من غرفته متجهاً إلى غرفة المعيشة، وجد مي مي تتسلى بمشاهدة التلفاز بينما والده يتحدث مع فادي عما سبب سوء التفاهم بينه وبين زوجته، تتابع والدته الموقف بإهتمام بينما نجلاء تدير وجهها للناحية المعاكسة مظهرة غضبها.
ابتسم بسخرية: أنت لسه فيك حيل يا ابني تيجي ترجعها ؟؟؟، دا أنا لو مكانك كنت زهقت وطلقتها من زمان
صرخت به والدته سمية: إيه اللي أنت بتقوله دا يا حمزه ؟؟؟
هتفت نجلاء بحنق: أنت عايز تخرب عليا يا حمزه !
اتسعت ابتسامته رغم أنها لم تصل إلى أذنيه: وأما إنتي عايزه ترجعيله وتتصالحوا سيباه بقاله ساعة بيتكلم مع بابا وهو ف نص هدومه ومش راضية تروحي معاه ليه؟؟!
ارتبكت نجلاء وبدأت في فرك يديها بشدة بينما تهز قدمها بتوتر جليّ، تنهد الأب متحدثاً بهدوء رزين: مالوش داعي الكلام دا يا ابني، هو جوزها وعارفها أكتر مننا وعارف طريقتها وراضي
فادي مبتسماً بسماحة: أعمل إيه يا حمزه .. بأحبها بقى
حمزه بضيق: يبقى استحمل يا كبير الذل
فادي بهدوء: الحب عمره ما كان ذل يا حمزه، الحب يعني اغفرلها لما تغلط ف حقي عشان هي تغفرلي لو غلطت ف حقها .. لو ما سامحتش مش هأقدر استنى إنها تسامحني وهنفضل على طول ف شد وحياتنا متعلقة بشعرة.
حمزه متحسراً: دا لو فيه حاجه اسمها حب أصلاً
وضع أحمد يده على كتف ابنه: فيه يا حمزه بس كل الموضوع إنه ربنا لسه ما أذنش إنك تقابله لحد دلوقتي
أومأ حمزه معتذراً بضرورة ذهابه فوراً لمقابلة صديقه، رحل مسرعاً فهو لم يعد يطيق كلمة حب في أي حوار يخوضه .. الحمدلله أنه سيقابل مُسعد ويلهيه بفكاهات التي لا تنقطع فهو يمتاز بخفة الدم لكنه يتحول إلى الجدية الشديدة أيضاً وقت الحاجه.
تم اللقاء واتفقا على الذهاب للعشاء سوياً، قال مُسعد متفاخراً: بما إنه الواحد لسه قابض بقى فأنا قررت أعزمك ومش ف أي مكان، لاااا ف أجدع مطعم فيكي أمصر
- ومن إمتى البزخ دا ياخويا ؟
- يلا، على الله يطمر
- يا شيخ إتنيل، أنت هتذلني على حتة عشوه لا راحت ولا جت ؟؟ خلاص مش لاعب
- يا عم تعالى بس، مين دا اللي يقدر يذلك يا باشمهندس
- واحد كدا يا باشمهندس
قهقه مُسعد: طب خلاص حقك عليا ويلا بقى لأحسن أخوك هفتان خااالص
جلسا على الطاولة يتابعان حديثهما الذي لا يخلو من المزاح، هدأ تفكير حمزه حتى أنه بادل مُسعد مزاحه بالمثل حتى ...
لاحظ انقلاب ملامح صديقه على حين غرة، حاول سؤاله عما جرى لكنه ظل ينظر لنقطة ما من فوق كتفه دون أي تعبير، إلتفت ليرى ما سبب هذا الضيق والغضب المكتوم داخل صديقه.
امرأة بحجاب لكنه لا يحمل أي صفات الحجاب بالمرة حتى إنه لا يخفي خصلات شعرها التي تناثر بعضها من الأمام هذا دون الحديث عن الملابس التي تشف أكثر مما تخفي، تنهد عائداً لصديقه: هي دي ؟
أفاق حمزه مزيحاً نظراته عنها وقال كأنه لم يفهم: قصدك مين ؟
أجابه بسخرية: اللي كانت عينك هتطلع عليها دلوقتي
بضيق: ما تتلم يا مُسعد
- معلش مش قصدي
تنهد: أنا اتصدمت بس لما شوفتها مش أكتر عشان كدا ما أقدرتش أحرك عيني من عليها
تحدث مشيراً إلى الرجل الذي برفقتها ويبدو عليه الثراء الفاحش: دا اللي فضلته عليك؟
أشار إلى النادل مغيراً مجرى الحديث: ممكن نطلب الأكل وبلاش نتكلم ف الموضوع دا
أراد مُسعد أن يخرج صديقه مما يشعر به الآن فمهما كان شعوره لن يكون جيداً عندما يرى من هواها قلبه ترافق رجلاً أخر، قال متصنعاً الحزن: بقى كدا يا صديقي الصدوق
استغرب حزنه: مالك قلبت ليه ؟
- مش عايزني أقلب وأنت مستعجل على أنك تدفعني فلوس!، إهئ إهئ ماكنش العشم يا صاحبي
ابتسم حمزه ولكنها ابتسامة صغيرة برغم ذلك شعر مُسعد بالتحسن فقد خفف عن صديقه ولو القليل.
***
دقت الساعة معلنة أنها الرابعة فجراً ..
ليس هناك من أحد غيرها في المنزل منذ العاشرة مساءاً، لقد ذهبن إلى عملهن كما أطلعتها نيفين سابقاً بينما سافر شادي في "مأمورية" كما يسميها تاركاً العديد مع الحراس أمام الباب.
نظرت من النافذة لتجدهم ازدادوا، لقد أصابت نيفين في نصيحتها .. اتجهت تصلي الفجر لكن ما كادت تنتهي حتى سمعت أصوات في الخارج فتأكدت من عودتهن أخيراً.
ذهبت لتراهن فهذه المرة الأولى التي يذهبن في عمل منذ قدمت إلى هنا، كانت تشعر بالقلق والإشمئزاز مما يحدث ولا تستطيع منعه .. بل إنه إذا حدث معها لن تستطيع منعه فكيف الحال مع غيرها ؟؟
وجدت نيفين تدلف برفقة فتون، ارتمت فتون على الأريكة بإنهاك بينما اتجهت نيفين إلى غرفتها متعبة قائلة أنها ستنام ولا تريد أي إزعاج.
لم تعرف حياه ماذا تفعل فجلست أمام فتون تراقبها وهي تنزع حذاءها عالي الكعبين في تعب حقيقي.
تساءلت: هو حصل حاجه ؟
هزت كتفيها: لا العادي بس
أشارت إلى الباب الذي يخفي خلفه نيفين: أومال مالها ؟
نظرت إلى حيث أشارت: قصدك نيفين؟؟ .. لا دا الطبيعي بتاعها .. أول ما ترجع مش بتبقى طايقه نفسها .. بتبقى قرفانه من كل حاجه
ساد الصمت، قامت حياه بإتجاه الغرفة لكن تحذير فتون أوقفها: سيبيها أحسن دلوقتي عشان أي حد بيكلمها ف الحالة دي بتشوط فيه .. أصلاً مافيش حاجه مهمة .. كلها تسيب نفسها تحت الدش ساعتين وبعدها تاخد حبتين منوم عشان تعرف تنام وتصحى الصبح ولا أكن حاجه حصلت
علمت حياه عدم جدوى دخولها فعادت تجلس وهي تسأل بتردد: إنتي إيه اللي جابك هنا ؟
رفعت نظرها لتسألها عن مقصدها ولكنها فهمت ما تشير إليه، تنهدت بألم تتطلع إلى السقف بشرود: أمي ماتت وهي بتولدني .. وأبويا ماصدق ماتت قام متجوز ف اليوم الواحد وأربعين من موتها على طول هههههه، بس واحدة عقربة .. فضلت تذل فيا وتطلع عيني من وأنا صغيرة .. حتى كنت أول سنتين عايشه مع جارتنا وصاحبة أمي ف نفس الوقت بس بعد ما اتفطمت أبويا خدني من حضنها وحنانها عشان يرميني في جحيم مراته .. هو يهمه إيه غير مزاجه ؟؟ .. يشتغل طول اليوم وهي تبهدل فيا طول اليوم ولو اشتكيت تلسعني بالمكوه .. ولما كنت بأشكيها لبابا تقوله دي كانت بتلعب وأنا بأكوي وقولتلها تقعد لكن ما سمعتش الكلام قامت المكواه وقعت عليها وأخد أنا التهزيء والزعيق كله وشوفي من دا كتــيـر أوي .. لحد ما قابلت شادي ف مرة، ما أعرفش ليه حكيتله كل حاجه من أول مرة قعدت أتكلم معاه، كنت ماشية وعربيته كانت هتخبطني بس ربنا ستر، بعدها أخدني عشان أشرب حاجه ف كافيتريا يكون اعتذاره ليا .. ما أعرفش ليه بس أنا روحت معاه ويارتني لا عرفته ولا حكيتله .. عذاب مرات أبويا أهون م القرف اللي عايشاه دا
- ما حاولتيش تهربي ؟
- حاولت مرة واحدة وبعدين قولت يا حسرة كله شبه بعضه .. ما بقتش فارقه كتير
- وإيه اللي حصل ؟ عرفوا يمسكوكي ؟
- أه، بعد ما قدرت أنفد من البيت واللي واقفين حواليه، فضلت ماشيه والمنطقة مافيهاش حد، ولا عربية مرت مش عارفه أنا اللي مشيت غلط ولا الحظ، المهم تاني يوم الصبح كانوا مرجعني تاني
- عملولك حاجه؟
رفعت تنورتها القصيرة بالأساس لتريها تشوهاً يعلو فخذها الأيسر ثم قالت بسخرية: ختم صغنون عشان أفتكر إنه كل ما أهرب هيحصل فيا كدا
انكمشت حياه، أليس لديهم أي رحمة، كيف يفعلون ذلك، أين القانون وإلى أين ذهبت العدالة ..
تأملت فتون الغرفة حولها بما تحويه من أثاث عصري يتفاوت لونه بين الأحمر والأسود كذلك الأبيض والرمادي، قالت: اللي إحنا فيه دا أكبر دليل على إنه المظاهر خداعه
- طب وجميلة ؟
- عايزه تعرفي حكايتها هي كمان ؟
- لو مافيهاش إزعاج
ابتسمت فتون ساخرة: مالك مؤدبه كدا ؟
أردفت تحاول تجميع كل التفاصيل التي تعرفها: جميلة دي الوحيدة اللي جت بمزاجها، كانت متجوزة واحد بس أكبر منها بكتير، طبعاً ماكانش موفرلها حاجه غير الفلوس عشان تدلع بيهم وكان بيديها زيادة عشان تفضل معاه وتستحمل سنه الكبير وإنه مجرد جواز على ورق مش أكتر، لكن ما يعرفش أو كان عارف ومطنش الله أعلم إنها بتقابل شبان من وراه عشان يعوضوها عن اللي راجل عنده سبعين سنة مش قادر يقدمهولها ... طبعاً فاهمة قصدي
أومأت متفهمة وقد شاب وجهها حمرة شديدة، تابعت: وف الأخر وقعت ف إيد شادي كالعادة وفضلت معاه لحد ما جوزها مات لكن بعد موته اكتشفت إنه ما سابلهاش ولا قرش كله راح لولاده من مراته الأولانيه وهي طلعت من المولد بلا حمص، وقتها بقى استلقاها شادي وفضل وراها لحد ما أقنعها تيجي تشتغل هنا معاه
فغرت فاهها بعدم تصديق: يعني بمزاجها ؟؟؟ إزاي ؟!
ضحكت بسخرية: يا بنتي ما هي كدا كدا كان ليها علاقات أيام ما كانت متجوزة ومش بعيد قبل كمان .. يعني هي هي الفرق الوحيد إنه المرة دي هتضمن فلوس مش هتطلع حتى من غير حمص
- هو بيدوكوا فلوس على دا ؟
- أيوه، أومال هنعمل كدا ببلاش؟؟ دا اللي ناقص كمان !
- وبتعملوا إيه بالفلوس مادام محبوسين بين أربع حيطان
أشاحت بلا مبالاة: عادي، بنجيب فساتين .. مكياچ .. نفسي ف حاجه بردو أجيبها
- بتنزلي تجيبيها لنفسك ؟
- لا بأبعت حد من اللي برا يجبلي
نهضت فتون من مقعدها وجلست على ذراع الأريكة التي تحتلها حياه، مالت تهمس في أذنها بتحذير: ما تحاوليش تهربي عشان مش هينوبك غير واحدة زي دي
أشارت إلى الحرق في فخذها ثم عادت تتحدث بصوت يحثها على الإنتباه: وبلاش تثقي ف أي حد مهما بينلك قد إيه هو واقف ف صفك وبيحميكي
نظرت لها حياه وسألتها بتردد: قصدك مين ؟
ربتت على كتفها: لاحظت قرب نيفين منك فحبيت أحذرك بس
حركت سببتها بوجهها: ما تثقيش بحد غير نفسك وبس، هنا كل واحد بيعمل لمصلحته، زي ما حد استغله هيحاول يستغل غيره .. حتى أنا .. ما تثقيش فيا .. لو قررتي ف يوم تهربي متحملة كل المخاطرة اهربي .. بس ماحدش يعرف إنك هتعملي كدا .. وقتها هتظهر الأنانية فعلاً
وقفت متثأبه: أنا هأدخل أنام بقى لأحسن مش قادرة
قالت حياه بلا تفكير: مش هتصلي الفجر قبل ما تنامي ؟؟
نظرت إليها فتون مصدومة وبعد أن تمالكت نفسها قالت بحزن: واللي زيي تتقبله صلاة إزاي ؟
ابتسمت حياه بحنان وربتت على ذراعها: استحمي وبعدين أتوضي وصلي .. ربنا عمره ما بيقفل بابه ف وش حد
قالت بتقزز: بعد القرف اللي أنا فيه دا .. أظن كل الأبواب اتقفلت ف وشي، إزاي أعمل كدا وأخر اليوم أروح أصلي وأقف قدام ربنا كأني ما عملتش حاجه
- طب وليه تقطعي كل الطرق اللي رابطه بينك وبينه ؟؟ .. مش يمكن الطريق دا اللي هتفضلي موصله نفسك بيه بربنا هو يكون سبب نجاتك من اللي إنتي فيه دا واللي عشتيه غصب عنك ! أو سبب غفران ربنا لأفعالك دي ؟
استمرت فتون تنظر لها وتفكر فيما قالت، بعد دقائق ابتسمت وضمتها قائلة: بجد إنتي طيبة أوي .. ما تستاهليش اللي إحنا فيه دا
أدارت يدها لترى حياه العلامة الموجودة بباطن معصمها، حدقت بها مصدومة فيما ابتسمت لها فتون: أيوه مسيحية .. بس هأصلي بردو زي ما قولتيلي
تركتها وانصرفت إلى حجرتها، سخرت من تفكيرها فما الفرق لدى هؤلاء بين مسلم ومسيحي أو حتى بلا ديانة .. المهم أن تتكيف مع الوضع وتحضر لهم الأموال.
***
سلم من صلاة الفجر ثم جلس يردد أذكار بعد الصلاة، تذكر رؤيته لها في المطعم وكيف كانت تضحك بسعادة مع من فضلته عليه.
ابتسم لنفسه بسخرية، لقد أحبها أشد الحب ولكنها قابلت هذا الحب بالخيانة والغدر، لم يخطئ بحقها ولم يفكر بأذيتها فلما تفعل ذلك به ؟
اتجه إلى المطبخ ليروي عطشه، وجد مي مي تحاول الوصول لزجاجة العصير دون جدوى، ابتسم وناولها الزجاجة: إنتي هتفضلي قصيرة كدا على طول ؟؟ .. هتطولي إمتى يا أوزعه
قطبت حاجبيها بغيظ وتحدثت إليه بلغة الإشارة فعاد يقول: يعني إنتي مش أوزعه ؟
هزت رأسها مؤيدة، أكمل: أومال ما عرفتيش توصلي للإزازه ليه يا طويلة هانم ؟
أشارت له بما تريد قوله مما أدخله في نوبة ضحك: بقى الإزازه هي اللي عالية عليكي
رأى غيظها أشتد إلى درجه قد تجعلها تنفجر، انخفض لمستواها كاتماً ضحكاته: خلاص الإزازه هي اللي طويلة ولا تزعل نفسك يا قمر أنت
ابتسمت مي مي بسعادة وسألته لما لم ينم حتى الآن، أخبرها أنه كان يصلي الفجر وشعر بالعطش فأتى ليشرب.
قدمت له زجاجة العصير ليشرب منها، رفض لكنها أصرت.
حمزه: خلاص إنتي شويه وأنا شويه ماشي ؟؟
أومأت موافقة، سكب كوبين من العصير لكل منهما .. تحدثا سوياً؛ تتلو عليه ما يفعله رفاقها في المدرسة معها وأنهم يسخرون منها لعجزها عن الكلام مثلهم.
رأى الدموع تترقرق في عينيها فشعر بغيظه يشتد، لما تصمت والدته عن الذي يحدث، سيحادثها في هذا الموضوع عندما يراها في أقرب فرصة إنما ما يجب فعله الآن هو أن يأخذ قسطاً من الراحة قبل التوجه إلى فرع الشركة التي يعمل بها لاستلام مشروعه الجديد.
***
عاد شادي بعد يومين من سفره الذي لا يعلم أحد عن تفاصيله شئ، سأل عن حياه وسلوكها أثناء غيابه، كانت تسمع صوته من غرفتها كلما سمعته اقشعر بدنها، تتذكر كل ما فعله بها تغضب وتبكي حسرة على ما وصلت إليه.
دخل عليها الغرفة دون أن يطرق الباب كالعادة، اعتادت هي على ذلك فلم تعد تبالي فقد أصبحت ترتدي حجابها باستمرار حتى أثناء نومها.
وضع لفافتين على السرير أمامها قائلاً بلهجة أمره: إنهارده الساعة تسعة تكوني جاهزة عشان هتيجي معانا .. إنهارده أول يوم ليكي ولو فكرتي تعملي حاجه كدا ولا كدا ما تلوميش إلا نفسك على اللي هيحصلك
صفع الباب بشدة خلفه زيادة في الخوف الذي يحاول زرعه بداخلها، أحرقت الدموع عينيها وهي تفتح اللفافه الأولى لتجد بها فستان قصير بدون أكمام واللفافة الأخرى تحتوي على حذاء عالي الكعبين يناسب الفستان.
دفعتهم بعيداً إلى أخر الغرفة ولكن إلى متى ستستطيع دفعهم ..
***
وقفت في الاستراحة برفقة سمر داخل فناء المدرسة تطمئن على أحوالها، لقد انتظمت كثيراً في مواعيدها وأصبحت الإبتسامة لا تفارق وجهها على الأقل بينما تكون برفقة حنان.
لقد وجدت الطفلة الحنان الذي تتمناه فائضاً لدى معلمتها الحبيبة، عوضتها عن وفاة والدتها وقسوة زوجة والدها.
انطلقت سمر تلعب مع صديقاتها بعد أن توطدت علاقتها مع أغلبهن فصارت إجتماعية جدا.
- صباح الخير
إلتفتت إلى الصوت القادم من خلفها متعجبة: خليل ؟ .. صباح النور
نظر إلى سمر وهي تلعب وتضحك: لسه حنينه زي ما إنتي
تنهدت بقوة: عايز إيه يا خليل؟، إيه اللي جابك؟
اتخذ موقف الهجوم عندما وجدها لا تبالي أو كأنها تختنق من كلماته فأراد المحافظة على ماء وجهه: جاي عشان أقدم لبنتي هدى في المدرسة هنا
كزت على أضراسها غيظاً فليس من الممكن أن يكون بلا مشاعر إلى هذه الدرجة: وإشمعنه المدرسة دي بالذات ؟
هز كتفيها كأن الأمر ليس مهماً: عشان دي أحسن مدرسة ف المنطقة
سألته ساخرة: والمدام وافقت على الموضوع دا بسهولة كدا ؟
تذكر رد فعل زوجته عندما علمت باسم المدرسة التي يريد تقديم ابنتهما للإلتحاق بها، لقد صرخت بوجهه وكادت أن تدق عنقه على تفكيره فهي تعتقد أنه يفعل ذلك ليكون هناك رابط ولو بسيط بينه وبين حنان، نفى ذلك بشدة أمامها ولكن قلبه كان مؤكداً عليه، لكن الحوار أنتهى بأنه الأعلم بما في مصلحة هدى.
تجاهل سؤاله بسؤال أخر: أخبارك إيه وأخبار ست الكل إيه ؟
أومأت: الحمدلله
اعتذرت منه منصرفة: عن إذنك عندي شغل
تركها تغادر فليس لديه ما يتحدث به ليستبقيها برفقته لمدة أطول، تنهد مغادراً المدرسة وعيونها المتألمة تشيعه من نافذة غرفة المعلمات.
***
ارتدت فستانها الأسود الذي ناسب مزاجها فهي تشعر حقاً أنها ليست ذاهبة إلى حفلة بل إلى عزاء لكن هذا العزاء لن يكون إلا .. فيها.
حررت شعرها كما أمرها وإلا عقابها سيكون عسيراً، لا تخلو جملة أو أمر يوجهه إليها من تهديد ووعيد، يعلم أنها لن تطيعه بإرادتها.
أتت نيفين تضع لها لمسات المكياچ في صمت، تتأكد أن كل شيء على خير ما يرام لتوصل ذلك إلى شادي.
نهضت خائفة ركبتيها تكادان تتخبطان سوياً من شدة فزعها، نظر إليها نظرة رضى عن مظهرها الأنيق الذي سيجعل عنقه تشرئب أمام الجمع في الحفل، هو يعلم دون مبالغة أنها أجملهن وأكثرهن جاذبية، فهي رغم ملامحها المصرية العادية إلا أن عيونها تمتلك سحراً خاصاً، لمعاناً سحرياً ولكنه مطفئ الآن، واسى نفسه بأنها سرعان ما ستعتاد الأجواء ويعود لمعان عيونها لسابق عهده.
كانت تشد على أضراسها وتكبح جماح دموعها، قلبها يتمزق إرباً، لم تتحمل نظراته إليها وهي ترتدي فستانها الواصل إلى ركبتيها، تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها، إذا كانت نظراته هكذا فما بال من سيحضرون الحفل؟
بعد أن عبر عن رضاه عن مظهرهن جميعاً طلب منهن أن يتبعوه، سارت مترددة تحاول التفكير في حل لما هي فيه وما هي مقدمة عليه، قبل أن يصعدوا إلى السيارة هتفت قائلة: أنا عطشانة
شادي بملل: لما نوصل هتلاقي حاجات كتير تشربيها
- لا، أصلي لما بأعطش بأتعب وجسمي بيترعش
نظر لها بشك: غريبة دي
فتون تنجدها: خليها تشرب يا شادي، كان زمانها شربت وجت كمان
- طب روحي بس بسرعة
أضاف محذراً: وأوعي تفكري ف حاجه كدا ولا كدا أحسنلك
تجاهلت الرد وعادت إلى الداخل، اتجهت إلى غرفة نيفين وفتحت أحد الأدارج تناولت منه شريط دواء، ارتعشت يديها فوضعته مكانه وهمت بالمغادرة لكنها عادت مسرعة وتناولت حبتين منه ووضعت باقي الشريط مكانه وهرولت مسرعة قبل أن تعود في قرارها.
***
انتهوا من العشاء سوياً كما لم يفعلا منذ فترة، كانت نجلاء سعيدة بهذا التغيير رغم علمها إنه ليوم واحد بناء على إصرارها المتواصل.
حملت الأطباق إلى المطبخ وبدأت في إعداد القهوة التي يعشقها فادي بعد وجبة دسمة كالتي تناولها منذ برهة.
سبقها إلى غرفة المعيشة يبحث عن فيلم مسلي يشاهداه معاً، وضعت الفشار على النار لتجهز طبقاً ضخماً للتسالي أمام الفيلم، قررت إنهاء غسيل الأطباق في انتظار نضج القهوة والفشار.
كانت تغسل الأطباق سعيدة بيومها هذا، إنه كما تتمناه دائماً عودة الزوج للعشاء برفقة زوجته مساءً ثم يتابعان فيلماً رومانسياً أمام شاشة التلفاز وهي متقوقعة بين أحضانه تنعم بدفئه وحنانه، لم تشعر إلا بصرخة فادي وهو يغلق صنبور المياه فزعاً.
استدارت إليه متفاجأة: في إيه؟
- هو إيه اللي في إيه ؟؟ إنتي مش واخده بالك إن المايه كأنها مغلية وممكن تسلخ إيدك!
نظرت إلى يدها لتجدها شديدة الأحمرار من أثر المياه، تركها تنظر ليدها ببلاهة واتجه يطفئ النار بعد أن فارت القهوة وحُرق الفشار.
تمتم متأففاً: أنا مش عارف إيه اللي حصلك وخلاكي مش دريانه بأي حاجه كدا، لا بإيديك اللي كانت هتتحرق ولا بالقهوة اللي فارت ولا بالفشار اللي اتحرق
همهمت منصرفة: هأروح أحط مرهم على إيدي
هرولت مسرعة هي نفسها لا تدري ماذا حدث، لماذا لا تشعر بأي ألم رغم أن يدها أوشكت على الإحتراق.
***
وقفت تضرب قدميها في الأرضية بعصبية شديدة، إنها ليست حفلة عادية إنما حفلة للعربدة والمجون، تذكرت الوصايا العشر التي أوصاها شادي بها، الإبتسامة الدائمة، الكلمة اللطيفة، الرقة الشديدة، عدم العصبية، الدلال الزائد .. إلخ.
شعرت أنها سلعة معروضة أمام الحشد لينتقيها من يستطيع تأجيرها لفترة وجيزة لكن بأعلى سعر، احتقرت نفسها والمكان والناس حتى الأموال، الأموال التي تجعل البشر سلعة سهلة الشراء يتقاذفها الأثرياء كأنهم لعبة ملك أيديهم.
رجل بدين أشيب الشعر يبدو أنه يفوق عمر والدها عقداً كاملاً، مال ذلك الرجل على شادي يهمس له بشئ ما ويبدو أنه أعجبه لأن ابتسامة كريهة ظهرت على شفتيه، لمحت بصر شادي يتوجه صوبها، ارتفعت دقات قلبها أكثر من الفزع.
اقترب شادي يسحبها من ذراعها عائداً بها إلى ذلك الرجل متمتامً من بين ضروسه حتى لا يظهر أنه يحدثها خلف ابتسامته المتجمدة فوق شفتيه: هتروحي معاه وهتعملي اللي يقولك عليه من غير ولا كلمة اعتراض .. هيبقى فيه واحد تبعي واقف على الباب لما تخلصي هيرجعك البيت .. بس لازم الزبون يتبسط وإلا ليلتك هتبقى أسود من قرن الخروب يا حياه
قرص على ذراعها بشدة لكنها كتمت صرختها، أصبحت مشاعرها دائماً مكبوتة لا تستطيع تحريرها، هذه ليست عادتها لكن يبدو أنها أصبحت كذلك.
تناول الرجل ذراعها من شادي مصطحباً إياها إلى منزله كما أخبرها، ظل يثرثر طوال الطريق معرفاً نفسه ولكن أذنيها لم تلتقط أي حرف مما تفوه به.
قادهم السائق إلى منزل الرجل ولم يكن السائق سوى أحد أتباع شادي الذي أرسله في صحبتها ليعيدها مرة أخرى بعد قضاء ليلتها برفقة الرجل.
دلفت إلى الغرفة ترطب شفتيها بلسانها، جف حلقها من التوتر وصارت تبلع ريقها بصعوبة احتارت ماذا تفعل وكيف تتصرف، لا تطيق أن يلمسها رجل مرة أخرى رغماً عن إرادتها.
لمحته بطرف عينها ينزع سترته وربطة عنقه ثم يصب كأساً من الخمور، لم تعرف كيف فعلت ذلك كأنها مسيرة، نزعت الكأس من يده ثم قالت بدلال مصطنع: أدخل خد دش
حاول الإقتراب منها لكنها ابتعدت محاولة إخفاء ذعرها الداخلي: لا لا خد دش الأول
قال بنفاذ صبر: ولزومه إيه بس دلوقتي .. هأبقى أخده بعدين بس تعالي دلوقتي .. قربي
احتمت خلف كرسي: لا، أنت كلك عرق وأنا بأقرف، استحمى الأول
- شكلك هتتعبيني، أنا هأقول لشادي على فكرة
اقشعر بدنها لذكر اسمه فقررت الخضوع قليلاً: خلاص أغسل وشك بس وتعالى
انصاع لها عندما رأى التصميم في عيونها، فور دخوله إلى الحمام أسرعت تُخرج الحبوب التي أخفتها في جيب صغير في أحد أجناب الفستان.
وضعته في الكأس وبدأت تحركه بسرعة حتى يذوب الدواء بالكامل، خرج من الحمام قائلاً بإنتعاش: كان معاكي حق، الواحد كان محتاج يفوق
دفعت إليه بالكأس راسمة إبتسامة وهمية على شفتيها: طب أشرب دا يلا بقى
شرب الكأس على دفعة واحدة وعينيه لا تتزحزح عنها، بعد انتهاؤه من الشرب اقترب منها مسرعاً ولكنها تفادته متجهة إلى الحمام: مش هاتأخر
دخلت مغلقة الباب خلفها، تأكدت من تناوله للكأس كاملاً لا ينقصها إلا إنتظار مفعول الدواء في الظهور.
ظلت حبيسة حتى مر حوالي عشر دقائق، وضعت أذنها على الباب تتلمس أي صوت يتصدر من الغرفة، عندما لم تسمع أي ضجيج فتحت الباب بهدوء لتجده ملقى على السرير.
اقتربت منه بهدوء متسللة، سمعت شخيره .. إنه يغط في نوم عميق، لقد تبعهم السائق حتى دخلوا الغرفة وأخبر الرجل أنه سيقف على الباب في الإنتظار كما هو معتاد. إذا فالخروج من الباب دون جدوى، اقتربت من الشرفة الموجودة في الحجرة، كانت الفيلا مكونة من طابقين لكن الإرتفاع من الطابق الثاني للأرض ليس بهذا العلو.
ترددت ولكنها حسمت أمرها أخيراً ليس لديها ما تخسر فقد خسرت الكثير بالفعل، وجدت عموداً إلى جوار الشرفة تمسكت بها زاحفة إلى الأسفل.
لم تصدق أنها وصلت أخيراً إلى الأرض، سارت متمهلة حتى غادرت البوابة الرئيسية للفيلا، ثم لم تشعر بنفسها إلا أنها تركض وتركض بلا توقف حتى تقطعت أنفاسها وأوشك قلبها على منع ضخ الدماء إلى باقي أجزاء جسدها.

رُزقت الحلالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن