الألم صديقٌ قديم²

303 25 83
                                    

قراءة ممتعة ☁️'
__________________


في ظلال البيت، وفي ضياء الشمس المشرقة على ضفة النهر حيث ترقد الزوارق، وتحت ظل الغابة الشاحبة وشجر الزيتون، نشأ كلاود مع صديقه ثيو.

كانت أشعة الشمس تاركة خيوطها الصفراء تكسو السماء، وهو يلهو في بستان التوت برفقه ثيو، بينما أخذت أمه في الغناء، وشرع أبيه في القراءة أمام المنزل محتمي بظلال شجرة زيتون كبيرة.

كان كلاود قد شارك فعلًا منذ وقت بعيد في المحادثات التي تدور بينه وبين أبيه عن الكتب، واشتبك في جدال مع ثيو ومارس فن التأمل والتفكير في صحبته، وعرف أيضًا كيف ينطق الحروف نطقًا صحيحًا، ويقرأ قراءة سليمة، حفظ كلمات وعرف معناها وعرف كيف يلفظها بتروٍ ودقة، كي يضيف لإلقائه شيئاً من البلاغة، ولصوته شيئاً من الحكمة.

كان السرور يغمر قلب أبيه كلما شاهد ابنه الذكي المتعطش إلى المعرفة. والزهو يملأ صدر أمه كلما رأته ماشيًا أو قاعدًا أو قائمًا. وكلاود ذو الاطراف المطواعة يحييها في رشاقة كاملة.

لقد نشأ كلاود في هذا العالم الذي يحمل رائحة أبويه في كل جانب.
وكان هو محاط طوال الوقت بجميع تلك الأشياء التي كانت عبارة عن عالم من الاشراق والوضوح، عالم أبويه وثيو وكل ما هو متعلق بهم.

كان صديقه ثيو، يحبه كما لا يحب أحداً آخر، يحب عيني كلاود، وصوته الصافي.. كان يحب مشيته والرشاقة الكاملة التي تتسم بها حركاته.. كان يحب كل ما يفعله كلاود وكل ما يقوله، ويحب فوق هذا كله، عقله، وأفكاره المتقدة المرهفة، وإرادته القوية، وشعوره بكل ما حوله من كائنات حية وحتى أي جماد تقع عينه عليه.
كان في نظره كل شيء مهما بلغ صغره أو شُح تأثيره، يستحق مكانه في نفس الانسان.

كلاود مع كونه صغير كان يتسم بصفات البالغين في نظر الجميع، كان يدرك الخير والشر، يعرف كيف يفرق بين ما هو جائز وما هو ممنوع، كان يستوعب باطن كل شيء، لأنه يعلم أن لكل شيء وجهاً آخر وأن للكلمة الواحدة ألف معنى.

والأهم أنه كان يدرك الألم إدراكًا تام، أعتاد أن يكون موجوعًا منذ طفولته، وكان لديه تلك الهالة التي تلازم الإنسان حين يدرك بشاعة العالم للمرة الأولى، أعتاد أن ينظر للعالم من حوله بازدراء.

وفي الواقع تلك السمات المذهلة لديه كانت عبارة عن اختباره لمشاعر كثيرة مؤلمة وتجارب أخذت من عمره أكثر مما يجب، جعلته يتخطى السنوات في أيام قليلة، ويبدو في نظر الكثيرين بالغ قد ضاق ذرعاً من كل شيء. رغم الطابع الفردوسي الذي كان يحمله عالمه حينها إلا أن هذا العالم لم يخلو من الألم، ولم يشفق عليه كونه صغيراً وهشاً، بل إنه حين أدرك الحياة للمرة الأولى، لحقت به خيبه كبيرة وحزن شديد لم يحتمله كلاود دفعة واحدة.

أول تلك المشاعر التي اختبرها كلاود عندما كان في العاشرة، حين كان يذهب إلى المدرسة في مدينته الصغيرة، ومازالت عذوبة الأشياء الكثيرة من ذلك الزمن تثور وتعلوه بمسحه من الحزن؛ الأزقة المظلمة، بساتين التوت، والفاكهة المجففة، الأشجار العالية التي تضفي لمسة من الخوف والجمال للأجواء، المنازل والابراج، الغرف الأنيقة والمريحة، الدافئة والباعثة على الاسترخاء، كان كل شيء في ذلك الوقت يفوح بعطر الألفة الدافئة.

وفي يوم من الأيام، أتاه والده بخبر أنه سيكون الأخ الأكبر لفتاة صغيرة ولطيفة، شعر بسعادة غامرة، وراح يُطعم قطًا شارد، ويبتسم في وجوه الغرباء، قضي معظم اليوم يوزع ابتسامات دافئة، ويلهو برفقه ثيو وبداخله طير حر يحلق بعيدًا صوب الشمس.

لكنه لم يكن يتخيل ولو لحظة، أن ثمن وجود هذا الفرد الملائكي الذي أنتظره بصبر، هو اختفاء فردًا آخر، أكثر تعلقًا به وأكثر حبًا له.

ليلتها كانت والدته تصرخ بداخل غرفتها، وأشباح لنساء لا يعرفهم يمشون في أنحاء منزلهم، بعضهن يدخل غرفه والدته وبيديه مناشف بيضاء، ووعاء به ماء ساخن تارك خلفه سحب من بخار الماء، والبعض الآخر في حالة من التوتر والقلق يتلفظن بأدعية ويهمسن بآيات من الكتاب المقدس.

كان من الواضح على أجواء المنزل أن السيدة الشابة في الغرفة تقاوم أكثر من ألم ولادة، رهبة ما كانت تسود المكان مع صوت صرخاتها ووسط هذه الأجواء الخانقة المخيفة كان كلاود يبحث بعينه عن والده، وبداخله ينكر شعور غريب يفرض نفسه عليه.

في البداية كان صراخ والدته يهز جدران المنزل، ثم بعد ذلك سمع صراخ طفلة فأنتابته مشاعر رهيبة، في تلك اللحظة تحديداً كانت صرخات الطفلة تنخر في عظامه، لأنه لوهله شعر بأنفاسه تغادر صدره وتعود، لحق ذلك خروج والده من الغرفة، و سيدة أربعينية قالت شيء لم يسمعه بوضوح بعدها صمت ساد المكان لدقيقة ثم بدأت سلسلة من الكلمات هزت شيء راسخ بقوة في وجدانه، لم يكن يدرك في بادئ الأمر مالذي يحدث، ثم حين ضربت تلك الكلمات جدار ثابت في قلبه أرتعد جسده، ووجد نفسه بعدها يبتعد عن والده كلما اقترب، حتى وقع أرضًا مُجْهَشًا في البُكاء.. كانت لحظة شديدة القسوة.

كانت هذه أول مرة يبكي فيها كلاود بهذه الطريقة، وآخر مرة ينظر لمنزله على أنه هذا العالم الدافئ، منذ ذلك الوقت فقد كلاد شعوره بالانتماء لهذا العالم، العالم بأكمله صار غريب عنه كليًا، وهذا ما دفعه للبحث، فنى عمره في لا شيء بحثاً عن موطن يلملم شتاته ويُداويه..

كبر كثيراً بعد وفاة والدته، تألم أكثر مما يجب وتخطى بالألم أكثر مما يتحمله عمره، رغم أنه غير واعي بما يخفيه العالم من بشاعة وقبح يفوق هذا كله إلا أن هذا الحادث كان بداية اختباره لهذه البشاعة التي ستبقى حية بداخله .

أصبح الألم صديق قديم له، صديق يكثر من الزيارات، ويصرف في تمسكه به، ويكبر معه، ويعلمه ما لا يمكن تعمله بدونه. صديق له فضل عليه بقدر صعوبة تحمله له، وكلاود لا يمكنه أن ينكر فضله !

__________________

15.2.2022

لو في أي أخطاء اتمنى تنبهوني ليها وشكراً ♡.

في عينيه غيُوم ويُحَدِق في الأرضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن