العولمة والدولة القومية: أربع أطروحات

8 0 0
                                    

قد لا يكون من الأوفق التقدم في النقاش حول أثر ظاهرة العولمة على الدولة القومية إلا إذا كان الأمر مسبوقا بعملية تحديد مفهوم العولمة وإبراز أهم خصائصه والملامح البارزة لمشروعه من جهة، وكذا الأسس التي ينبني عليها مفهوم الدولة والشروط الضامنة لاستمرارها وسيادتها من جهة ثانية. وبغير هذا وذاك، تكون العلاقة بين العولمة والدولة القومية غير واضحة الملامح والقسمات، ولا يمكن الحسم في طبيعتها ومضمونها معا، هل هي علاقة نفي وتجاوز وقطيعة؟ أم هي علاقة استمرار وتواصل وتفاعل؟
و

لكن قبل الخوض في هذه الإشكالية العميقة، علينا أولا أن نحدد طبيعة التعريف الذي سنسبغه على كل من العولمة والدولة، فلو قمنا مثلا بتعريف العولمة تعريفا اقتصاديا محضا، وأطلقنا على الدولة تعريفا سياسيا، فإننا بشكل ضمني نكون قد كرسنا أطروحة انحسار الدولة مقابل هيمنة العولمة وانتشارها بمقتضى كون السياسي أصبح مرهونا بالاقتصادي وجزءا منه.
إن الأساس المكين لتجاوز السقوط في هذا التحديد المسبق هو النظر إلى العولمة كظاهرة شمولية تطال كافة مستويات الحياة الإنسانية، وتسعى إلى بلورة أطروحة ذات أبعاد كونية وإلزامية إلى حد ما، في حين تقترح الدولة نفسها ككيان قائم بذاته تجتمع فيه المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتؤسس بنية متكاملة على شكل عضوي.
إن إشكالية العولمة والدولة القومية تفتح على جملة من الأسئلة التي تعمق السحال وتدفع به نحو أفق دقيق وبناء. فما هي طبيعة العلاقة بين العولمة والدولة القومية؟ هل تلغي العولمة إلى حد كبير السيادة الوطنية والقومية؟ أم أن تأثير العولمة على الدولة أمر مبالغ فيه؟ هل انهار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة؟ إلى أي حد يمكن القول إن نهاية الحدود تعني نهاية الدولة؟
إن تأملا ممعنا في تاريخ تطور الدولة القومية منذ ظهورها إلى اليوم يفضي إلى استنتاج مهم مفاده أن الدولة قد عرفت في سيرورتها وحركيتها جملة من المتغيرات، توصف تارة بأنها تغير في دور الدولة، وتارة أخرى بأنها تراجع وانحسار في قوة الدولة، وما يحدث اليوم من تغيرات ومستجدات في منظومة الدولة لا يمكن الحسم في طبيعته، والقول بأن الأمر يتعلق قطعا بانحسار الدولة القومية أو عكس ذلك. إن درجة وصف التغيرات التي طرأت على بنية الدولة زمن العولمة يمكن قياسها، إلا أن ترجيح هذه الأطروحة أو تلك يبقى مرهونا بتوجهات الباحثين والحقول المعرفية التي تؤطر نظرتهم للظواهر.
ومهما يكن من أمر، فإن السجال حول أثر ظاهرة العولمة على الدولة القومية قد أسس في تصورنا لأربع أطروحات على الأقل، أسميناها من باب التمييز بما يلي: 1) الأطروحة المتشائمة، 2) الأطروحة المتفائلة، 3) الأطروحة المعتدلة، 4) الأطروحة التوفيقية.
1 – الأطروحة المتشائمة:
يرى أنصار هذه الأطروحة أن هناك صراعا مستمرا ومتجذرا بين العولمة والدولة، فالعولمة تقلل من أهمية الحدود وتسعى جاهدة إلى تذويبها، بينما تؤكد الدولة على الحدود كضامن للاستقرار والسيادة، والعولمة تعني توسيع الحدود في حين تعني الدولة تعميق الحدود وترسيخها. إن هذا الصراع العميق بين العولمة والدولة سيفضي جدلا إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة وتآكل السيادة الوطنية الضامنة للشرعية والاستقرار، ولترسيخ هذه الفكرة يستند أصحاب الأطروحة المتشائمة إلى تعريفهم لمفهوم الدولة القومية لرصد مجمل الخصائص المميزة للدولة والتي بدونها يصبح الحديث عن الدولة ككيان قائم بذاته أمرا متجاوزا.
تؤكد المدرسة التقليدية في دراستها لمفهوم الدولة القومية على تطابق حدود الدولة مع حدود الضمير القومي، معتبرة هذه الحدود عاملا مميزا للأمم وضامنا لهويتها وسيادتها وشرعيتها القانونية والتاريخية. وترى المدرسة الحديثة أن الدولة القومية ترتبط بظاهرتي الحدود الإقليمية والولاء القومي، وهو تطور جاء كنتيجة للتحولات العميقة التي لحقت بالنظام الإقطاعي الذي أثبت عدم قدرته على تثبيت دعائم النظام الملكي والإمبراطوريات الاستعمارية، فظهرت الدولة القومية متماسكة ومتوازنة على أنقاض القرون الوسطى.
لقد أصبحت الدولة القومية منذ مؤتمر "Weste phalia" 1648م صاحبة السيادة المطلقة التي لا تعلوها سيادة، والسيادة هي السند القانوني الذي تستند عليه الدولة في مباشرة صلاحياتها الداخلية والخارجية، وهي السلطة العليا التي لا تعادلها سلطة أخرى، والتي تسمح للدولة بممارسة وظائفها واختصاصاتها داخل إقليمها الوطني أو مجالها الجغرافي بشكل انفرادي، كما تعني السيادة: الاستقلال التام عن الدول الأخرى بحيث لا يتم تلقي الأوامر والتعليمات من سلطة خارجية.
إن امتلاك الدولة للسيادة إذن يجعلها تمارس حقوقها السيادية سواء في المجال الداخلي أو في المجال الخارجي، وما يهمنا نحن في هذه الدراسة هو الوقوف عند أحد هذه الحقوق السيادية التي تتمتع بها الدولة، وهو حق وضع القيود التي تراها في مواجهة دخول الأفراد والبضائع والأفكار إلى إقليمها، مما يعطي أهمية بالغة للحدود الإقليمية التي يعتبر تذويبها تآكلا في السيادة ونبشا في شرعية الدولة.
بعد الحرب العالمية الثانية، عرفت الساحة السياسية الدولية مجموعة من التغيرات المتراكمة أدت إلى فشل الدولة القومية في حماية طبيعتها الإقليمية وقداسة حدودها الرمزية، فلقد أدت الثورة التي لحقت بأدوات الاتصال ووسائل المواصلات إلى انسياب للأفراد والبضائع والأفكار والقيم عبر الحدود القومية، وكان ذلك بمثابة ضربة قوية لخاصية الحدود الإقليمية الصلبة التي تمتعت بها الدولة القومية عبر عدة قرون، كما أن التطور الكبير في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول، وكذا تعاظم الشركات المتعددة الجنسيات وتحكمها في توجيه الاقتصاد العالمي أدى إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية للحواجز الجمركية، وبالتالي اختراق الحدود وتكسيرها.
إن العولمة بما هي دعوة إلى تذويب الحدود الإقليمية، وجسر لسيطرة قوى الأسواق المالية وإلزام الحكومات باتباع سياسات معينة، تتدخل بشكل صريح في شؤون الدولة، وتزيل العامل الوطني من مكانته الاستراتيجية المركزية، وتبخر المفهوم التقليدي للحدود الوطنية، مما يفضي إلى الانحسار في مفهوم السيادة القومية، وبالتالي الإعلان عن نهاية الدولة.
ترتبط مضامين هذه الأطروحة بالموقف الذي عبر عنه محمد عابد الجابري في معرض تناوله الإشكالية العولمة في الوطن العربي. لقد تصور الجابري العولمة كعالم تختفي فيه الدولة والأمة والوطن، وذلك بموجب كون نظام العولمة يتجاوز في أبعاده ومضامينه ركائز الدولة ومحدداتها، فنظام العولمة بما هو دعوة لتذويب الحدود ورفع الحواجز وإحلال الخوصصة، يحجم سلطة الدولة ويسلب صلاحياتها وأدوارها الحيوية، مما يجعله يكرس بشكل صريح أطروحة نهاية الدولة، وقد عبر الجابري عن هذا الموقف بوضوح في قوله "العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية

عالم السياسه world of politicsحيث تعيش القصص. اكتشف الآن