الفصل الثامن

1.2K 66 2
                                    

قبل أن نبدأ تذكروا أن الحب هو الوحي الحقيقي الذي يجود به العمر مرة، وما دونه إيحاء البخل لأيامنا بكرمٍ مزيف...
...
...
...

الإيحاء الثامن: وحيد*

*الأغنية لـ (سيلين ديون)

-ننتمي كلينا الى ذات الوجع، هل يجعلنا هذا واحداً؟
-آدم ميلر

كان آدم قد استهلك سيجارته الخامسة وهو يعبر الأمتار القليلة أمام باب المشفى جيئة وذهاباً بقهر... كان يقوم بمقابلة مع عائلة لاجئة حين جاء للوالد خبر قتل ابنه في سوريا... الابن الذي كان قبلها بلحظات يخبره عن مدى فخره به وكيف انه لا يطيق صبراً حتى يلقاه .... لم يصمد الوالد أمام الفاجعة فإنهار مصاباً بسكتة قلبية بين يدي آدم الذي نقله فوراً الى المشفى... نظر آدم الى يديه بعد ان أطفأ سيجارته.. ارتجفت اصابعه قليلاً وهو يتذكر جسد الرجل العجوز الذي صاح بألم معجون بالغضب منادياً بإسم ابنه..... كم مرّ على يديه هاتين من فواجع؟ كم جريحاً حمل وهو يغطي اخبار الحروب والنزاعات... كم قتيلاً ساعد في دفنه... كم أم ثكلى حطت على كتفها يده تخفف عنها..... لم يعد يعرف، لقد فقدت الأرقام أهميتها يوم تجاوزت العشر بالنسبة اليه... صارت الوجوه وحدها ما يذكره ويرافقه كل دقيقة .... شعر بساقيه متعبتان جداً فجلس على المصطبة القريبة من البوابة.... وهمَّ باستلال سيجارة اخرى حين لمح مريم تسير نحو البوابة شبه راكضة....
تزحلق اسمها من بين شفتيه هاتفاً به دون وعي... استدارت اليه بدهشة بينما كان وجهها ينطق خوفاً:
-آدم
همست بينما كان يتقدم نحوها معيداً علبة السجائر الى جيبه ..
وقف أمامها وقال متسائلاً:
-خيراً، لمَ أنتِ هنا؟
عاد الخوف الصرف ليحتل ملامحها ماسحاً الدهشة ونظرت الى البوابة وهي تقول:
-جئت لأزور جارنا، لقد قال لي الرجل الساكن امام بيته بأنه تعرض لسكتة قلبية
قطّب:
-تقصدين العم رحيم
-أجل، من أين تعرفه؟
تنهد:
-لقد كنت اجري مقابلة معه، انا من احضرته هنا
سألته بلهفة قلقة:
-هل هو بخير؟
-ما زال في الداخل..
ارتعش صوتها وهي تسأل:
-ما الذي حدث له ليتعرض للسكتة؟
قال بحزن:
لقد جاءه خبر قتل ابنه
صاحت بصدمة:
-لا.. لا .... لقد كان ينتظره ... لقد قال انه سيأتي بعد شهر
أغمض ادم عينيه وجعاً... أجل لقد قال العم رحيم بأنه سيأتي بعد شهر وانه حضر له غرفته وجهزها كما انه وضع عينه على فتاة اراد ان يخطبها له ان اعجبته... لكن العم رحيم الذي خطط لكل شيء من أجل ولده لم يحسب ان للموت خطط أخرى....
تركته مريم لتدخل راكضة فلحقها بخطى ثقيلة... ها هو موت جديد يحتل مكان قطعة حية من روحه بينما يقف عاجزاً عن منعه او تلافيه..... لقد اختار ان يسلك هذا الطريق، وعليه ان يتحمل خساراته .....
تذكر قول والدته:
"لا تذهب يا آدم لأنك ستكتشف الوجه القبيح لهذا العالم وستنطبع ملامحه في عقلك الى الدرجة لا تجعلك ترى السلام حتى وان حدق فيك وجهاً لوجه"
كم كانت أمه محقة.... لم تكن تتكلم عبثاً بل كانت تدرك تماماً ما تقول.... وتوصل أن ادراكها هذا نابع من تجربتها الشخصية... فرغم كل السلام الذي يحيط بهم جميعاً في حياتهم الجميلة، ما زالت والدته حتى اليوم تتحدث عن الحرب كأنها حصلت البارحة وتبكي كل الذين فقدتهم كأنها شيعتهم لتوها الى قبورهم ..
على بعد أمتار منه كانت مريم تسأل موظفة الاستقبال عن رقم غرفة العم رحيم ثم تهرع نحو المصعد فتسارعت خطواته ليلحق بها....
في المصعد كان صوت انفاسها العالية يغطي مساحة الصمت الضيقة التي احاطتهما... كان يعرف بأنها تتألم مثلما يتألم هو وربما أكثر.. فلا بد انها تخيلت لو ان احداً من عائلتها كان مصيره يشبه مصير ابن العم رحيم
سألها  بتوجس:
-هل لديكِ أحد من عائلتك في سوريا
هزت رأسها نفياً فتنفس الصعداء... لم يكن ليستطيع تحمل فكرة ان تخسر أحد افراد عائلتها.... كانت أرق من ان تحتمل خسارة كهذه...
حالما وصلا الى الطابق الذي تقع فيه غرفة العم رحيم خرجت مريم تلتفت يميناً ويساراً بحثاً عن رقم الغرفة
قال لها:
-الى اليمين مريم
ثم تقدمها فتبعته... لم يُسمح لهما بالدخول... الزيارة ممنوعة في وضعه الحرج لذلك جلسا امام الباب المغلق صامتين، كل منهما يحدق في هذا الباب ويفكر بالموت الذي يتربص بالعم رحيم كما تربص بإبنه
همست اخيراً:
-سوف يموت..
التفت اليها وقال مستنكراً:
-لا تقولي مثل هذه الاشياء.. سوف يعيش
هزت رأسها دلالة عدم الموافقة وقالت بحزن:
-أنا لا اقصد انه سيفارق الحياة، حتى ان نجا العم رحيم من الجلطة وعادت اليه صحته... فلن يعيد ذلك اليه ابنه.... سيكون ميتاً بكل الأحوال.... ان الحياة التي علينا ان نعيشها متعاملين مع حقيقة فقداننا لشخص عزيز هي موت بحد ذاته
أوجعه كلامها لصحته.. نحن لا نموت عندما تنتهي ايام عمرنا ويتوقف قلبنا فقط.. بل نموت كذلك عندما نخسر الذين نعيش الحياة من خلالهم .... ان الموت الفيزيائي يقتل الجسد لكن الروح لا تموت... تذهب الى عالم آخر وتبقى حية... أما موت الفقد فيقتل الروح ليُبقي على الجسد الذي يتحول الى آلة تقوم بوظائفها بدقة دون ان تملك شعوراً....
-هل فقدتِ أحداً؟
ابتسمت بمرارة:
-فقدت وطن.... هل هذا يعتبر ضمن الـ "أحد"؟
تحولت عيناه الى بركتي حزن، ماذا عساه يقول أمام جوابها القاتل....
همس:
-أنتِ تشبهين أمي
قطبت دون ان تزيح عينيها عن باب الغرفة
-كيف؟
ابتسم بشجن:
-أمي تتحدث عن العراق كأنه شخص... تعامله معاملة الرجل الأغلى والأحب الى قلبها، وكأنه حبيب بعيد او أخ راحل..... حين نذكر العراق أمامها ترتجف ملامحها، كأن اسمه يربكها مثل طفل ذكروا أمامه والده الذي يهابه ويجلّه في ذات الوقت... ثم يملأ الحزن صوتها، كأنها تستعيد مذاق الحرب والخراب بين حروف اسمه........ وأنتِ.... انت تشبهينها... تحملين من وطنكِ قدر ما تحمل من وطنها
سألته بعد ان تأملت في كلماته للحظات:
-وماذا عن والدك؟
ابتسم بحنان:
-ان والدي رجل يشبه الوطن تماماً
-أنت تبالغ
هز رأسه نافياً:
-صدقاً هو كذلك... يبدو قاسياً وصعباً مع الغرباء.. لكنه الأمان لمن يدخلون ضمن رعايته
رن هاتفها فقطع حديثهما.. التزم الصمت بينما كانت تتحدث الى والدها وتخبره بأنها لم تذهب اليوم للعمل شارحة الأسباب.... حالما انهت الاتصال سألها
-هل كل شيء على ما يرام؟
نظرت اليه.. ولأول مرة منذ رآها اليوم التقت عيناهما... ارتبك كليهما ... احساس بالقشعريرة عبر جسده ... ووقف مبهوتاً أمام جمال عينيها ونظرة الحزن التي تغشاها.. بينما بدت هي كمن نسي النطق... وقبل ان تجد حروفها... خرجت الممرضة من غرفة العم رحيم وهي تصيح بالتركية بكلمات لم يستطع ادم ان يتبينها لضعف لغته... لكن الرعب ارتسم على وجهه وهو يشاهد الطبيب يأتي راكضاً ويدخل... ثم حدث كل شيء بسرعة.....
خرج الطبيب بعد دقائق ليعلن وفاة العم رحيم ....... صرخة مريم من خلفه كانت صدى للصرخة التي دوت في روحه...... ها قد مات العم رحيم... وكأنه لم يستطع ان يتعامل مع حياة لا يعيش فيها ابنه ولم يستطع تحمل فكرة السير على سطح أرضٍ تدفن في بطنها وحيد قلبه .....
التفت الى مريم التي انهارت باكية وهي تصرخ بـ "لا" وتكررها مراراً..... ثم ودون وعي وجد نفسه يأخذها بين ذراعيه في محاولة لإسنادها ووجدت نفسها هي الأخرى تتعلق به كأنها تحاول ان تتشبث بشيء يصلب طولها بعد ان كسره خبر وفاة العم رحيم......
لملمها بين ذراعيه واختنقت صرخاتها داخل حضنه بينما شهقاتها الباكية بدموع أشد حرارة من الكبريت كانت تنخر صدره......... فجأة لم يعد يستطيع ان يسيطر على دموعه .... فنزلت رغم انف رجولته.... اسند ذقنه على أعلى رأس مريم واخذ يبكي معها.............
في تلك اللحظة كانا يقفان جسدين من وجع وخسارات ... يواجهان الموت متعانقين.. يبكيان بمرارة ليس لرحيل العم رحيم فقط... بل لكل هذا الخراب الذي يعم العالم...... يبكيان الوطن، والحرب، والفقد .....
*****************************

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن