-وقبل أن نبدأ....تذكروا .. ان الحب هو الوحي الحقيقي للحرية .. وما دون ذلك مجرد سجنٍ مظلم وموحش من الإيحاءات المتكررة
..............
............
..............الإيحاء التاسع: بطل*
الأغنية لـ (أنريكي إغليسياس)
-لست أنتمي لي بقدر ما أنتمي إليكِ
-مكسم هيمسوورثنهض مراد من مكانه نافضاً محتويات الصحن المعدني الذي بيده وصوبه مباشرة نحو وجه الحارس ليرتد الحارس شاتماً بالعبرية عندما ضرب المعدن القاسي جانب وجهه بحدة........ لم يكن هذا مراد الذي يعرفه... كأن رجلاً آخر يتلبسه، رجل محبطٌ، غاضبٌ، يائسٌ ومقهور الى درجة انه لم يعد يبالي بأي عقوبات او أوجاع..... الشياطين لم تتوقف عن التراقص أمامه منذ أن جاءه الحارس بخبر تسليم أمل نفسها.... تلك الحمقاء العنيدة قد جعلت من تضحيته عبثاً....... لقد افتداها بنفسه الغالية وإذا بها تُرخص تضحيته وتذهب لتسليم نفسها بكل سهولة في محاولة بطولية خرقاء لتخليصه.... أكثر ما يغضبه هو شجاعتها المفرطة وضميرها الحيّ... لكن ذلك لم يثر اعجابه بقدر ما اثار اعصابه والكلمات التي القاها الحارس ورفاقه على مسامعه حول ما سيفعلون بها بدأت تتجسد على شكل صور أرعبته....
وصل غليانه الى درجة الانفجار حين دخل الحارس عليه بصحن الطعام بدل ان يدفعه اليه من تحت الباب... علم ان الحارس فعل ذلك لغرض في نفسه وكم كان محقاً .. اذ قدم الحارس اليه الطعام وقال له بإنجليزيته الركيكة:
-وصلتنا أخبار أن مذاق عشيقتك لذيذ جداً.... حينما تنتهي نوبتي اليوم سأذهب بنفسي للتأكد من ذلك....
فجأة صار المجال أمامه أحمراً كالدم.... وصورة أمل ممزقة الثياب تنتهكها الأيادي القذرة جعلت عضلاته تتحرك دون أمر من عقله.... نفض عن صحنه محتواه وسدده الى وجه الحارس البغيض ...... ولكن الحارس لم يسكت وصراخه جلب زملائه فانهالوا عليه ضرباً من كل جهة.....
سقط على الأرض بعد ان حاول جهده ليصدهم عنه... لكنه كان خائر القوى بعد الأيام التي قضاها هنا...... كانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها للعنف الجسدي.... وسيكون بالتأكيد مبرراً جداً..... لقد منحهم لتوه عذراً ليركلوه بأحذيتهم العسكرية ويتركوا آثارهم على جسده كما يشاؤون......
كان هناك ألم شديد يعتريه .. وكان جسده ينتفض بشدة مع كل ركلة او لكمة تسدد اليه.... لكن ذلك لم يكن أكثر ألماً من تخيل أمل بين ايديهم........ صرخ بعد ان فشل جسده في الابقاء على كبريائه فشقت صرخته جدار صدره وجدار الزنزانة ..... تبعتها صرخات اعلى وأكثر وجعاً........
بعد أن تعب الحراس من ضربه تركوه ملقى على الأرض موجوع الجسد، منزوع الكرامة ومكسور الكبرياء...... في تلك اللحظة شعر مراد بأنه قد مات فعلاً..... موتاً لا بعث بعده ..!
**********************************
حدقت في الحائط بفراغ، كأن كل ما يجري لم يكن يعنيها..... ها هي تمر بأبشع كوابيسها... لقد عاشت دوماً مع هاجس ان يتم اعتقالها لانتمائها لبعض الجمعيات التي تناهض الاحتلال اذ انهم بالعادة يجيدون تلفيق التهم للمنتمين الى أي كيان يبحث عن حرية فلسطين.... وعلى هذا الاساس وضعت عشرات السيناريوهات لطريقة الاعتقال والتحقيق ونوعية التهم....... لكن مخاوفها في كل تلك السيناريوهات لم تصل الى ربع الخوف الحقيقي الذي شعرت به وهي تواجه ضابط التحقيق..... في خيالها كانت دائماً تضع احتمالية الاعتداء الجسدي لأنها كانت تظن ان أي تهمة ستلقي بها هنا ستكون تهمة سياسية لن تشفع فيها جنسيتها البريطانية..... لكنها أبداً لم تتخيل ان الارهاب النفسي الذي تعرضت له في التحقيق هو اشد وقعاً وشدة من كل خوف تخيلته .....
كان الضابط ينتهكها دون حتى ان يضع اصبعاً عليها.... بدءاً من جلسته التي قتلت المسافة بينهما حتى تداخلت ساقيه بين ساقيها دون تلامس مروراً بنظرته التي لم يرفعها عن صدرها المخبئ بشكل تام خلف بلوزتها الواسعة انتهاءاً بكلماته الوقحة الاستفزازية عن طبيعة علاقتها بمراد....
لم تكن تعتقد سابقاً ان الاغتصاب يتجاوز احياناً الفعل الجسدي... بل هو فعل نفسي كذلك.... كانت تقرأ في عيني الضابط تفاصيل استباحته لها متعمداً... نظرته التي كانت تتحرك ببطيء مقصود فوق جيدها ... شفته التي يصر على عضها بشكل منفر.... ساقيه اللتان تتحركان بين ساقيها دون لمسها... انفاسه الحارة اللزجة... صوته الخافت الذي يحمل نبرة اشتهاء لا تخطئ ........ كان كل ما في ذلك الضابط ينتهكها الا جسده وكان كل ما فيها يُنتهك الا جسدها..... كان ذلك جزء من استراتيجية عمله..... ولم تكن تملك ان تعترض لأن العواقب ستكون أكثر سوءاً بكثير.... كانت ترفع عينيها بين حين واخر للضابطة التي من المفترض ان ترافق الضابط في التحقيق حسب القانون تستنجد بها علّها تساعدها... علّ الانثى فيها تثور للتجاوز النفسي الذي تتعرض له ... لكن الضابطة كانت تدير رأسها متجاهلة الصرخة الصامتة في عينيها.... وهكذا كان عليها ان تتخطى ذلك التعدي السافر عزلاء من كل سلاح.. حتى سلاح الكلمات ..!
حاولت قدر استطاعتها ان لا تظهر رعبها... اجابت فقط على الاسئلة التي المتعلقة بتهمتها.. نفت عنها أي علاقة عاطفية بمراد واكدت على براءته... لكن الضابط لم يكن يستمع... كان قد قرر انها قاتلة وان مراد شريكها.... وشعرت لحظتها بالحماقة لأنها ألقت بنفسها في التهلكة وهي تعلم جيداً استحالة ان يصدقها أحد دون دليل..... لكنها مع هذا لم تستطع ان تترك مراد للمجهول لذلك لم تتوانى عن إطلاق اخر سهم في جعبتها وان كان سهماً مكسوراً...... لقد ضحى مراد من اجلها، وعليها ان تضحي من أجله......
انحرف فكرها نحوه... والتمعت في ذاكرها خصلته الفضية .. وتذكرت كيف ناكفته حولها... أغمضت عينيها وشعرت بالسوء.... لقد اعتبرته رجلاً غير ناضج... كان يزعجها تكبره وتنصله من أصله... لكنه فعل ما لم تتخيل ان يفعله أحد لها يوماً.... لقد ضحى من أجلها وهي التي لا تربطها به الا المصائب..... اسندت جبهتها الى الجدار وفكرت بأنه مثلها الان مفصول عن العالم بجدران وقضبان وأسلاك شائكة، تضرعت في نفسها:
"لتحدث معجزة يا الله..."....
******************************
بعد يومين دخل آدم الصالحي الى مركز الشرطة بنفسه... لم يبدو مكسوراً كما يشعر داخله ولم يبدو كذلك حزيناً أو خائفاً رغم ان الحزن معتق في كل وريد من جسده والخوف يسكن كل عصب فيه.... لكنه مع هذا كان يمشي بكامل هيبته.... بشموخه العربي وكأنه يتحدى صفاقة الوجوه الدخيلة .... خلفه كان يسير صخر الذي رغم تلكأ ساقه بسبب العرج لم يكن يقل هيبة وسطوة عن آدم وبجانبه مشى جوزيف بملامح وجهه الباردة كأنها قُدّت من ثلج ...
خلف الثلاثة كان جيش المحامين يسيرون بتتابع محملين بملفات وجهاز حاسوب محمول....
بعد دقائق كان آدم يشرف على الضابط ويقول له بلهجة شبه آمرة:
-أريد ابنتي ومراد السالم خارج السجن، والآن ..!
كان جوزيف يراقب الحرب الباردة التي تدور بين الضابط وادم الصالحي..... وهما يتناقشان حول الأدلة الجديدة........ بدا كل شيء كأنه معجزة.... بعد ان جنّ جنون آدم لتسليم ابنته نفسها مع أنه وعدها بأن يجد حلاً وكان قد تناقش معهما على تقديم المشاهد التي تظهر فيها امل مدافعة عن الفتاة للشرطة.. لكن تسرع امل أفقده صوابه ولم يكن ليلومه.. مجرد التفكير بأن مايا قد تكون بوضع كهذا يجعل الدم يهرب من شرايينه....
حدث كل شيء بزيارة مفاجئة لرجل غريب يدعى "الزار" .. قال موظف الاستقبال في الفندق لآدم بأن الرجل بإنتظاره فيما يتعلق بابنته مما جعل آدم يسرع الى مقابلة الرجل ... تلقى صخر اتصالا من آدم يطلب منه المجيء... وما هي الا نصف ساعة حتى وكان هو وصخر وآدم يجلسون أمام الرجل صاحب الملامح الشقراء والمدعو الزار....
طلب منه آدم:
-أرجوك أخبرهم بما أخبرتني
هز الزار رأسه وتحدث إليهم:
-أنا صاحب المحل المغلق أمام النادي الليلي.... كنت في سفر حين حصل كل شيء... تلقيت اتصالاً من ابني الذي يذهب يومياً لتفقد المحل أخبرني فيه بالحادثة المكتوبة في الصحف كما انه قال لي بأن الحادثة مزيفة لأن كاميرات المراقبة لدينا في المحل تقول غير ذلك... كما أخبرني بأن اصحاب المحال المجاورة أخبروه بأن الشرطة تجمع جميع اشرطة كاميرات المراقبة المطلة على المكان فأخبرته بأن يحتفظ بالنسخة وان يقوم بتعطيل الكاميرا... لذلك حينما جاؤوا ليطلبوا الشريط أخبرهم ابني بأن الكاميرا لا تعمل وحين تأكدوا من ذلك رحلوا.....
أشار الى فلاشة صغيرة تقبع بين يدي أدم وقال:
-في هذه الفلاشة لقطات كاميرا المراقبة التي تثبت كل شيء... أتمنى ان تنقذوا بها أولادكم
لم يستطع عندها ان يضبط عقال فضوله وسأل مقطباً:
-لماذا الآن؟ لقد مضى على الحادثة اسبوع وكان الشريط بحوزتك.. فلماذا الان؟
ابتسم الزار وهو يوزع نظرته على ثلاثتهم:
-لقد كنت كما قلت مسافراً، لم أكن أستطيع ان اقطع سفري... كما انني لم اشأ توريط ابني... اننا اسرائيليون.. إذا عرفوا بأن ابني ساعدكم سيحولون حياته جحيماً.. لذلك كان من الأفضل أن أقوم بهذه الخطوة بنفسي.. وحين جئت بحثت عن السيد آدم في الفنادق مخمناً انه مقيم في أحدها وقد حالفني الحظ فعلاً
قطب آدم بحيرة:
-لماذا؟
وعرف الزار ما يعنيه آدم بسؤاله:
-لقد رأيت الفيديو المنتشر لإبنتك... هي في مثل عمر ابني..... واكبرت فيها شجاعتها واستماتتها في الدفاع عن براءتها...... كوني ولدت في هذا المكان لا يعني انني اقبل بالظلم ....
ثم صمت للحظة وأكمل وابتسامة مريرة ترتسم على وجهه:
-لقد كانت حب حياتي امرأة عربية... شجاعة مثل ابنتك.... وقف بيني وبينها تاريخنا الدموي.... لا هي استطاعت ان تغفر لي ولادتي في اسرائيل ولا انا استطعت ان ازيح اسرائيل عما تراه أرضها...... ثم جاء يوم وخسرتها حين ذهبت لتنضم الى المقاومة في القدس... وقتلت في الاشتباكات.....
تعكر وجه الرجل بالألم... وكأن الذكريات تمر امام عينيه صوراً حية... واختنق صوته ... ثم عم الصمّت
همس آدم أخيراً:
-شكراً....
كانت كلمة يتيمة لكنها حملت امتناناً يغني عن عشرات الجمل الطويلة.... نهض الزار ومد يده يصافح آدم .... شعر جوزيف بتردد آدم.... خمن انه لم يصافح رجلاً يحمل جوازاً اسرائيلياً من قبل.... لكنه في النهاية صافحه .. كان هذا اقل ما يمكن ان يفعله لرجل أنقذ لتوه حياة ابنته .... صافح الزار صخر ثم صافحه هو ثم أكد على طلبه بأن لا يذكر اسمه في أي تحقيق ويبقى مصدر اللقطات مجهولاً... فوعده آدم وصخر بذلك.....
وها هم جميعاً الان يقفون أمام مكتب الضابط الذي يبدو وكأنه يقطر سماً وغضباً بينما ما زال صخر وادم يتناقشان معه....
خرج من غرفة الضابط وأجرى اتصالاً سريعاً تأكد فيه بأن المقاطع قد تم تسليمها الى كل وسائل الاعلام التي كانت تضج بفيديو امل في الايام السابقة .... لقد كانت امل ذكية جداً حين حولت القضية الى قضية رأي عام وسمع العالم كله شهادتها... وقد أكمل على طريقها حين اقترح نشر تلك المقاطع بالإضافة الى مقاطع دفاع امل عن الفتاة على جميع مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الاخبارية .....
كان معجباً جداً بشجاعة أمل ... والتي تذكره بشكل ما بشجاعة أنجل... ومر في باله تلك الذكريات حين اعتقدت انجل انها قتلت مايسون وجاءت مرتجفة وخائفة الى البيت ودخلت في حالة هستيرية .... لكن حين حاول مايسون قتله بعد زواجهما لم تتوانى عن الدفاع عنه وقتل مايسون...... فقد كانت حمائيتها وخوفها عليه في تلك اللحظة هو دافعها ولم تشعر بالذنب لإنقاذها حياته.... امل بشكل ما مثل انجل... فقد هربت خوفاً من الشرطة حين كان الامر يتعلق بها وبسلامتها ولكن حين تحول الأمر الى حماية شخص اخر تورط معها فلم تتوانى عن الذهاب بنفسها الى الشرطة محاولة بذلك انقاذ مراد دون تردد...... كان فعلاً شجاعاً بالنسبة لفتاة شابة.... ورغم كل تهورها لكنه احترم فيها مبادئها وقوتها......... لطالما اعتقد بأن النساء نوعين.. الأول التي تبحث عن درع تحتمي خلفه والثاني من تتحول الى درع تحمي به من تحب.... وامل مثل أنجل.. تنتمي الى النوع الثاني بلا شك ...............
أنت تقرأ
إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملة
Storie d'amoreرواية بقلم المتألقة بلقيس علي الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي