عصفور

4 0 0
                                    

دوما أرى السماوات الزرقاء من الداخل بنظرة عصفور، وأمامي يظهر قضبان ذهبية اللون و الاعتقاد، قضبان طويلة المسافة بينهما لا تُذكر.
ولد العصفور من خلفها، حيث عالم ومكان لا يخلو من كثير راحة، عدم إكتراث والحماية، مكانٌ ظاهره سجن يقتل مفاهيم الحرية وباطنه حياة راغدة لطفل يربينه أبواه، مهما مر عليه وعليهم الدهر ستبقى المعاملة الشيء الوحيد التي اعفت من المرور الزمن عليها.

وكفطرة أي عصفور يُخلق و طبيعته التي لا تحتاج إلى برمجة خارجية، أن يعشق الطيران، أن يرى، يحلق، وأن مهما أصيب أو جُهِد لا مكان له في الأرض بطول الأمد، لا يخاف الخطر ليس لأنه شجاع بل لأن عيناه عمياء لرؤية أبعاد ما يُخاطر فيه. لا يستوعب أحجام ما قد تعطيه الحياة.
لكن كان للقفص سوطه الخاص الذي كان يَجلد به العصفور بكافة الوسائل، مثل السجْان الذي يُجاهد في اقتلاع هوية السجين ربما، ويطرح وضعه الحالي أمامه في مكانة الفرض لا خيار فيه. لا خيار في فعل شيء سوى الإنتظار... الوقت يقتل نفسه باستمراره.

تأسرك القضبان، تفقدك هويتك شيئا فشيئا، تجعلك لا ترى نفسك كما يجب أن تراها، أن تفقد قدرتك و ثقتك على الطيران أو تصل لمرحلة تشك بأهلية أن تدعو نفسك أنك من صنف الطيور. تفقدك هويتك لكن تحصل على طعامك، احتياجاتك، وحمايتك من الآخر، اعتناء البشر بك، جميعها مكتسبات وقتية.. مهما طالت وعكفت عليك.. لن تدوم.
كما أن الطيور ليس مكتسباتها هذه، اكتسابها الوحيد لعله في الطيران والقدرة على مواصلة الطيران، و الرغبة في الطيران بعد كبوة أو غفوة، لعل الطائر خُلق طائرًا لكي لا يتعلق بالأرض أن يكون بداخله رغبة دفينة في المضى قدمًا، قُدمًا نحو مكان يسعى إليه، سعيه و وجده بحد ذاته مرتبط يسبب خلقه فيها.

إذا ما أخذنا نظرة حول هذا العصفور وربما بنظرة "عين طائر" لربما سألنا: لكن لماذا كل هذا؟ لماذا ولد العصفور بهذا مكان وهذا قفص؟ ماذا ارتكب ليُضع هنا؟ أن تقتله مساوىء القفص من الداخل، وتتكفل به محاسن ما يوجد.
وفوق ذلك ما فائدة استمراره بالوجود هكذا؟ أهو جبان لدرجة يهتلكه كل شيء، ام يخشى بتحرره يخسر ما لا يسترجع مجددا، لربما لو وُلد بقفص غير هذا لربما ما آلت هكذا.

كثيراً ما كان يشعر العصفور أن حياته كانت خطأ من البداية، لا يَعرف إن كان يمكنه الطيران الآن أو أنه مازال يمكنه اللحاق بركب من يشبهونه ونفس عمره، لا يشعر بفعل الكثير في حياته القصيرة، جزء من كيانه أصبح يرى لا جدوى من شيء، لا جدوى من امتلاكك أجنحة لا تُستعمل، أو عيون طائر لا ترى بها السماوات، أو أيام ليس فيها ما يُسد ما وجوده، كطائر مجروح ليس أمامه سوى انتظار إما شفائه يوماً أو موته حتمًا.

ماذا سيحدث عندما تنتهي مدة حبسه يوماً، ويخرج من هذا القفص الذهبي وتبقى ما يسد أمامه وأمام السماء هى محاولته الاولى للتحليق:
حر ... أنا حر؟ ماذا معنى حرية أساساً؟ لقد نسيت معناها، هل هى أن تكون عبد لنفسك وتفعل ما تامرك به؟ أم تكون عبد لهذه السماوات تقودك حيثما تراها أن تشاء، أم الحرية ليس فيها ما يعيطك الكثير، هل الحرية تتعلق بأعمار معينة مقصورة على فهمها.

لازال العصفور لا يفهم محيطه الجديد الذي كان يراه طوال حياته من خلف القضبان، أتضح أن الطيران والسماوات ليس بالسهولة مثلما عششت برأسه، ليست مجرد فعل ما تشاء. سياكل الكثير من وقته ليفهم ما حوله، لينسلخ من هوية السجين الذي كان ينتظر البشر من يعتني فيه، وينتظر القفص من يحميه.
لعله حقًا تستحق في النهاية كل هذا الوقت، تستحق أن تحاول بهذا العالم الشاسع، أن تعطيه ما يمكنك أن تعطي. لعله كان أكبر من قدرات العصفور المعدومة لكن بنهاية المحاولة وسيلته الوحيدة لتبيلة ما يقبع في كيانه: أن يمضي قدمًا.

وهو قد أبعدت عن مكانه وقفصه للمرة الأولى سمع هواجس و أصوات من خلفه، أصوات بكاء من بشر الذين اعتنوا فيه، لعلها دموع حنين أو فراق طائرهم المزيّن؟ أصوات تضع العصفور حائرا بين طريقان متعامدان: الخلف أم الأمام.
لماذا يفعلوا ذلك.. لماذا أذرع هذه القفص تنادي العصفور مجدداً، ماذا فعل ليحقق عليه عقوبة هذه... لم يعد يرغب في الطيران إلى هنالك.. لكن.. حقا عصفت به الكثير... أيختار نفسه ويبرز أنانية أجنحته للمرة الأولى، أم يختار دموعهم وحنينهم مع غناء إبتسامة مزيفة لهم مثل كل ليلة.

"من منا الذي تعب وجعلك هكذا."
عبارة قالها البشر القصر الذين اعتنوا فيه، قتلت العصفور من عمقها في مقتل. أجل هم من تعبوا من جعلوه بهذا الشكل، شكل بالنسبة لهم أستحق منهم كل عناء وجهد، كل تضحية، أكل وشراب وحماية، كلٌ عليهم حق عليك، حق أردت أن تتحرر منه، أن تفك قيودهم نحوك، ابتزازهم لك بما قدموا للعصفور قتلت كرامته بالطيران وهم لا يدركوا أن ما قدموه له يوازي حجم ما تحطم من ذاته، قبور، و أصوات جنائز بداخله، فقد القدرة على الفهم والتفاهم، القدرة على المتابعة والإدراك،
ليته كان بإمكانه أن يصادف أي صياد بطريق عودته أن يخلصه من هذه حلقات مفرغة. أن يتسلى هو بهواية عفا عليها، وان يرتاح العصفور للمرة الأولى بلا ندم معين.

اصبري يا أجنحة العصفور، لعل وقتك لم يحنْ، لم يأتي بعد. لم تأتي لحظة أن ترى نفسك، أن تختارها، أن تكون شجاعًا، أما الآن فعليك أن تبقى كما كنت، أن تنتظر وتقبل تخلفك عما حولك، أن تَخفي وتقمع نفسك.

ولهذا سيظل العصفور يمقت اليوم الذي آتاه لهذا العالم.

أقلام عابرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن