4

89 41 2
                                    

أسدل اللّيل حجابه البارد على المنزل الصّغير الذي يضمّ نوغوا وزوجها وآخر صغيرَين من أبنائهما.

تكوّن المنزل من غرفتين أنيقتين رغم بساطتهما. فقط ولا شيء آخر..

توسّط غرفة الزّوجيّة سرير خشبيّ عتيق مصنوع يدويّاً منذ أكثر من عقدَين من الزّمان، عندما كان الجسد البشريّ لفوكسي المُعيل للعائلة ما يزال يحمل من الصّحة المقدار الكافي لأن يعمل بيديه متغلّباً على المَشاقّ التي صنعتها الطّبيعة آسفةً؛ كطريقة لإظهار جانبها القاسي في أوجه البشر لعلّهم يخشونها فتكون قسوتها جداراً من شأنه أن يَحول بينها وبين مطامعهم الجشعة. غير أنّ التاريخ سيثبت أنّ طريقتها تلك لم تكن ناجعة..

تحت الملائات العتيقة والتي كانت ناصعة البياض في يوم ما؛ من الجَلي أنّ هذا اليوم أصبح بعيداً جدّا للحدّ الذي لن تقدر الذّاكرتَين البشريّتَين للزوجين أن تستحضرانه، قبع جسد فوكسي ضعيفاً هزيلاً مليئاً بالنّدوب المُخلَّفة بواسطة المرض الحاليّ وجميع ما سبقه من أمراض تعرّض لها طوال المائة عام التي عاشها في هذا الجسد الفاني.

لرّبما كانت جميع هذه الأمراض والعلل ليست سوى محاولةً نابعة من أعماقه في سبيل الابتعاد عن هذا الجسد الغريب.

ولكنّ جانباً منه قاوم بقوّة مُآلِفاً الغرابة كي يبقى برفقة حبيبته نوا. شريكته في الخطيئة وفي تحمّل العقاب على السّواء.

اليوم إذ يذكُر الخطيئة على هذا السّرير محبوساً في هذا الجَسد الضّعيف يُدرك بالكثير من الرّضى أنّ النّدم لم يتّخذ من قلبه مسكناً، وأنّه إذ قُدّر له أن يجتمع برفقة توأمه الفاتنة من جديد بين النّيران المُتّقدة سيسمح لغرائزه أن تسيطر عليه وسيرتكب الخطيئة مجدداً، ومجدداً، حتى إن عنى ذلك خسارة الخلود ليس مرّة واحدة فقط، بل لعدد لا يحصى من المرّات.

في النّهاية تغلّب جانبه المُشتاق إلى الحياة الحرّة عليه؛ سامحاً للموت أن يسرقه من أحضان  عشيقته.

وترك جسده المؤقّت مغادراً للمجهول.

في ذلك المساء صاحت نوا برفقة صغيريها وعلا نحيبهم الملتاع.

صاحت عالمةً أنّها منذ هذه اللّحظة أصبحت مُجبرة على قضاء ما تبقّى من العقاب القاسي بمفردها.


-

ذكريات مُشوّشة هي ما أبقتها نوغوا لنفسها بعد كلّ هذه السّنوات الطّويلة؛ لتكون تذكار ودليل على أنّها عاشت تلك الحياة يوماً.

على أنّ ذلك المنزل معدوم الأثر احتضن عائلتها الكبيرة يوماً.

في بقعة ما من عقلها؛ هي احتفظت بالمشهد الأخير الذي جمعها بزوجها المريض الموشك على المضيّ قدماً   تاركاً يدها لأوّل مرّة ولمدّة طويلة، طويلة جدّاً ولكنّها لا تساوي الأبد. هي تتذكّر وعد حبيبها وتسمعه نقيّاً واضحاً رغم مرور دهور بأكملها.

على فراش الموت قال نصفها الآخر: "في ليلة من ليالي التّرحيب بإحدى سنوات النّمر، سأعود إليكِ. وسنترتبط سوياً لمدى الأبديّة. وسنحتفل في منزل مزيّن بفوانيس بيضاء محافظَين على غرابة حبّنا المُعتادة."

هي استغلّت أيامها القليلة ما بعد الموت في البحث عن روح زوجها. 

مخاطرة بذلك في عبور الطرّيق نحو الخلاص.

في النّهاية فرغ منها الوقت الثمين المحدود وغدت روحاً هائمة محرومة من الخلاص.

ولكنّ أحداً لا يعلم أنّ خلاصها يتمثّل في فوهسي.

-

ابتسمت نوغوا بلهفة صافية، تشعر أنّ قوّة وحشيّة تقودها بعجالة باتجاه منزل آكي.

-

وصل الزّميلان إلى مكان الاحتفال.

وبينما انبهرت آن لان بمظاهر الاحتفال المبهرجة.

انشغل عقل آكي في تأمّل المرأة الأفعى السّابحة أمامه كالعمياء المجرورة بحبل خفيّ.

دُهش جزئياً بالمظهر الميتافيزيقيّ البديع؛ الذي وياللغرابة لم يستفزّ عقلانيّته بقدر ما سحره الجمال البدائي النقيّ.

-

حبيب أبديّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن