|| لماذَا ؟ ||

72 13 15
                                    

 اِرتطمَ جسدُهَا بالأرضِ بقوّةٍ ثُمَّ التفَّت بوجهِهَا نحو الصوتِ في حركةٍ خاطفةٍ سامحةً للألمِ أنْ يظهرَ على مَلامحِ وجههَا بينما تمرِّرُ عينيهَا على وجه الفتى الشاحبِ وملامحهِ المُرتعبةِ، أبعدتْ ناظريهَا عنه ثم حملَت هاتفهَا الذي تهشّمَت شاشتُه جرّاءَ السقطةِ واتّجهت نحو البابِ بسرعةٍ لكنّه سأل دونَ مقدمات:

«هل كنتِ ستقفِزين؟»

تَجاهلتْهُ ومدّت يَدهَا نَحو المِقبضِ في محاولةٍ لتحريكِه مرةً، مرتين، ثلاث، لكنَّ البابَ أبَى أنْ يُفسحَ لها المجالَ للهربِ، سمّرت ناظِرَيهَا على أصابعِهَا التي ابيضّت وهِي مُلتحمةٌ بالمقبضِ، فزادتْ مِن قوّتهَا ثُم حاولَت دَفعَ البابِ لكنْ دونَ جَدوى، أَسندَت جَبهتَهَا على البابِ الحَديديّ وهي تُتمتمُ بمَا لمْ يصلْ سمعَ الشابِّ قربَهَا، كانتْ تَرجُو أنْ يُفتحَ الباب، ألّا تبقَى في هَذا الموقفِ لثوانٍ أطْول، لَكن هيهات.

ثَبَّتَت جبهَتَها على السطحِ الحديديِّ الباردِ للباب تُفكّر في مجاهدتِها لنفسِها طوالَ المدّةِ السابقةِ رغمَ الأفكارِ التي تُداهِمُها في أكثرِ اللحظاتِ تشتتًا فِي حَياتِها، تذكّرت الوساوِسَ التي كانت تطربُ لسماعِهَا كُلّمَا زارتها وجَعلتها تشتاقُ لشجِّ يَدِها منَ الوَريدِ قبلَ أيّام، كمَا اشتاقت اليومَ أنْ تُذيقَ نَفسَها سَكراتِ الموت بعدَ أنْ يَقبِّل جِسمها الأرضَ بشغفٍ لتتحرّر.

بعدها سمِعت صوته مجدّدًا يقول:

«كنتِ ستقفزين»

أجابَ سؤالَهُ بنبرةٍ خافتةٍ بينَمَا ينحنِي قربَها ملتقطًا من الأرضِ منديلًا أسودًا، ثم عادَ ليسلِّطَ عليها نظراتِهِ المستنكرةَ فتأذتْ أكْثر، تَركَت المِقبضَ وسمحَت لِجسدِهَا أن يستريحَ أرضًا، أثْقلتْ على نَفسها حِملاً جديدًا لتجاهِدَ حتّى لا تتحرَّرَ دموعُهَا، لكنّها اكتفَت، نفسُهَا اكتفت وما عادَ للكتمانِ والصمتِ سبيل.

سأل مرّة أخرى بعد برهة:

«لماذَا؟»

خبأّتْ وجههَا بين كفيهَا وانكمشَت على نفسِهَا، هزّت رأسَهَا يمينًا وشمالًا، وكلُّ ما استطاعَت إخراجه كانت شهقاتُها الّتي تعالى صوتُها تباعًا بسبب تسارُعِ وتيرةِ تنفسهَا، كانت كلماتُها مشتتةً ومتقطعة، هِي لا تعلمُ بما تجيبُهُ أو تجيبُ نفسهَا.

لطالمَا ضَرب الحُزنُ جُدرانَ روحِهَا تاركًا ندوبَهُ، لأنّها كانتْ محاربةً ضعيفةً، لم تختر يومًا أن تحاربْ، لم تُرد يومًا أن تحارب في هذه الحرب لذا تفكيرها في أنها ستصبحُ غير موجودةٍ كان يريحهَا، فقط للحظاتٍ قبل أن يباغتهَا الواقع بالحقيقةِ، بأنَّ الحياةَ لنْ تنتهي لو أنهتْ هي دنياهَا.

حلَّ الصمتُ لمدةٍ لا يقطعه إلا صوتُ عطساته المتكررةِ وشهقاتها، نظر إليها نظرةً خاطفةً جانبيةً من بين أهدابِه مؤكدًا لعقله ما أوصلهُ سمعه فقد بدأ الهدوءُ يحتلهَا تدريجيًّا، وما إنْ رفعتْ عينيها ورأت نظراتِه الحزينةَ موجهَةً للفراغ، اعتلجَ الهمُّ في صدرِهَا أكثر وزاد سمك غشاوةِ دموعها فدفنتْ رأسَهَا مجددًا في نوبةِ بكاء جديدةٍ.

وجد لنفسهِ مكانًا يجلسُ فيه متواريًا عن نظرِهَا تاركًا لها نوعًا من المساحةِ متجاهلًا الفضولَ الذي سرق اهتمامه ورغبتَه في فتح بابٍ للحديث معها.

أرجعَ رأسهُ للخلفِ مسندًا إياه على السور، أغمضَ عينيه وتنهدَ بقلةِ حيلة متسائلًا في داخِلِه: كم شخصًا مثلها يعاني في صمت؟ كم شخصًا صعد هنا ليلقي بجثمانه من هذا الارتفاع الشاهق قبلها؟ والأهم كم شخصًا نجح؟

فتح عينيه و أمالَ برأسهِ قليلًا و قد سمع صوتًا دلّهُ على اقترابها من مجلسه فأزاحَ جَسده هو الآخر لليمين ليستطيعَ رؤيتها بينمَا لا يصلُ لمرآها، لم يشأْ أن يتحدَّثَ فجأةً فتشعرَ بأنّه يحاولُ حشرَ أنفهِ في حياتهَا فآثرَ الصمتَ مرةً أخرى.

عدَّلتْ جلستها فاردةً رجلَيهَا للأمامِ ومريحةً عينَيها بعدما خفَّ بكاؤها، أخذتْ تحرِّكُ قدميها بتوترٍ، بللتْ شفتيهَا ثم سألتْ بصوتٍ قريبٍ للهمس:

«منذ متى وأنتَ هنا؟»

تحمحم منظّفًا حنجرته ثم أجاب بصوتٍ واضحٍ خاتمًا جملته همسًا:

«قبل أن تصعدي إلى هنا ونعلقَ»

سحبت ماء أنفها وثنت ركبتيها مجدّدًا قبل أن تعتذر، لقد شعرتْ أثناء عبورِها الباب أنّ قدمها دفعت شقة قماشٍ صغيرةٍ وفهمت قبل قليلٍ أنها ما كانت تحول دون أن تغلق البابُ لكنّه نفى برأسه ثُمَّ تكلَّمَ بنبرةٍ احتلَّتها الثقة:

«لا بأس، سيلاحظُ صديقي أنّي لم أعد للغرفةِ عاجلًا أم آجلاً وسيصعدُ لتفقُّدي»

قطعَ كلامهُ للحظاتٍ منتظرًا منها أن تتكلمَ لكنهَا لمْ تفعل، حاولَ انتقاءَ الكلماتِ المناسبةَ مؤمنًا بأهميةِ الكلماتِ في هذه المواقفِ أكثر من أي زمانٍ آخر. أحنى ظهرهُ قليلاً للأمامِ مركزًا نظره أرضًا وقال بنبرةٍ حاول جعلها طبيعية:

«هل أنتِ بخير؟»

دفعَتْ كلماتُهُ آلافَ الأمواجِ من الأفكارِ إلى التلاطُمِ داخلَ عقلِهَا، بدايةً من حالِ بيتِهَا وأهلِها وصولًا لحالها مع نفسها، كل شيءٍ كان وما زال فوضويًّا، سحبَتْ مِن الهواءِ ما تستطيع رئَةٌ في جسدٍ صغيرٍ كجسدهَا حمله ثم زفرَتْ مطلقَةً العنانَ لجنودِ أحزانَهَا حتّى تبدَأَ سباقًا جديدًا على وجنتيها ثم همسَتْ بصوتٍ طرقَ مسامِعَه:

«لا، لستُ كذلك»

*.*.*.*.*.*.*.*.*.*

أعجبكم الفصل ؟

دمتم في رعاية الله و حفظه ♥️

غيهب✓حيث تعيش القصص. اكتشف الآن