شارع فلسطين؟!.. حي المستنصرية!
لقد كان ذلك في شرق بغداد تحديدًا!
هرولت إلى الهاتف الأرضي وكتبت الرقم بسرعة، أخطأت عدة مرات بسبب قلقي الزائد وتوتري المبالغ به.
كان رقم رعد هو أول شخص حضر في ذهني حينها، ربما لأنه كان الأقرب لذلك الحي.
كتبت الرقم بشكلٍ صحيحٍ أخيرًا!
صوت رنين، لكن لا رد..
رنينٌ أخر..
لا شيء..
لا إستجابة._____________
{رعد}
_الأول من مارس 1987.
ركضت خارج المنزل، كان يجتاحني شعورًا غريبًا حينها، لا أعلم ما هو.. مزيجٌ من الحزن، الشوق، واللهفة.
عدت إلى منزلي تلك الليلة، ظللتُ صامتًا، كانت أمي تُعد الفَطور، تركتها ودخلت إلى غرفتي..
أذكر أنها قد حدثتني وقتها ولكنني لم أَرُد.
استلقيت على السرير وأنا شاردٌ في السقف.كانت تميمة الفتاة الأولى التي تحدثتُ معها وأنا أشعر بالوهج والسرور داخلي.. لكن لا مشكلة، رَحل أبي مِن قبل وتركني، ورحل أحمد أيضًا، لكنَّها.. كانت مختلفة.
...
_الأول من مارس، 1994
سارت الأيام على هوادة، ظللتُ صديقًا لدانة حتى الصف التاسع.. كنا نتحدث قليلاً للإطمئنان على تميمة، حتى أعطت دانة رقمي لتميمة.
في تلك الأيام كانت أصوات دوي إطلاق النيران في شمال العراق مستمرة، حتى إنني في كثيرٍ من الأحيان أسمعها من شرق بغداد.. والتلفاز لا يكل عن نشر الأخبار السيئة، منذ اسبوع... لقى رجل حتفه في شرق الجادة 7، وأمس اشتعلت النيران -إثر قصفٍ جوي- في شارعٍ مجاور أصيب فيه عشرة أشخاص.
كانت تمنعني أمي من الخروجِ أحيانًا رغم كوني شاب في التاسع عشر من عمري، في السابع من مارس كان موعد بدء اختباراتي الجامعية، والتي لم أستطع التخلف عنها رغم كون البلاد تقصف باستمرار، وفي ذلك اليوم الموعود ذهبت للجامعة في تمام الثامنة صباحًا...
لا أتذكر الكثير، لكنني فجأة سمعت صوت دوي إنفجار شديد، اهتزت الأرض من تحتِنا على إثرِه، لم يكن انفجارًا عاديًا كالذي نسمعه يوميًا.. بل ارتجف قلبي للمرة الثانية -فقد كانت المرة الأولى حينما رأيت تميمة لأول مره-، لكنني أظن الرجفة الثانية كانت أشد.
بعد انتهاء الإختبار ذهبت إلى المنزل، كان قلبي يدق بشدة حينما أنظر للأعلى فأجد السماء ملبدة بالدخان لا الغيوم، حينما اقتربت من الحي الذي أقطن به توقف الزمن حولي فجأة، شعرت بتشوش الرؤية وانعدام الصوت، تلك الصدمة التي تشعر بها أولاً لأن عقلك لا يستطيع استيعابها.
كانت أشلاء الجثث وحُطام المنازل من حولي في كل مكان، هرولت الأُسر الناجية إلى ناحية الغرب،
صوت عويل النساء وبكاء الأطفال، كل ذلك دفعني إلى النظر بذهول دون حراك.
كان عقلي قد توقف إلا عن كلمة واحدة، كانت أمي.
ظل عقلي يردد كلمات مبعثرة.. أمي، البيت، ماذا حدث؟
حينما استفقتُ مِن الصدمةِ -أخيرًا- تَحركت قدماي دون استيعاب إلى المنزل، قفزًا من بين الحجارة، ومرورًا بالحواجز وحطام المنازل، أتخطى البشر مِن حولي والأطفال، حتى وصلت.. وياليتني لم أفعل.
لأول مرة، لم أطرق الباب.. ولم تفتح لي أمي..
لأول مرةٍ دَخَلت.. دون باب.. بل دون حائط.
دخلت من حائط غرفتي الذي اِنهار، السقف قد سقط كذلك، خُيلَ إليَّ أحمد جالسًا على الأرض، وقد دخلتُ الغرفة ومعي الطعام لنأكُل ونحن نلعب، سمعتُ صوت أمي من المطبخ وهي تردد وراء "الست".. تطهو الطعام.
لكن كل ذلك كان محض خيال...
لأن أمي التي كانت تطهو الطعام وتدندن، كانت ملقاةً على الأرضِ، ينزف رأسها الذي اصطدم في الأرض بقوة وسقطت الحجارة فوقها.
تحسست نبضها في قلق، لم أكن أشعر بالخوف.. لأن عقلي لم يستوعب حتى الأمر.
إنها.. إنها حية!
لازال هناك نبض!
كان الهاتف الأرضي يرن منذ دخولي للمنزل ولكن لم ألاحظ من الأساس، نهضتُ بأمي ركضًا إلى المشفى، كانت في الحي المجاور لنا، مستشفى "الكندي".. "المستنصرية".
كنت أركض.. محاولاً الحفاظ على ثباتي لكيلا تهتز أمي بشدة وتزداد معاناتها.. أخيرا وصلت.
مهلاً؟
ما هذا؟
لم يكن القصف في حيّنا!
بالطبع لا..
كان القصف هنا جليًا أكثر من أي شيء، لم يكن حُطام المنازل هو المنظر المروّع الذي رأيته.. بل كانت أشلاء الجثث.
رائحة الموت تحيط بي، الدماء متناثرة في كل مكان.. على بقايا الأشجار.. فوق الجثث.. على الركام.
المشفى هنا؟.. أيُ مشفى؟.. وماذا ستفعل؟
نزلت دمعةً مني عنوة، وهل هناك وقتٌ مناسب للبكاء أكثر من هذا؟
وضعتُ أمي على الركام، صُعقت من المشهد أمامي، وأبَى عقلي التفكير في حلٍ، جثوت على ركبتاي، انظر حولي.. تتساقط الدموع في فزع، لم أر شيئًا يدل على الحياةِ هنا، لا بشر.. لا حركة، حتى الطيور في السماء ارتعبت مما رأت فآثرت الذهاب بعيدًا.
تحسست نبض أمي مجددًا، وضعت يدي على رأسها، لم يَعُد ينزف.. وكذلك لم يَعُد قلبها ينبض..._____________
{دانة}
سمعتُ صوت قصفٍ عميق، أثار فزعي وايقظني مِن النوم، تبعه صوت بكاء اختي "شجن" في الغرفة المجاورة، وَثبتُ إلى خارجِ غرفتي لأجد أمي تحمل شجن وتقلب في التلفاز في قلقٍ بالغ.
كانت تبحث في القنوات الإخبارية عن موقع القصف، وذهبتُ أنا أتصل برفيقاتي لأطمئن عليهم."عاجل.. قصف المحلة 502 أقصى جنوب المستنصرية بواسطة طائرات سوخوي-25 غير معلومة المصدر بعد."
تبع ذلك الخبر ببضع دقائق رنين الهاتف الأرضي لأُجيب أنا.
"دانة؟
هل أنتِ بخير؟"كان صوت تميمة من الجهة الأخرى.
"أجل أنا بخير، كل شيء على ما يرام لا تقلقي.. فقط كان القصف قريبًا منا هذه المرة."
"حمدًا لله، أخبريني هل رعد كذلك؟
هاتفته عدة مرات ولم يجب.""ربما لا يزال في الجامعة لا تقلقي فقد انعقدت اولى اختباراته اليوم."
أغلقت الخط معها وقد طمأنتها على رعد قليلاً.. طلبت من أمي أن تأذن لي الذهاب للإطمئنان عليه في يأسٍ، بالطبع لم توافق لكن شيئًا ما في قلبي كان يخبرني أن مكروهًا قد أصاب رعد.
___________
{تميمة}أغلقتُ الخط مع دانة، في ذلك الحين قد أتت شمس أخت أبرار مِن الجامعة، وَضعتْ أمي الطعام وجلستُ شاردة، تناوب عمي وأبي الحديث، وكانت أبرار شاردة مثلي تمامًا..
"هل أجابك رعد؟"
كانت أمي، قالتها وهي تطعم رحيم الصغير.
"لا، حدّثتُ دانة فأجابت.. سوف توافيني بالأخبار حالما تعرف."
"آمل أن يكونا جميعًا بخير."
جلست أقلب الأرز في شرودٍ بالمعلقة، حتى سمعتُ رنين الهاتف من جديد لأنهض ركضًا إليه.
"تميمة؟.. رعد بخير لكن أمه.."
"ماذا أصابها؟!"
-------
يُتبع..
أنت تقرأ
اضطراب
Actionوكأني أخوض حربًا خاوية، بيني وبين نفسي.. مَن ينتشلني؟ تتصارع الأفكار في رأسي، كـحربًا أهلية شنَّها عقلي على قلبي. ......... ∆جميع الأحداث الواردة في القصة من خيال الكاتبة وإن تشابهت مع الواقع فهي محض صدفة. ∆الغلاف من تصميمي. .........