(١)
تفهمتُ مؤخرًا ماذا يعني أن يصلَ المرءُ إلى ذروة اللاشعور، أن يراقب مشاعره وهي تتبعثر دون أن يستطع الإمساك بها بينما هي تتلاشى بعيدًا، ألّا أهتم بما هو مضحك، بما هو مبكي، وحتى بما هو مخيف!
بعد ولادتي بثلاثةِ أيامٍ تقريبًا، تُوفي والداي إثر سقوطهما من فوق منزل جدتي القديم في صباح أحد الأيام.. كان أبي يُحاول إصلاح إحدى نوافذ الغرف العلوية للمنزل من الخارج وتعثرت أحد قدميه في حافة النافذة، ثم حاولت أمي الإمساك به قبل أن يلحق كلاهما بمصرعه.
ذهبا سويًا وتركاني وحيدًا قبل أن أتمكن من رؤية أيٍ منهم، رُبما لو كان باستطاعتهم النجاةُ فكان بإمكانهم انتشالي من ذلك المأزق الذي حلّ بي بعد وفاتهم، وتعويضي عن الحنانِ الذي فقدته في معظم طفولتي البائسة التي عشتها مع جدتي.
فكانت دائمًا ما تقول لي أنني نذير شُؤمٍ وأنني السببُ في وفاةِ والداي، وتلقي إليَّ بالكثيرِ من الكلمات التي يصعب لطفلٍ تحملها.
كنت أُحبها حبًا جما، وأصغي إليها في سنواتي الأولى ولكن سرعان ما أصبحتُ لا أُطيق رؤيتها! أو التحدث إليها؛ بسبب معاملتها السيئة لي، وحاولَت أكثر من مرة أن تتخلص مني بشتّى الطرق، حتى أن كلبها الذي كانت تمتلكه كان يحظى بمعاملةٍ أفضل مني بكثير.
فكانت تدعني أنامُ في كثيرٍ من الأحيانِ بدون تناول الطعام، و يمكن ألا أتناولَ أي أطعمةٍ لعدةِ أيامٍ، عدا تلك التي أتناولها خلسةً في غيابها!
كانت تجبرني أيضًا على المبيت فوق سطح المنزلِ ليلًا في أقصى ليالي الشتاء الباردة! دون ارتداء معظم ملابسي، عقابًا لي إذا حاولت اللعب مع أيٍ من الأطفال بالخارج، ولا أهبط للأسفل إلا عندما أُصابُ بالمرض.
جعلت مني شخصًا سيئًا إلى أقصى حد، ولم أعرف سببَ تلك المعاملة السيئة لي حتى الآن، إلى أن جاء اليوم الذي رحلت فيه عن عالمنا.
كنتُ في الخامسةِ عشر من عمري تقريبًا، لم أشعر بالقلق تجاه عيشي بمفردي بعد وفاتها فكانت صديقتي في المدرسة تهتم بي وتُحاول أن تهون عليَّ وحدتي، قبل أن تتركني هي الأخرى بعد عامين من وفاة جدتي وبعد علاقة حبٍ - من طرفٍ واحد - دامت لأكثرِ من ثماني سنوات طوال فترة الدراسة، أظنُّ أنها لم تبادلني الشعورَ ذاتهُ يومًا طوال تلك المدة، أحيانًا من نُحبهم لا يبادلوننا المشاعر نفسها، وهذا مؤلم لكن لا يمكننا تغيير ذلك، تفهّمتُ حينها كيف لمشاعرِ الحُبِّ من طرفٍ واحدٍ أن تكونَ مُؤلمة!
ذهبتُ إلى حفلِ خطبتها وانتظرتُ حتى انتهاء ذلك الحفل، ثم قمتُ بجمع أصابعها وأصابعَ خطيبها في حقيبتي وصنعتُ منها طعامًا لقطتي، عشتُ بعدها فترةً من حالة اللاشعور.. لم أكن أهتم بما يحدث للعالم خارجًا أو بأي شيءٍ آخر، ورغم أنني لم أحب التعامل مع البشر إطلاقًا ولا أن أتحدث إليهم، حاولتُ بيعَ منزل جدتي؛ كي لا أضطرَّ للذهابِ إلى العمل، وكما توقعتُ إلى حدٍ ما لم يرضَ أحدٌ بشراءه، فلم يكن لدي خيارًا آخر سوى بيع منزل والداي والعيشُ في منزل جدتي القديم..
أنت تقرأ
رحلة تعافي -مُكتملة-
Romanceأن تشعر بأنَّ شخصًا يحتويك بكُلِّ طُرق المحبة وفي كُلِّ الظُروف، أن تشعرَ في حضرتهِ بالرحابةِ المُطلقة، وألا تمتنع عن الكلام أو تتردد فيه لأنَّكَ تثق تمامَ الثقةِ بأنهُ سيتفهم، وأنَّ ما لا تقولهُ يلمحهُ في ملامحِكَ ونبرةِ صوتِك، هذا هو المكسبُ الحقي...