الفصل الخامس

463 110 23
                                    

                                        (٥)                                                

لأولِ مرةٍ منذُ سنواتٍ، خرجتُ أتمشى صباحًا بالقرب من ضفافِ النيل بدلاً من السير في الغابة، أو في المقابر.

مؤخرًا بدأتُ أشعر بشيءٍ غريبٍ بداخلي، كأنَّ قلبي قد عاد إليَ من جديد، هُنا بين ثنايا قلبي، حيث كان يقبع الشر بداخلي، قست عليَّ تلكَ الحياةُ المؤلمة، ومزَّقت قلبي لأشلاءٍ، وقسوتُ أنا على أشخاصٍ أبرياءٍ لا ذنب لهم.

إن أسوأَ ما قد أصابني في السنوات الماضية هو فُقدان شغفي، ليس حزنٌ ولا انكسارٌ إنّه انطفاءٌ لا نورَ له، فلم أهتم بمستقبلي بعد أن دمرتُ رحلة تعليمي بتصرفاتي السيئة مع المعلمين، أو ما سأفعله مستقبلًا بعد أن تنتهي تلك النقود التي كانت ثمنًا لبيع منزل والداي، لم أترك نفسي سوى للسقوط والإنهيار فحسب، ولم أجد لي رفيقًا خلال أيامي سوى الصمت.

تدورُ المعاركُ بداخلي، أموتُ وأحيا عدةَ مراتٍ ولا أستقرُّ على حالٍ واحدة أبدًا، كلُّ تلكَ الأشياءِ كانت تدورُ في تفكيري أثناء حملي كوبًا من القهوة، وأنا أسيرُ بجانب النهر وأتمتعُ بلحظاتِ شروقِ الشمس، تمنيتُ لو أجد بين كل أولئك الأشخاص الجالسين شخصًا واحدًا أستطيعُ التحدثَ إليه عمّا يدورُ بداخلي دون أن يمل من حديثي أو يصيبه التضجر من معاناتي.

كان المنظرُ بديعًا صراحةً، كل شخصٍ يجلس بجانب رفيقتهِ وآخرون بجانب أصدقائهم.

بعد سيرٍ استمر لدقائق قليلة كنتُ أبحثُ عن مكانٍ خالٍ؛ لأستريح فيه من عناءِ المشي الطويل، لم أجد مكانًا خاليًا سوى  بجانبِ فتاةٍ كانت تجلسُ بمفردها، ظهرَتْ على وجهها ملامحُ الحزن، وانهمرت من على وجنتيها قطرات الدموع.

تحركتُ بضعةَ خطواتٍ قليلةٍ للأمام، حتى وقفتُ أمامها وبدأت بالتحدث قائلاً:
- ينفع أقعد؟
لم تلتفت إليّ أو تُبدي أي ردةَ فعلٍ، فبدأتُ أبتعد قليلاً حتى قالت بصوتٍ هادئٍ يصحبهُ الكثير من التعب:
= اتفضل، اقعد عادي.

جلستُ بجانبها ثم مرت بضعة دقائقٍ أخرى ولم يتحدث أي منّا، لم أكن مُتحدثًا لبقًا لكني حاولتُ أن أبدأ الحديث معها قائلاً: 
- أنا شايف إن إحنا الاتنين تقريبًا بنمر بفترة مليانة حزن وهموم، لو حبيتي تتكلمي أو تحاولي تطلعي اللي في قلبك زي ما أنا محتاج إني أعمل كدا معنديش مشكلة.
صمت كلانا لثوانٍ قليلة قبل أن أتابع:
- يعني أنا تقريبًا مش أعرفك ولا أنتِ تعرفيني، وممكن منتقابلش تاني، يعني محدش هيعرف سبب حزني أو حزنك، أو بمعنى أصح كأنك بتكلمي شخص مش موجود، وبعتذر إذا كنت اتدخلت في شيء مش يخصني بالطريقة دي، بس أنا مش بعرف أتكلم مع الناس وكدا.

لم أعرف سبب ما جعلني أنطقُ بما قُلتهُ للتو، ولكن كلُّ ما أردتُهُ هو أن أبوح بما يدورُ بداخلي لأي أحد، حتى بدأت تلتفت إليّ، كانت عيناها محمرةٌ متعبة، وعلاماتُ الأرق تظهر على وجهها، ثم قالت بصوتٍ منخفض:
= لا عادي متعتذرش دا لُطف منك.
وأضافت:
= من كام شهر تقريبًا خلصت آخر امتحان في المرحلة الثانوية، وظهرت نتيجة الامتحانات من يومين، فـ كان حلم حياتي إني أدرس في كلية الهندسة، وعرفت إني مش هقدر أعمل كدا زي ما كنت بحلم من صغري، كمان مش دي المشكلة، المشكلة إني بدأت أحس مؤخرًا إني مش مهمة في حياة حد، بحس طول الوقت إني إنسان مُهمش حتى في بيتي، وشعور الوحدة ملازمني دايمًا ولا حد بيفهمني، عشان كدا باجي هنا كل يوم و أقعد لوحدي.
قلتُ باسمًا مُحاولًا لتخفيف ألمها:
- بس كدا؟
تابعت:
-  هو آه فعلاً الشعور بالوحدة مؤلم، أنا حتى جربته طول حياتي، بس لازم الإنسان يتعلم إنه يكتفي بنفسه، وبأفكاره، وبأحلامه، والعالم الخاص بيه، لازم نحدد مين يستحق وقتنا، والمكان اللي يستاهل وجودنا فيه، كفاية بس إننا ننشغل بنفسنا وبعالمنا بعيدًا عن حياة الآخرين.

رحلة تعافي -مُكتملة-حيث تعيش القصص. اكتشف الآن