قسم ملوك أبابيل
توقف عاصف عند طرف رأس الصخرة وإلى جواره وقفت زوجته الملكة بينمـا حام طائر العنقاء في الهواء لبعض الوقت قبل أن يتخذ من غصن إحدى الأشجار العالية مكاناً يهبط فوقه ..
قال عاصف وهو ينظر للوجوه المُتطلعة إليه:
- لقد طلبتكم الليلة؛ كي تقسموا بأرواحكم على حماية زوجتي..
وأضاف وهو يشير بيده للطفلة المُستلقية فوق الصخرة:
- وعلى حماية ابنتي جومانا..في تلك الفترة كانت أبابيل تشهد وقتاً عصيباً للغاية؛ فقبل زهاء العام تقريباً وعندما أحسن الملك السابق جبار بأن الموت يُناديه فإنه عقد اجتماعاً طارئا لكُبراء العائلة كي يختار من بينهم وليا لعهده..
ثم وبينما كان الكُبراء المستحقون لولاية العهد في انتظار أن يقع الاختيار على أحدهم، إذ فاجأهم جبار عندما صوب نظره باتجاه حفيده عاصف وقال:- أنت .. ستكون الملك
بدا حينها عدم القبول واضحاً على وجوههم ليس فقط لأنه اختار للعرش صبياً متهوراً لم يتجاوز عامه العشرين بل لأنهم كانوا يعتقدون بشأن عاصف أنه ذو دماء ملوثة؛ فهو ليس جنياً نقياً مثلهم بل مخلوق هجين: كانت أمه جومانا تنتمي لعالم النار "الجن".. بينما كان أبوه بحر ينتمي لعالم الطين "الإنس"..
عندما رصد جبار أمائر عدم القبول في وجوههم أنذاك، فإنه همس في قلبه يستمهل الموت:"امنحني قليلا من الوقت أيها الموت ما زالت أمامي مهمة أخيرة".
لقد كان عليه أن يتأكد قبل مغادرته الحياة من أن مملكته ستكون بخير من بعده؛ لذلك فإنه قال بوجه صارم يحادثهم:
- أريد أن أسمع منكم أنكم قبلتموه . ملگا؛ حتى أغادر وأنا مطمئن. ورغم عدم القبول الذي كان لا يزال واضحا عليهم، إلا أن أحداً منهم لم يتجرأ على عصيان الأمر الأخير فانحنوا جميعاً أمام الحفيد يرددونله "قسم ملوك أبابيل".
وأخيرا وعندما اطمأن جبار لكل شيء فإنه نظر باحترام شديد نحو حفيده وقال مستأذنا: "والآن اسمح لي بالانصراف يا مولاي الملك
عاصف"..
ثم أغمض عينيه وهمس للموت في قلبه:
"أيها الموت أمسك يدي، خذني إليك".
بعد أيام وحين انتشرت أخبار وفاة الملك
عمت الفوضى كل أنحار القصر، وتجرأت الجنية "سندس".. في اجتماع خاص عقدته العائلة على أن تقول:
- لقد أصيب جبار بالخرف في لحظات حياته الأخيرة ولم يكن في کامل وعيه وهو يوصي بولاية العهد لحفيده الهجين؛ لذلك فإني أطالب بعزله عن الحكم وتنصيب حاكم آخر غيره..
ولكن في الجهة المقابلة تصدى لتلك الادعاءات الكثير من ڪُبراء العائلة ليس لاقتناعهم بجدوى عاصف كملك، بل وفاء للراحل جبار وإنفاذاً لأمره السامي الأخير..لم تكن المشاكل تدور داخل أسوار القصر فقط بل امتدت لخارجه أيضا فقد بدأت بعض الممالك المجاورة باستغلال فرصة انشغال العائلة الحاكمة بمشاكلها الداخلية، وسارعوا بالتآمر لاحتلال العرش: فقاموا يجمع فلول أفراد "منظمة الجاثوم(1)" وأعادوا إرسالهم لأبابيل كقوات مرتزقة لتعيث فيها الدمار.. ثم ولزيادة الخراب أكثر فإنهم أثاروا الفتن والأحقاد بين قبائل الطين والنار؛ الأمر الذي تسبب في اندلاع الكثير من الحروب الأهلية والتي ذهب ضحيتها العديد من الأرواح البريئة..
1- يقصد بفلول منظمة الجاثوم: أولئك الجنود الذين كانوا يتسبون للمنظمة لكنهم هربوا وتشتتوا في الأرض بعد أن قام عاصف بهزيمة قائدهم طاغين في الجزء الأول من هذه الرواية..
كان الملك الشاب عاصف يدرك كل تلك الأخطار والكوارث التي تواجهها أبابيل ويعلم جيدا بأنه في حاجة للتحرك السريع بالجيش لإنقاذ الموقف ..
ولكنه أولا وقبل كل شيء هو بحاجة لأن يشعر بأن قلبه محصن بشكل كافٍ وأنه يقف فوق أرض صلبة يستطيع الانطلاق والتحرك منها بأمان، وهذا لن يحدث إلا بعد أن يتأكد من أن عائلته ستكون بخير أثناء غيابه..
لذلك فإنه قام تلك الليلة بدعوة جميع من يثق بهم من الأصدقاء وكُبراء العائله وطلب منهم أن يقسموا له بُقدسية صخرة الميعاد المُقدسة على حماية زوجته وابنته وأن يكونوا عوناً له في حربه القادمة والتي سوف يسعى من خلالها لتأمين شعبه ومملكته..
أما هم "الأصدقاء وكُبراء العائلة" فإن احداً منهم لم يتردد لحظة واحدة حيث اقتربوا جميعا من الصخرة ووضعوا أياديهم عليها تباعاّ وأقسموا له على ذلك..
الذين ظنوا أن هذا هو الأمر الوحيد الذي قام الملك باستدعائهم من أجله تلك الليلة قد أخطؤوا كثيراً، فما أن انتهى الجميع من تأدية القسم وهموا بطلب الإذن بالانصراف حتى سمعوا وقع خطوات أقدام شخص .
مجهول تقترب من موقعهم..
أنت تقرأ
الجساسة
Historical Fictionفي هذه الحياة ستواجه الكثير من المعارك اليومية ولكن معركتك الأهم ستكون تلك التي تخوضها مع ذاتك؛ لتبقى فيها قلبك سليمًا وسط كل الدمار الذي يحدث من حولك .