الفصل الأول

54 1 0
                                    

نوبة هلع

إلى ذلك الذي وجدني غارقة في الظلام، فأضاء في قلبي شمعة ورحل،  أدين لك بعمري، جعلتني أنهض على قدمي مرة أخرى، وأثق أن السقوط لا يناسبني.

                           منى وهبه

****************************************

                             إهداء
                             ‏
إلى حبيب العمر، أول جمهوري، وأعزهم على قلبي، من آمن بي دوما وشجعني، من قال لي دوما اكتبي كلما شعرت بالحزن والقلق واليأس، فرغي كل مشاعرك على الورق، إليك أنت وحدك يا أبي، أهدي هذه الرواية، وكنت أتمنى لو كنت بجانبي لتقرأ.

                             منى وهبه
★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★

                         (الفصل الأول)
                         ‏
كان منهمكا ف عمله كعادته، يراجع ملفات القضايا التي سيترافع فيها غدا، أدخل بعضها في حقيبته ليأخذها معه إلى منزله وجلس يراجع الباقي.

دخلت مساعدته إلى غرفة مكتبه، تخبره أن الساعة قاربت على العاشرة، فهل يحتاج منها شيئا قبل أن تغادر المكتب؟

رفع رأسه ونظر إليها، وقال لها : شكرا لك لا أريد أي شيء آخر  يمكنك المغادرة الآن، أنا سأبقى هنا قليلا.

هزت رأسها، وقالت له: حسنا أستاذ أدهم، أراك غدا بإذن الله.
_ إن شاء الله، أغلقي يا سلمى  باب المكتب الرئيسي وراءك، فأنا لا أنتظر قدوم أحد من الموكلين.
_حسنا كما تريد .

أغلقت سلمى المكتب ورحلت، وظل هو في مكتبه وسط الملفات والمرافعات يحضِّر كل ما سيحتاجه، ويطالع بعض الكتب المتعلقة بالفقرات التي تهمه في هذا الأمر، بعد قليل شعر بالنعاس، فقام ليعد لنفسه فنجان قهوة قبل أن يغادر المكتب، كان يدندن مع نفسه أثناء تحضير القهوة، حين وصلت إلى مسامعه أصوات جلبة شديدة في الخارج تأتي من العيادة التي في مقابل مكتبه، في البداية لم يكترث للأمر ظن أنه ربما كان شخصا من أقارب المرضى يتشاجر مع مساعدة الطبيبة كعادة العيادات بسبب الجدال على الدخول، لكن بعد لحظات قليلة كان صوت الصراخ قد علا وارتفع، وبدا كأنها امرأة تستغيث.

أنزل فنجان القهوة بسرعة من على الموقد، وانطلق ناحية باب مكتبه، وفتحه؛ ليجد صوت صراخ مساعدة الطبيبة يخرج من حجرتها، دخل بسرعة إليها، فوجد رجلا ثائرا يسب ويشتم وهو يحكم قبضته على رقبة الطبيبة، و هي تقاومه وتدافع عن نفسها لكنها بطبيعة الحال أضعف بنية منه، وكل جهودها تذهب سدى في تخليص نفسها من قبضته، أما مساعدتها فتحاول ضربه من الخلف  حتى يتركها، ولكن الآخر لا يستجيب،  جذب أدهم هذا الشخص من الخلف بقوة، ودفعه ناحية الباب؛ ليخلص الطبيبة من يده، وكانت الدفعة قوية أفقدت هذا الرجل توازنه، فوقع بسببها على الأرض، لكنه قام بسرعة؛ ليجذب أدهم قبل أن يتفقد الطبيبة، فأصبح مواجها له، فبادره بلكمة على وجهه، على إثرها أمسك الاثنان في بعضهما البعض، وكل منهما يقوم بتسديد اللكمات للآخر، في تلك الأثناء اتصلت مساعدة الطبيبة بالشرطة التي جاءت على الفور.

‏تخلصت الطبيبة من ذلك الرجل، ولكنها انهارت، وأصيبت بحالة ذعر شديدة، لم يعرف أدهم ما بها، جرت عليها مساعدتها حين انتابتها تلك الحالة، وظلت إلى جانبها حتى تخطتها، عرف حينها أدهم أن الطبيبة مصابة بنوبات الهلع وتحدث لها إذا تعرضت لخوف شديد أو ضغط شديد.

‏عرَّف أدهم عن نفسه لضابط الشرطة حين أتى، وأخبره بما حدث وأكدت مساعدة الطبيبة على كلامه، في الوقت الذي كانت الطبيبة فيه لا تستطيع التحدث من هول ما حدث، فما زالت آثار يديه على رقبتها، وأيضا دخولها في تلك النوبة أتعبها وأرهقها جدا.
‏ كانت القوة التي رافقت ضابط الشرطة قد أخذت ذلك الشخص إلى الأسفل فور قدومها، ثم طلب الضابط من الطبيبة بعد أن هدأت قليلا  الذهاب معهم إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، نظرت إليه، وقالت: لا داعي لتحرير المحضر، الرجل الذي أخذتموه إلى الأسفل يكون زوجي، وابن خالي، لن أستطيع تقديم أي بلاغ فيه.
‏ أخبرها الضابط أن عليها الذهاب معه، ومن حقها التصالح هناك، ولكن لا بد للإجراءات أن تتم بشكل سليم وفقا للبلاغ الذي وصل إليهم.
‏التقطت أنفاسها بصعوبة، وهاتفت خالتها، وأخبرتها بما حدث، وطلبت منها أن تحكي لخالها عما بدر من ابنه في حقها، وتطمئنه أنها لن تقوم بفعل أي شيء ضده، وعلى أحد منهم أن يوافيها إلى قسم الشرطة.
‏بعد مرور أقل من نصف ساعة، كان الجميع في قسم الشرطة، الطبيبة، ومساعدتها، والمحامي الذي ساعدها، والزوج، حتى الخال، وابنه الآخر كانا قد وصلا إلى هناك، وتنازلت الطبيبة عن تحرير محضر بالواقعة، ولكن تم تحرير محضر بعدم التعرض لها ثانية.
‏*****************************************
‏ خرج الجميع بعدها من قسم الشرطة، أخذ ابن خالها الذي حضر مع والده أخيه الذي كان ثائرا وغاضبا حتى بعد خروجه من قسم الشرطة،  وذهب به بعيدا، ووقف خالها يخبرها أنه ممتن لها كثيرا؛ لأنها قد راعت خاطره، ولكنه أخذ على خاطره منها لأنها لم تخبره أنها ستترك البيت وسترحل، وظن أن كلامها معه آخر مرة عن الطلاق كان في لحظة غضب كعادتها، وأنها لم تكن جادة في هذا الأمر ، ووعدها بعدم تكرار الأمر مرة أخرى، وأنهم سيجتمعون لإنهاء هذا الأمر فورا ما دامت مصرة عليه،  دون اللجوء للقضاء.

‏هزت رأسها بالموافقة على كلام خالها، وقالت له :لم أنس أبدا ما فعلته لأجلي منذ صغري، ولم أكن أتمنى أن تصل الأمور لهذا الحد؛ لكني حقا تعبت، ولم يعد بوسعي تحمل المزيد، أعلم أني أخطأت حين لم أخبرك أنني سأرحل عن البيت، ولكن كنت أعلم أنك سترفض رحيلي، وستمنعني وأنا كنت قد تعبت للغاية، وقررت أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، تخيلت أنه سيسألك عني أولا حين يكتشف رحيلي،  وأنك ستمنعه لو قرر فعل أي شيء مجنون، لم أتخيل أنه سيثور هكذا، ويحاول الاعتداء علي .

‏ربت على كتفها وقال: ما فعلته معك واجبي يا مسك، أنت ابنة الغالية، وسامحيني يا بنيتي، لم أتخيل أن تتأذي بسبب تلك الزيجة بهذا القدر، ابني حسن قلبه طيب برغم كل ما حدث، ولكن هذا لا يشفع له أبدا ما قام به في حقك، أعدك أن ينتهي الأمر عند هذا الحد.

‏عانقت خالها بعد حديثهما، وقالت له أنت تعلم مكانتك في قلبي، أنت أبي الذي لم ينجبني، لذا لا تغضب مني .

‏-لست غاضبا منك يا بنيتي، وأرجو أن تكوني أنت أيضا كذلك، تعالي معي الليلة إلى بيتي، سأطلب من وليد مرافقة حسن إلى شقته، إلى أين كنت ستذهبين يا بنيتي ؟
‏_اعذرني يا خالي، لن أستطيع الذهاب معك إلى منزلك، الوضع حساس للغاية، سأنام الليلة في عيادتي، وكنت قد عزمت  في الأساس على هذا الأمر، حين داهم حسن عيادتي، وتجادلنا ووصل الأمر به إلى الاشتباك معي .

‏-لن أتحدث في هذا الأمر الآن؛ لكي لا تنزعجي، ولكن لا يصح أبدا أن تقضي ليلتك في العيادة، بيوت أخوالك، وخالاتك  مفتوحة إذا لم ترغبي في المجيء عندي.

‏_دعني براحتي اليوم، وغدا سأتصرف بإذن الله.

‏-حسنا كما تريدين، سأتابعك بالهاتف لأطمئن عليك، دعيني أولا أقوم بتوصيلك.
‏_لا داعي لذلك، قم باصطحاب حسن إلى البيت، أنت تعلم جيدا أنه لن يهدأ بسهولة، أنا سأطلب سيارة أجرة، وأرحل مع هناء لا تقلق علي.
‏************************************
‏ذهبت في طريقها، ومعها المساعدة، فلحق بهما المحامي قبل أن تشير إلى التاكسي لترحل، وقال لهما: سأقلكما إلى العيادة مرة أخرى؛ لتستقلين سيارتك من هناك.
‏شكرته مِسك، وقالت: لا أملك سيارة خاصة بي، ولا داعي لإرهاقك معنا، وإزعاجك أكثر من ذلك، وأشكرك كثيرا على ما قمت به من أجلي اليوم، وأتأسف جدا؛ لإقحامك في هذا الأمر.
‏قال لها: لا شكر على واجب، أي شخص في مكاني كان سيفعل هذا، والحمد لله على سلامتك، وأن الأمر لم يتطور  لأكثر من هذا.
‏_سلمك الله من كل سوء، وجزاك الله خيرا على مساعدتك لي، لولاك ربما فعلا كان الوضع سيخرج عن السيطرة.

‏أعاد أدهم عرضه مرة أخرى؛ لتوصيلهما، فوافقت مسك، ولكنها استأذنته أن يذهب بهما إلى بيت هناء مساعدتها أولا، حتى لا تتأخر أكثر من ذلك، ثم يقلها إلى العيادة مرة أخرى.
‏بالفعل قام أدهم بإيصال هناء إلى منزلها، ثم أقلَّ الطبيبة إلى العيادة، وحين نزلت من السيارة قال لها : سأصعد لمكتبي؛ لآخذ حقيبتي وبعض الأوراق وسأنتظرك ريثما تحضرين متعلقاتك، وسأوصلك إلى المكان الذي ترغبين به.
‏شكرته مسك، وقالت له:  سأقضي ليلتي في العيادة، ولا داعي لانتظاري وأتأسف جدا على تعطيلك معي .

‏تعجب أدهم وقال لها :أنا أعلم أنه ليس من شأني أبدا سؤالك عن شيء ربما لا تودين الإجابة عنه  ولكن دعيني  أخبرك  أنه ليس من الآمن أبدا لك  وخاصة بعد ما حدث اليوم أن تقضي ليلتك  في العيادة، وربما يعيد زوجك فعلته ثانية لو كان يعلم أنك ستكونين بمفردك هنا وخاصة انه كان غاضبا منك وبدا واضحا جدا أن خالك سيطر على الأمر رغما عنه .
‏قالت له :أتفهم جيدا سبب ما تقوله، ولكن لدي ظروف تجبرني على قضاء ليلتي هنا، اطمئن خالي لن يتركه يفعل أي شيء آخر.

‏شكرته ثانية، وصعدت وأغلقت باب عيادتها جيدا، وصعد هو الآخر لمكتبه، لكنه لم ينزل مرة أخرى اتصل على والدته يخبرها أنه قد طرأ عليه ظرفا ما، وسيقضي ليلته خارج المنزل.

قالت له والدته: ‏هل أنت بخير يا أدهم؟ هل حدث لك شيئا ما، ولا تود إخباري به، إنها المرة الأولى التي تنام فيها خارج البيت، ما الأمر يا بني؟
قال لها لا تخافي يا أمي، لم يحدث أي شيء لي، أنا تأخرت كثيرا في المكتب، وأشعر بالتعب، وخفت أن أقود السيارة ليلا وأنا بهذا الشكل فقررت النوم هنا، وسآتي في الصباح الباكر إلى المنزل، قبل الذهاب للمحكمة.
بعد أنهى مكالمته مع والدته نظر ناحية باب عيادتهاوقال : أفضل شيء فعلته يا أدهم قرار عدم الرحيل هذه الليلة، أعتقد أنها لا تملك مكانا تقضي فيه ليلتها، وربما يعاود ذلك المجنون فعلته مرة أخرى.
*****************************************
في نفس الوقت كانت مسك تستريح على سرير المرضى، وهى ترتجف من الخوف بعد ما حدث، كانت تحاول طوال الطريق أن تسيطر على مشاعرها، وتكبت ذلك الخوف حتى لا يبدو جليا عليها، ولكنها ما إن صارت بمفردها حتى استسلمت لمخاوفها، ظلت تفكر في كل ما حدث بدءا من رحيلها في أول اليوم من بيت زوجها حسن، وتركها رسالة له أنها تعبت من الحياة معه، وأنها قررت قرارا لا رجعة فيه ألا وهو الطلاق منه، وكيف أنها انتظرت ردة الفعل تلك طوال اليوم، ولكنها لم تكن تتخيل أنها ستصل إلى ذلك الأمر، وحين تأخر في المجيء بعد اكتشاف رحيلها، ظنت أنه لن يأتي، وأن خالها ربما أوقفه، خانها ذكاؤها في تقدير الموقف، وسألت نفسها ما الذي كان سيحدث لو لم يلحق المحامي بها، ثم أغمضت عينها وقالت ليته لم يلحق بي على الأقل كان هذا العذاب سينتهي وإلى الأبد.......(يتبع)

#نوبة_هلع
#رواية
#منى_وهبه

نوبة هلعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن