الفصل السادس
____________
نهض أدهم مندهشا وهو لا يصدق ما سمعه منها وقال لها: هل أنت جادة فيما تقولين؟
قالت بكل حماس وهى لا تزال تلتقط أنفاسها من جراء ركضها على درج السلم:
بالطبع أنت لا تصدق مثلي، حتى أنا ظننتها خدعة، لكنه رمى يمين الطلاق أمامي، لا أصدق أنني صرت حرة بتلك السهولة، ظننت أنه سيهُلك عمري أمام المحاكم.
دون تردد قال لها:
_لم أكن لأسمح بحدوث هذا أبدا كنت سأتصدى له بكل قوة، وسأساعدك على نيل حريتك.ربما لم يكن يظهر منها سوى عينيها الاثنتين التي كانت تحاول إخفاءهما دوما بسحب شريطة نقابها للأسفل كثيرا، ولكنهما كانتا معبرتين دوما حين تفرح أو تحزن أو حتى تشعر بالقلق، في ذلك الوقت لم تكن مجرد فرحة عادية عيناها كانت وكأنها تقفز من السعادة، ولكنها تلك السعادة التي من شأنها أن تدفعك للبكاء، كانت في البداية دموع الفرح ثم سرعان ما تحولت إلى دموع مسجونة بداخلها منذ وقت طويل، ربما أكثر من مجرد السنوات التي قضتها مع حسن، كانت دموعا حبستها منذ كانت مجرد طفلة صغيرة لا تفهم أي شيء صارت تتنقل بين البيوت وحُرمت أن تتربى في بيت أبيها بسبب خطأ اقترفته دون قصد منها، جلست على الكرسي مرة واحدة ودفنت وجهها بين يديها ودخلت في نوبة بكاء وتقول: لم أكن أقصد حينها سحبت منه تلك الحلوى وقذفت بها في خزانة المطبخ لم أكن أعلم أن هناك سما أبيضا يشبهها كثيرا تضعه خالتي وأنه سيلتقطه ويأكله بدلا منها كنت السبب في موته وحرمانها منه.
تعاطف أدهم مع دموعها المنهمرة لكنه لم يفهم منها شيئا قاطعها وقال لها من الذي مات لا أفهم أي شيء؟
انتفضت واقفة تمسح دموعها وهى تقول أتأسف منك ما الذي أهذي به.
انطلقت بسرعة ناحية الباب فخرجت وتركته في حيرة شديدة حول أمرها وحكايتها وشعور أغرب، خليط بين السعادة لطلاقها من هذا المريض النفسي وحزن شديد على حال لا يفهمه.
*****************************************
لا أعلم كيف خرجت تلك الكلمات على لساني؟ وكيف جرت تلك الدمعات على عيني أمامه؟ طوال عمري ودموعي عزيزة لا أذرفها أمام الأقرباء فما بالي بالغرباء كيف تحدثت عن هذا الأمر أمامه، أشعر بالحرج كثيرا وخاصة أنه موجود أمامي وربما أتقابل معه ثانية، لا لن أتقابل معه ثانية سأحاول قدر المستطاع أن أتحاشى رؤيته أنا أصل إلى العيادة قبله وأرحل بعده.
قطع رنين الهاتف تسجيلها الصوتي التي اعتادت أن تقوم به منذ وقت طويل، كانت تخشى الكتابة على الورق فكان إخفاء بطاقة الذاكرة بالنسبة إليها أسهل بكثير من إخفاء دفتر تكتب فيه كل ما تشعر به، صوتها وهى تعيد سماع ما قالته يعيد إليها تلك الحالة التي عاشتها سواء كانت حزينة أو سعيدة، تنهي يومها ثم تسجل كل شيء حين تأتيها الفرصة المناسبة.
أجابت على الهاتف وكانت المتصلة صديقتها أميرة التي عادت من سفرها وعلمت بكل ما حدث، لم تلمها أو تعاتبها على عدم إخبارها بكل تلك الأحداث كانت تعلم أن مسك متحفظة جدا في الحديث مع الآخرين بالرغم من أن أميرة لم تكن كالباقي ولكن ما حافظ على صداقتهم كل هذا العمر أن أميرة كانت تتفهم أن لمسك ظروفا خاصة بسبب ما عانته في صغرها، تحدثا سويا وفي عجالة سريعة قصت مسك على أميرة ما حدث بدءا من قرارها بطلب الطلاق من حسن وانتهاء بإذعان حسن لطلبها وتطليقها.
أنهت مسك حديثها مع صديقتها، وجلست تسترجع تفاصيل تلك الليلة التي أوصلتها إلى كل هذا العذاب، فبعد موت والدتها انتظر أبوها سنتين من دون زواج وكانت مسك حينها ما بين بيته وبيت جدها وبيت خالها فأشارت عليه والدته بأن يبحث عن زوجة صالحة ترعى شؤونه وتربي ابنته معه، وأنه سيتزوج عاجلا أم آجلا لذا فإن السنتين بعد وفاة إيناس كانت كافية، ورضخ والد مسك لرأي والدته وجميع من حوله في النهاية ولكنه احتراما لخاله وزوجته ذهب يستأذنهما فيما سيفعله، ربت جد مسك على كتفيه وقال له: تلك سنة الحياة يا ولدي فلييسر الله لك الأمر.
أما عن جدة مسك فقالت له: تنتظر سنة مثل عشرة، سيظل قلبي يؤلمني على ابنتي فلا يكون انتظارك لكي ترضي خاطري، سأحزن ولن أكذب عليك وأقول عكس ذلك لذا فتزوج يا ولدي.
بحث محمد كثيرا عن زوجة ظروفها مناسبة لما يمر به، حتى وقع اختياره على آمال، كانت أرملة عاشت مع زوجها الأول بضع سنوات دون إنجاب لأن كان عندها مشاكل وتعالجت دون جدوى، رآها محمد مناسبة جدا له لم يكن يريد الإنجاب ثانية رأى أنه إن أنجب فلربما تتغير معاملة زوجته مع ابنته، وتم الزواج خلال فترة قصيرة جدا كانت آمال تحب مسكا كثيرا، واعتبرتها وكأنها أمها التي أنجبتها كانت دوما تأخذها معها في أي مكان حتى أنها كانت تحب أن يناديها الناس بأم مسك، ولم تمر السنة الأولى من زواجها إلا وكافأها ربها بأن جعل الحياة تدب في جنين تحمله من محمد، لم تصدق نفسها أبدا وكان الجميع يخبرها أن عطفها وحبها للطفلة اليتيمة قد أتى بثماره، وأن البنت كان وجهها خيرا على آمال، وضعت طفلها الأول وكانت سعيدة جدا به وحمد محمد ربه على عطاياه حتى كبر وصار عمره أربع أعوام، كانت مسك حينها ابنة العشر سنوات وكان متعلقا بأخته كثيرا لا يكاد يفارقها أبدا وفي ذلك اليوم كانت زوجة أبيها عند بيت جدتها يقومون بصنع الخبز والفطير، تجمعت زوجات الأبناء مع بعضهن البعض، أما أولاد الأعمام فكانوا في شقة محمد يلعبوا ويمرحوا مع بعضهم، لم يترك سعد شقيق مسك أخته وظل معهم يلعب في الشقة، وكان اعتاد أن يمضغ حلوى (سكر البنات) كان يأكل منها بشراهة، في ذلك اليوم الأغبر وجدته مسك قد أكل الكثير فجذبت كيس الحلوى من يده ونهته عن الإكثار من أكلها، فألقت بالكيس في خزانة المطبخ وخرجت، ظل سعد يبكي قليلا ثم سكت لم تنتبه له وهو يتسلق كرسي صغير ويقوم بفتح الخزانة لكنه لم يعثر على كيس الحلوى بل عثر على كيس (البوتاس) الذي كانت تستخدمه أمه في الغسيل، وقام الولد بالأكل منه بدأت أعراض التسمم تظهر عليه في الحال، لكن الجميع كان يلعب ولم ينتبه له أحد وبعد أن تنبهت مسك لغيابه بعد فترة بحثت عنه حتى وجدته في أرضية المطبخ ولعابه يسيل منه مادة بيضاء، والطفل في حالة مزرية لم تعرف ماذا تفعل ظلت تهز فيه وهى تصرخ عليه ثم حملته وانطلقت به تركض في الشارع حتى وصلت لبيت جدتها الذي لم يكن يبتعد كثيرا، ووراءها أولاد عمها جميعا لا أحد يفهم ما الذي حدث، دخلت إلى البيت وهى تبكي وما إن رأت آمال ولدها بهذا الشكل إلا وملأت البيت بالصراخ وظلت تضرب في مسك وهى تقول لها ماذا فعلت له؟ زوجات الأعمام جذبن الصغيرة من يد آمال ومسك في حالة فزع لا تستطيع الكلام شعرت بحالة اختناق وخوف شديد وكانت تلك المرة الأولى التي تنتابها فيها نوبات الهلع ولكنها لم تكن المرة الأخيرة.
حين ذهبوا بالطفل إلى مشفى البلد كانت حالته قد ساءت كثيرا ظل ثلاثة أيام بالمشفى لكن جسده الصغير لم يحتمل الضرر الذي حدث له وفارق الحياة انهارت آمال وألقت كل اللوم على مسك التي قصت ببراءة الأطفال أنها ألقت بكيس الحلوى في خزانة المطبخ ولم تكن تعرف أن هناك ذلك الشيء.
حين توافدت النساء على بيت محمد لتعزية آمال كانت تصرخ بأن مسك هى السبب وهى من حرمتها من ولدها، وأقسمت أن لا تنظر في وجهها مرة أخرى، وطلبت من زوجها أن تخرج من البيت حينها ولأول مرة يخرج محمد عن شعوره ونهرها وقال لها: هذا هو بيت مسك إن أردت أنت عدم رؤيتها فلتخرجي من البيت وحقوقك محفوظة، ما حدث كان قضاء وقدرا ومسك مجرد طفلة.
خرجت آمال من البيت وذهبت إلى بيت والدها استعدادا للطلاق، ولكن مفاجأة حملها في توأم غير مجرى الأحداث كلها حين علم والدها بحملها من الطبيب بعد تعبها أخبر محمد فطلب محمد مقابلتها وحين دخل عليها قال لها: من الله عليك بطفلين بدلا من واحد لو تستشعرين لطف الله بك تحمدينه بدلا من السخط على قضائه تعالي نعود إلى البيت وعفا الله عما سلف.
قالت له إما أنا والأطفال أو تلك البنت عليك الاختيار لا أطيق النظر في وجهها ثانية.
غضب وقال لها هؤلاء الأطفال لم يأتوا للدنيا بعد تستغلينهم في ابتزازي وتريدين مني رمي ابنتي اليتيمة اتقي الله في نفسك قليلا حتى يكرمك ربك.
قالت هذا هو قراري وعليك الاختيار.
تركها محمد ورحل وقرر أن يطلقها تدخل الجميع من أجل الأطفال الذين لم يأتوا إلى الدنيا بعد، ما ذنبهم أن يعيشوا بدون أب، كان الاختيار صعبا جدا على محمد ظل متمسكا بقراره حتى وضعت رانيا وسليم، هنا ضغط عليه الجميع لقبول شرطها حتى لا يخسر الطفلين الآخرين أيضا وانتهى الأمر بمسك في بيت جدها، لكنها ممنوعة من دخول بيت أبيها للأبد.
تتذكر مسك كل تلك التفاصيل التي حُفرت في ذاكرتها إلى جانب ما كانت تقصه عليها جدتها حين عاشت معها في البيت كانت تطيب خاطر نفسها دوما بأن أباها كان مضطرا ولولا ذلك ما كان ليفرط فيها أبدا. ******************************************كانت والدة حسن على أحر من الجمر في انتظار خبرا من حسن بعد حديثها معه، لم يتم الطلاق بتلك السهولة التي اعتقدتها مسك فقد سبقتها زوجة خالها إلى شقة حسن ورأت ما فعله بها، وظلت تتحدث مع ابنها وصارحته بأنها تشعر بأنه قد تعرض للأذى من قبل ولهذا أحال حياة ابنة عمته إلى جحيم، وأنها لا تستحق ما حدث لها وأنه أساء إلى نفسه وإليهم بأفعاله.
قالت له: أنا امرأة طاعنة في السن وأنت لست صغيرا على ما تفعله إن كانت إحداهن أخافتك من الوثوق بالنساء فأصابعك ليست كبعضها، وكذلك النساء لا يتشابهن، ارحم سني وسن أبيك وابنة عمتك اليتيمة التي عانت بسبب فقدان أمها، سأتركك مع ضميرك وأعلم أنه لم يمت بعد، وأن هناك خيطا رفيعا ما زال باقيا فيك منه، لا تجعلني أندم أنك قطعة مني، إن كنت ما زلت ابني الذي لطالما شعرت بالفخر أني أنجبته وكنت أحب كثيرا أن يناديني الجميع بأم حسن حررها وطلقها، لم تكن مناسبة لك أبدا أما إن أصريت على موقفك فسأعتبرك أنت والعدم سواء، وأن ابني مات وسأشعر بالخزي دوما حين أتذكر أن لي ابنا مثلك.
ثم تركته ورحلت دون أن ينطق ببنت شفة، كانت تعرف ابنها جيدا وقد صدقت توقعاتها حين هاتفها وقال لها يا أم حسن ابنك نفذ ما طلبتِه، لكنه لن يستطيع أن يكمل حياته هنا وسطكم ثانية، بكت وهى تقول له لا بأس أهم شيء أنك نلت رضائي عليك، كنت خائفة كثيرا أن أموت وقلبي غاضب عليك.
أجهش حسن في البكاء وهو يخبرها أنه آسف، ويريد الاعتذار من أبيه وإخوته قبل سفره، فأخبرته والدته أن بيتها مفتوحا دوما له يأتي متى شاء.
***************************************
ظل أدهم طوال الليل يتقلب في فراشه، لا تفارق خياله صورتها وهى تبكي عيونها التي احمرت من كثرة البكاء ونقابها الذي ابتل من دموعها وهروبها المفاجئ حين شعرت أنها أفصحت عن شيء تكتمه بداخلها بدون إرادتها، كل تلك الأشياء كانت كفيلة بأن تؤرق مضجعه وتسرق النوم من عينه ظل يفرك في وجهه وهو يتأفف، ثم نهض فجأة وجلس على سريره وقال لنفسه: حين بكت كنت أود عناقها لا أعرف كيف خطرت تلك الفكرة على بالي.
استاء كثيرا من نفسه ومما خطر على عقله ثم استغفر ربه كثيرا ونهض وقام ليتوضأ ويصلي ليطرد ذلك الشيطان الذي سيطر عليه وظل يقول لنفسه أنت متعاطف معها فقط لا أقل ولا أكثر تذكر ذلك جيدا يا أدهم.
في صباح اليوم التالي كانت إجازة لكليهما، المكتب مغلق وكذلك العيادة، منذ أن استيقظ وهو يحاول طردها من عقله ولكنه لم يستطع، كان يحب يوم الجمعة كثيرا لأنه لن يخرج فيه، تتجمع شقيقاته فيه بأبنائهن ويقضوا اليوم في ضحك وتجاذب أطراف الحديث، لأول مرة يشعر بالضجر أنه لن يذهب للمكتب ويرى عيادتها مفتوحة، ضحك على نفسه كثيرا وقال: أنا لم أكن أنتبه أساسا لوجودها من قبل فلماذ أشعر بذلك الضيق لأني لن أراها اليوم وأنا أساسا نادرا ما أراها حتى بعدما تنبهت لوجودها ما الذي حدث لي؟
لم يكن يعرف أن ذلك الذي كان يخشاه دوما وظن أنه تغلب عليه من زمن طويل قد بدأ في التسلل إلى قلبه دون أن يشعر، بدأ ينتبه لوجودها والشعور بأنه يريد رؤيتها دوما، يريد معرفة أخبارها والاطمئنان عليها ظل يخبر نفسه أنه الفضول الذي يجعل باله مشغول بها وتعاطفه مع قصتها، ولكن هيهات لقد طرق ذلك الضيف باب قلبه وحين لم يجيب خلعه دون استئذان ودخل.
أنت تقرأ
نوبة هلع
Romanceبيننا المسافات، والمنطق، والأهل، والواقع، ومع هذا كله أقف خلف نافذتي كل ليلة في هذا الشتاء البارد أتخيلك قادما من بعيد كما وعدتني، هذا الصقيع الذي أشعر به منبعه من داخلي أنا، ليس للشتاء أي ذنب فيه، أضع الشال الذي أهديتني إياه فلربما يجلب الدفء على...