الفصل الثالث

21 2 0
                                    

الفصل الثالث

انتهت مسك من ترتيب شقة جدها المغلقة منذ سنوات، رأت أنه قد  حان الوقت للعيش فيها، ربما لم يكن مقبولا من قبل أن تسكن بها بمفردها قبل الزواج، ولكن الآن صار من الأفضل لها أن تعيش فيها بعد قرار انفصالها عن حسن، لا سيما أنها لن تستطيع العيش في بيت خالها ثانية، وهى تعلم جيدا أنها غير مرحب بها ببيت والدها حتى ولو كانت في شقة منفصلة بعيدا عن زوجته وإخوتها فكان قرار العودة لبيت جدها أفضل حل لها.
جلست تفكر في كل الأحداث التي مرت بها منذ كانت صغيرة، بدءا من وفاة والدتها بعد أن أنجبتها بثلاثة أعوام  مرورا بظروف تربيتها القاسية التي عانت فيها نفسيا، ربما  لم يهنها أحد أبدا ولكن انكسر في نفسها شيئا لم تستطع السنوات التي مرت عليها إصلاحه، وأخيرا ما عاشته في زيجتها الفاشلة مع ابن خالها، قامت من مكانها تتجول في الشقة لا هدف لها  تجوب غرف البيت كل ما تفعله محاولة فاشلة منها لتجاهل أفكارها، ولكن باءت بالفشل أيضا  ما إن وقعت عينيها على صورة والدتها المعلقة على حائط غرفة نومها التي ورثتها من والدتها بعد وفاتها، وظلت بها حتى أتمت عامها الخامس عشر ،ثم انتقلت بعدها لبيت خالها عبدالله ليتولى تربيتها مع زوجته.
أنزلت الصورة من على الحائط وأزالت الأتربة من عليها، ظلت تنظر إليها بحزن شديد؛ فهى لا تتذكر ملامحها إلا من خلال تلك  الصور التي بقيت، كانت والدتها جميلة جدا عيونها الخضراء وشعرها البني الفاتح وبشرتها البيضاء يكسو النمش الخفيف أعلى خديها مما يعطيها بريقا خاصا ورثت منه مسك كل شيء، وكأنها نسخة طبق الأصل من والدتها.
تذكرت مسك ما قصته لها جدتها عن والدتها إيناس، فقد  كانت الصغرى وآخر العنقود في البيت وكانت المفضلة عندهم برغم أنها لم تكن البنت الوحيدة، كانت لها أختان إلهام وإكرام، وثلاث إخوة ذكور عبدالله وعادل وعبد الحميد، لكن كان لإيناس النصيب الأكبر من دلال والديها ، فقد جاءتهم وهم في سن كبيرة، كان خالها عبدالله هو الأول في إخوته قد تزوج للتو، حين اكتشفت جدتها أنها حامل في والدتها، شعرت الجدة بالحرج الشديد من هذا الأمر ولكن زوجها كان سعيدا للغاية بذلك الحمل وزادت سعادته أكثر حين أتته إيناس، كانت عبارة عن كتلة من البهجة والسرور على هذا البيت،  تزوجت إيناس والدة مسك وهى ابنة الثمانية عشر خريفا من محمد ابن عمتها، كانت سعيدة للغاية حين تقدم لخطبتها كان طيبا وحنونا ويعشقها بجنون، تم الزواج بسرعة كبيرة وفي خلال أربعة أشهر كانت قد انتقلت إلى بيته، وبعد عشرة أشهر من زواجها منه وضعت طفلتها مسك، أخبرتها جدتها أن هذا الاسم لم يكن منتشرا أبدا في بلدتهم، ولكن أهدت إحداهن إيناس في صغرها زجاجة مسك  فور عودتها من قضاء مناسك العمرة فأحبت إيناس الرائحة جدا وقررت تسمية أول فتاة ستحظى بها بهذا الاسم، فور ولادة مسك تعبت إيناس جدا صداع لا يتوقف في رأسها وهزل جسدها بشدة، كانت تظن في باديء الأمر أنها ممن تنحف في أثناء الرضاعة الطبيعية، وأن ذلك الصداع ما هو إلا نتيجة تبدل مواعيد النوم وعدم انتظامه بسبب الصغيرة، ولكن حين زاد الأمر عرضها زوجها على الطبيب الذي قام بطلب عدة فحوصات مخبرية، وعمل إشاعات للاطمئنان عليها وصدم جميعهم بالخبر المؤسف، وهو إصابة إيناس بالمرض الخبيث في المخ، وقد كان في مرحلة متأخرة.
ضاعت فرحتهم بالصغيرة وهاموا على وجوههم في محاولة إنقاذ الأم، خضعت في بداية الأمر للعلاج الكيميائي لمحاولة الحد من انتشار المرض، والذي كان سببا في إبعاد الرضيعة عن والدتها وفطامها في وقت كانت لا زالت فيه صغيرة للغاية، ولكن لم ينفع الأمر فوصل بهم الأمر أنه لم يكن هناك مفرا من التدخل الجراحي الذي كانت نسبته تكاد تكون معدومة، ولكن كان الأمل الوحيد استئصال الورم الخبيث وبالفعل بعد عدة أشهر تجهزت إيناس وخضعت لتلك العملية التي نجحت في البداية، وارتاحت لأول مرة بعد عذاب امتد لشهور من الألم.
‏ تخيلوا جميعهم أن ذلك الكابوس الذي راودهم انتهى عند هذا الحد، وأن أسوأ أيامهم قد ولت وأن القادم فيه الفرح والسعادة حتى عاد هذا اللعين يزحف مرة أخرى في مخها  بعد عام ونصف، في هذه المرة كان في مرحلته الأخيرة وأرقدها مرة ثانية ومسك لم تكن قد بلغت الثلاثة أعوام.

كانت بالمشفى تصارع الموت وكل من حولها يخبرها أنها ستكون بخير وأنها ستنتصر عليه مرة ثانية، وستعيش لتربي ابنتها بنفسها،  ولكنها كانت تشعر بعكس ذلك ربما كانت في بداية العشرين من عمرها  ولكن مظهرها كان يوحي وأنها ابنة الستين عاما من شدة ما أهلكها المرض، طلبت أن يحضروا لها ابنتها لتراها كان الجميع يلتف حولها يشد من أزرها ويحاول تخفيف ما بها وطمأنتها، ولكنها أمسكت بيد والدتها وقالت لها مسك في أمانتكن جميعا لا أعفي أحدا من مسؤوليتها كانت زوجة أخيها نعمة المقربة من قلب إيناس، إلى جانب أخواتها الإناث لكنها كانت تضع في عنق نعمة وبشكل خاص مسؤولية مسك قالت: لها لا تتركيها اعتبريها مثل بناتك ما دمت حية أريدها أن تصبح طبيبة مثل ابنك حسن كنت سعيدة أن ابن اخي طبيبا وأردت أن تكون ابنتي مثله، بكت نعمة وربتت على كفيها وقالت لها لن يربيها غيرك يا حبيبتي، كانت الكلمات تخرج بصعوبة من فم إيناس التي كانت بالفعل تحتضر وقالت أشعر بأن الأجل قد دنا وهذا رجائي الأخير منكم .
كانت القلوب من حولها تبكي ولكن يحاول كل من حولها إخفاء الدموع من العيون، وأحضروا مسك لتراها والدتها ربما تلك هى الصورة الوحيدة التي طبعت في ذاكرة مسك عن والدتها وهى على فراش الموت.
يومها سافرت مع والدها وأخبرها أنها سترى والدتها كانت الصغيرة تقفز من السعادة لأنها ستراها أخيرا كان قد فات أسبوعين على آخر مرة رأتها فيها قامت إيناس باحتضانها طويلا حين جاءت مع أبيها ظلت تقبل فيها وتشتم رائحتها وهى تخبرها أن رائحتها كأسمها وأنها لن تشتاق في هذه الدنيا إلا لتلك الرائحة، ثم أمسكت بيد محمد زوجها وقالت له عانقني فبكى وهو يعانقها، فهمست له قائلة لا تفرط في ابنتي ولا تجعل أي شخص يؤذيها أنا سأرحل وأنت ستتزوج بعدي هذه سنة الحياة، ولكن خوفي كله عليها ستصبح يتيمة في أول حياتها واليتم يتم الأم لو تعلم ذلك جيدا، لا أطلب منك أي شيء إلا أن تحافظ عليها فإن لم تستطع فاعهد بها إلى عبدالله وزوجته لطالما عاملوني  مثل ابنتهم بسبب صغر سني  وهو يحب مسك حبا جما.
مرت تلك الليلة وهي تحتضن مسك لا تريد مفارقتها حتى طلع الصباح، وفتحت عينيها وقد استعادت نشاطها الذي قد فقدته منذ وقت طويل، نادت على والدتها ونعمة زوجة أخيها وقالت: أشعر وكأني قد شفيت، لا أحس بأي ألم في جسدي، كان الأمر يبدو وكأن الحياة قد دبت فيها مرة أخرى عاد وجهها منيرا كعادتها،  ظلت طوال ذلك اليوم جالسة وهى تحتضن صغيرتها تداعب وجهها البريء تلعب معها تارة وتقبلها تارة أخرى علم كل من حولها أنها صحوة الموت، كان قلب أمها الوحيد الذي يحاول تكذيب كل ما يقال حول أنها في ساعاتها الأخيرة، كان قلبها يأمل أن يكون الله استجاب لدعائها وشفاها، ولكنها أيقنت في اليوم التالي أن قطعة من قلبها قد فارقتها وسبقتها إلى قبرها، حين استيقظوا جميعا من نومهم إلا إيناس.
**************************************** 
في المساء ذهبت مسك إلى عيادتها التي قامت بافتتاحها منذ عامين، كانت سعيدة للغاية حين أقدمت على هذا الأمر برغم رفض زوجها له في باديء الأمر، كان يرى أن تكتفي بالعمل صباحا ولكنها كانت تشعر بالفراغ وهى بمفردها بين جدران شقتها الواسعة تعود معه كل يوم بعد العمل ويغلق باب الشقة عليها بالمفتاح ثم يرحل إلى شركته التي أسسها مع صديق له فور عودته من الخارج، ومع تزايد الشعور بالوحدة طلبت أن تفتتح عيادة لها، تؤنس وحدتها من جانب ومن الجانب الآخر كانت تريد أن تقوم بعمل خيري يتيح لها التقرب من الله ومساعدة المحتاجين، حيث خصصت للكشف ثمنا قليلا مقارنة بأسعار أطباء الأطفال الأخرى، ولأنها كانت ماهرة في عملها ذاع صيتها سريعا في الوحدة الصحية التي تعمل بها وكذلك في عيادتها التي صارت حقيقة على أرض الواقع، بعد ضغط من خالها على زوجها وافق على عمل مسك بها ولكن بشرط واحد ستكون فترة مسائية لمدة ساعتين فقط حتى يستطيع الجلوس فيهم في سيارته لانتظارها أسفل العيادة حتى تنهي عملها، وافقت على شرطه، وحين زاد ضغط العمل التحقت صديقتها أميرة طبيبة الأطفال أيضا للعمل معها كي يستطيعوا تأدية تلك الخدمة التي أرادوها، وحتى يخف التكدس على العيادة فترة الساعتين التي ستعمل بهم مسك، وفي نهاية الأمر كان لها ما أرادت صار مركزا طبيا خيريا صغيرا يقوم بالكشف على الأطفال والأسنان بمساعدة طبيبة الأسنان أسماء التي كانت تحضر للمركز في أيام معينة في الأسبوع ولهذا كانت مسك تشعر أنها حققت كل ما تمنته في الدنيا لتكون والدتها فخورة بها، وإن كانت لا زالت تطمع في المزيد.

نوبة هلعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن