1-قصر الفيوم

2.3K 34 3
                                    

لم تكن تعي ما يحدث حولها ،تنظر من بعيد لترسمها في خيالك كفتاة راقية مرموقة بفستانها الهادي و شعرها الممشوق ذو الثنائيات و الكسرات المميزة و نظراتها الهادئة علي غير عادتها و هذا ما جعل سائق عربة أبيها يختلس لها النظر من مرآته كل حين و أخر ليطمأن قلبه علي صغيرته الذي تابعها منذ صغرها منذ بدء عمله لدي عائلتهم فكان لها واصيا أغلب الوقت عندما كان أبويها بعيدان يعملان و كانت هي إبنه له يراعيها و يكن له الحب الأبوي -الذي لم يستطع أن يبعث به ابنته في الأرياف منذ أن سافر للعمل- في صمت تحت إرشاد والديها و بين الحين الأخر كان ينقل تركيزه للطريق في هذا السواد الحائم و بكاء الغيوم المستمر و الطرق المنزلقة فإن لم يستطع أن يجمع فتات قلبها المنكسر فعلي الاقل يجب أن يحميها من حوادث و استصطدمات الطرق التي تنتشر في أوقات كتلك و هو يدعو الله طيلة الطريق أن يبعث كلا أبنتيه الحب و الأمان و الطمأنينة سواء ابنته التي تحمل اسمه في الأرياف أو ابنته التي رباها منذ نعومة أظافرها

أما هي فستجعلك تدفع نصف عمرك لمعرفة ما يدور بتمعن خلف عينيها الغامضتين السوداوتين حتي يكذبك برق السماء ليظهرهم علي حقيقتهم البنيتين للحظات قبل أن يصعق الرعد مسامع أذنك،و بعد أن تدفع نصف عمرك لترضي فضولك بالأخص إن كنت تابعت يومها من أوله ستصعق عندما تري شرود عقلها الذي يرفض أن يعي أو بمعني أدق أن يقر شيئا مما يحدث في حياتها فهي فقط تبحلق و تستمع بالسماء و الطرقات التي تبكي لمواستها

مع كل ذلك الالم المحيط يظل مزاج الانثي -الذي لن يفهمه إنسي إلا أنثي مثلها - محط إختلاف ،فمع إلتزامها الصمت و الشرود منذ أن استقلت كرسيها بعد كل بكاء الليلة إلا أنها عندما رحلتها غيوم الفيوم البادية بلافتة
"مرحبا إلي الفيوم"
همت بنشاط تبعثر أغراض حقيبتها و هو يتابعها بتركيز حتي أوقف العربة عندما استوجدها تخرج لاصقات عيون خضراوات و بعض المساحيق الأخري لترسم و تحدد عينيها و تذيق شفاتها من حمرة ألوانها فتوقف خشية أن يصيب الملقاط أعين صغيرته أو تهتز يداها لتجرحها و مع حبه الكثير لها فضل إلتزام الصمت حتي انتهت فتاته من لململة خصال شعرها الذهبية المصبوغة فعاود استكمال وجهتهم و لأسفه الشديد لم تكن إلا بضع دقائق فقط حتي اضطر لتوديع ابنته الثانية علي التوالي فأخرج لها حقيبتها الوحيده التي استطاعت أن تلملم فيها القليل من أغراضها و وضعها أمام بوابة مقصد رحلتهم و مع ثقل الأمطار و الرياح الهيجاء أنزلت كعبيها بعد تنهيدة طويلة من باب السيارة الذي فتحه لها

- نطق أخيرا و هو ينظر للحقائب مطأطأ رأسه :
أنا أسف يا نور يا بنتي ،أنا والله معارف أعملك حاجه يا بنتي ،إنتي عارفه أبوكي

-فما لقي منها إلا ابتسامة خفيفة للأفق البعيد و القصر المظلم باتت لدقائق تحت الشتاء حتي أردفت أخيرا :
متعتذرليش أبدا
إنت طول الوقت ده كنت صابر علي معاملته علشان بنتك في الأرياف فمتقفش دلوقتي علشاني بس محتاجه منك وعد لأن حيجي يوم و حبقي قوية باذن الله ،أقوي منهم كلهم
،وقتها حديك أضعاف اللي بيدهولك بس محتاجاك تكون جنبي وقتها
اختارني وقتها يا عمو جابر

 حفيدة بن حفيد أحمد شوقي Where stories live. Discover now