"سيادة الرئيس" الموسم الثاني
ألجزء الأوّل: سحررررررررررررررررررررر
القسم الأوّل
تسلّلت أشعّة الشمس من نافذة الغرفة توقظ سليم من النوم بعد ليلة أرق متعبة، تململ على السرير وهو يلقي نظرة جانبيّة إلى المنبّه فإذا بالساعة تقارب التاسعة. إستقام متثائبًا يتخلّص من رواسب النعاس، عليه أن يفتح المكتبة من دون تأخير لاستلام دفعة جديدة من كتب حديثة النشر. تناول هاتفه يبغي الاتّصال بالدار لتأكيد موعد الاستلام فإذا بصورة سحر تتصدّر الشاشة عند فتح الجهاز. لم ينسَ حتّى الحين ما قالته له قبل انطلاق سيّارة الأجرة إلى المطار ذلك الصباح، كلماتها الواضحة الصريحة لم تفارقه لحظة، صحيح أنّ توبته أفرحتها كثيرًا لكن مسألة الحبّ ليست بيدها، ولا يمكن أن تعده بشيء آخر، وبالتالي حرمته من أيّ أمل لأيّ علاقة في المستقبل، صارحته بحقيقة شعورها بكلّ شفافيّة، لم تعتبره يومًا إلّا جارًا ورفيقًا تهتمّ بحياته من باب اللياقة وواجب الجيرة، وعندما سألها عن سبب الحزن الذي رآه في عينيها اكتفت بالردّ قائلةً: " سليم، إن كان لي عندك أيّ خاطر فأرجوك لا تسألني عن شيءٍ... أنا لن أنسى مطلقًا معروفك معنا... كلّ ما في الأمر أنّني أحتاج إلى الابتعاد قليلًا."
قضى ليله يفكّر بها، أتراها لاذت إلى الفرار بسببه؟ حتمًا لا، فقد كان واضحًا في رسالته، لن يضغط على شعورها، ليس من حقّه أن يفرض حبّه عليها، لكن ما سبب هذا السفر المفاجئ؟ تأمّل صورتها سارحًا في تفاصيل وجهها البريء متذكّرًا ذلك العرس الذي دُعي إليه معظم سكّان الحيّ، كم كانت جميلة بذلك الفستان الأحمر! كم كانت خجولة أثناء رقصة الشبّان والشابّات! ليته عرف قيمتها منذ ذلك الوقت لربّما كانت علاقتهما أخذت مسارًا مختلفًا. تمنّت عليه ألّا يتّصل بها وهو بدوره قد احترم هذا التمنّي إذ شعر أنّها تهرب من قصّة يجهلها، كلّ ما يريده أن يطمئن عليها فيا ليتها تفاجئه باتّصال يزيل قلقه الذي تفاقم مع غيابٍ لم يجد له أيّ تبريرٍ.
وضع الهاتف على المنضدة وقام يجهّز نفسه فإذا برنين الجهاز يرجعه إلى مكانه، إنّه رقم مركز التأهيل، لا بدّ أنّ الأمر يتعلّق بزياد، عسى صديقه يكون بخير لكن ما سمعه من المديرة لم يكن خيرًا على الإطلاق، للاسف زياد فرّ من المركز ليل أمس رغم كلّ التدابير والحراسة:
-سيّد سليم، أعلمتك مسبقًا أنّ السيّد زياد لم يدخل المركز بملء إرادته، وهذه النقطة هي الأكثر أهمّية في مرحلة العلاج، ليس مستعدًّا بعد لتغيير حياته، مع تقديري لمجهودك ومساعيك إلّا أنّ الأمر يحتاج إلى قرار نابع من قناعة شخصيّة، يؤسفني ما آلت إليه الأمور... لقد اتّصلت بالشرطة قبل الحديث معك، السيّد زياد تسبّب ببعض المشاكل قبل فراره
-ماذا حصل؟
- لقد تعرّض للممرّض المناوب ليلًا وقد أدماه من كثرة الضرب وسرق منه محفظة نقوده، اضطررت إلى تبليغ الشرطة... أغراضه الشخصيّة ما زالت في حوزتنا، يمكنك استلامها من مكتب الأمانات متى جئت إلى المركز
أقفل سليم الخطّ غاضبًا خائبًا بعدما باءت كلّ محاولاته لمساعدة صديقه بالفشل، وكيف لا يغضب وقد حرم نفسه من المبلغ الذي ادّخره بعد إقلاعه عن معاقرة الخمرة ليسدّد لإدارة المركز دفعة على الحساب من أجل مصاريف العلاج؟ حتّى ماله ذهب سدًى لكن لن يتخلّى عن صديقه، فهو يعلم تمام العلم أنّه ضحيّة لسوء القدر، رماه المجتمع على هامشه في طراوة العمر، صحيح أنّه لا يساعد نفسه للتخلّص من هذه الآفة لكن لن يترك جانبه، سيكون له الضمير الذي غيّبته شهوات الممنوعات، لن يتوانى عن إحاطته بكلّ ما يتوجّب حتّى لو اضطرّ إلى تسليمه إلى الشرطة، جلّ مبتغاه أن ينتشل صديقه من بئر الإدمان فيعيد إليه مقوّمات الحياة النظيفة التي بات هو نفسه يعرف قيمتها بعدما نذر سرّ التوبة. ولعلّ قدسيّة هذا السرّ هي التي تحثّ سليم على المضيّ قدمًا في مسيرة إنقاذ صديقه، هو يؤمن بأنّ توبته لن تكتمل إن غضّ النظر عن هلاك صديقه، صحيح أنّه عاد إلى الله وترك المعصية وندم على فعلها وعزم على عدم العودة إلى شرورها إنّما يحتاج أيضًا أن ينشر السلام حوله، أن يخلّص نفسًا بشريّة تحترق بنار الآثام.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
جلست جميلة إلى حافّة السرير تداعب شعر وحيدتها مبتسمة وهي تنظر إلى خاتمها بعينين تلمعان بدموع التأثّر، تعود بها الذاكرة إلى تلك الطفلة الصغيرة التي كبرت بلمح البصر، ليت والدها كان على قيد الحياة كي يراها في هذه المرحلة من حياتها، تتحضّر لتكون زوجة رئيس الحكومة العتيد. كانت جميلة تشعر بمزيج من الغبطة والشجن، الفرح والحزن، لطالما انتظرت هذا الحدث وعندما آن أوانه ذاقت لوعته، يكفي أنّها أمّ نذرت حياتها من أجل وحيدتها، تراها تستعدّ لاستقبال حياة جديدة تأمل أن تخبّئ لها طيب الأماني وشهد الأيّام بجوار سيادته. مسحت دمعة سالت على الخدّ وتنحنحت منادية ابنتها التي طال نومها:
-سحر... عليك بالنهوض حبيبتي، السيّدة نازلي بانتظارنا
فتحت سحر عينيها متثائبة متمتمةً:
-أمّممممممممي... دعيني أنام قليلًا... لم أذق طعم النوم طيلة الليل
-حبيبتي، الجميع بانتظارنا في الحديقة، لا يجوز أن نتأخّر عليهم
فركت سحر عينيها وهي تستند إلى ظهر السرير:
-صحيح، يمان أبلغني في طريق العودة أنّ السيّدة نازلي تقيم فطورًا خاصًّا... يعني لمناسبة... أمّي... يمان طلبني للزواج وأنا... وأنا وافقت
فتحت جميلة ذراعيها تأخذ وحيدتها في الحضن وهي تقول بصوت تخنقه غصّة الفرحة:
-ألف مبروك حبيبتي... من الطبيعيّ جدًّا أن يجافيك النوم بعد أهمّ حدث في حياتك وحيدتي... كنت على دراية بالمفاجأة التي بانتظارك... سيادته تحدّث معي على انفراد وطلب بركتي، كان في غاية اللياقة والأصول... حماكما الله ويسّر طريقكما وتمّم فرحتكما على خير وبركة
طال العناق بين الأمّ وابنتها ليجعل الدمع سيّد الموقف، لحظات من التأثّر يصعب وصفها استملحت الوقت تعلن بداية مختلفة في حياة عائلة صغيرة ستصبح كبيرة بمشيئة الله. تنحنحت جميلة وهي تبعد وحيدتها عن حضنها برفق متذكّرة ما أخبرها به جينغار في الصباح الباكر:
-إسمعي حبيبتي، أنا سأسبقك إلى الحديقة، سيادته سيأتي لمرافقتك، هكذا أعلمني جينغار، جهّزي نفسك على الفور
القسم الثاني
لم تشأ السيّدة نازلي أن تدع المناسبة تمرّ مرور الكرام، صحيح أنّ وحيدها لم يحدّد بعد موعد الخطوبة الرسميّة حسب الأصول لكنّ موافقة سحر على الزواج تستوجب لفتة لطيفة من السيّدة التي أحبّت أن تبارك هذه الخطوة على طريقتها الخاصّة فدعت نديم وعائلته إلى الفطور الذي أقيم في الحديقة الخلفيّة. وجود نديم هذا الصباح يؤكّد قيمته عند عائلة الكريملي، فهو ليس صديق العمر فحسب إنّما بمثابة أخ لسيادته.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
تناول زجاجة العطر يطلق العنان للرذاذ حول عنقه وعلى صدره مبتسمًا، إعترفت له ملكته أنّ العطر يستحوذ أنفاسها يجذبها إليه مستسلمة لمفعوله الساحر، كم فرح باعترافها هذا! كم تمنّى أن تفاجئه دومًا بمثل هذا الكلام المثير! طبعها المتّسم بالخجل يشدّه إليها إلى أقصى حدّ ويربك تفكيره في آنٍ، يرى الخجل يمدّها بقوّة غريبة تنساق إليها رجولته الناضجة، براءة ملامحها تحجب أسرار الغوى تكرّس انجرافه المجنون إلى تربتها العذراء تغدق على استسلام روحه مواسم خير وعطاء حان موعد حصادها.
نزل السلالم حاملًا وردة حمراء يُسرع إلى لهفة لقاء الصباح، إلى رؤية محيّاها الذي تركه ليل الأمس رهينة لسلطان الكرى فغفا على صدره جهة اليسار تهدهده نبضات قلبه الهائم في سرّ المناسبة. أحاطها بذراعيه يدثّرها بدفء العناق، يتأمّلها غافية بهدوء وسلام في طريق العودة إلى القصر، يراقب ثغرها بشغفٍ، يتحرّق إلى تذوّق الكرز في الشفتين كأنّ ريقه لم يكتفِ من قُبلٍ سكرى ترنّحت متمايلة تحت شعلة العناق ومرقص الخطوات، يراقبه مطالبًا بالمزيد علّه يُشبع جوعًا مزمنًا لم يشعر بكفره إلّا بعد استطياب حلو الكرز. تقدّم نحو جناح الضيوف بخطوات هادئة وفي عقله مئات الأفكار المتزاحمة تصبّ مجتمعة في انتقال الملكة إلى جناحه الخاصّ، لن يحتمل وجودها بعد الآن في غرفة الضيوف، سيفاتحها بالموعد الذي بدا له مناسبًا لعقد القران فيا ليتها تباركه بالموافقة!
وقف وراء الباب يهمّ بطرقه فإذا بإطلالة الملكة تباغته على غفلة كأنّها أحسّت بعطره الجذّاب يخترق الجدران والأنفاس يُعلن عن وصول صاحب السيادة. تلقّف انبهارُه زمرّدَ عينيها يفيض شغفًا ينهال على محيّا الصباح تُتوّجه هالة من الطمأنينة والانتعاش. تقدّم خطوة يقاربها يبثّها قبلة دافئة علق مصيرُها بين آخر الثغر وأوّل الخدّ، يسابق الوردة إلى راحة اليد يحاوط ظهرها بشوق القدّ. تبخّرت تحيّة الصبح مع أثير النظرات تتمنّى طيب الأوقات تسأل عن الأحوال تشكو ظلم البُعد من سويعات حجبت عن الأهداب لهفة القُربِ. شبك أصابع يده اليسرى بموضع الخاتم يتحسّس وجوده المختوم بأسمى العهود، يمدّه بطاقة من الحبور من الحماسة من الحياة، ملكته عاهدته على معانقة روحه لمدى العمر فلن يخشى بعد الآن أيّ احتمال للجفاء:
-هل تعلمين؟
-ماذا؟
-صورتك لا تفارقني... ترافقني في الصحوِ وفي المنامِ
إبتسمت بخجل تميل بوجهها عنه فإذا بيده تعيده بهدوء إلى جوار كلام يشقّ طريقه إلى الهمس:
-طيفكِ يخترق نظري، يستوطن شراييني، يغزو كياني... طيفكِ يستملحني على الدوامِ
ألقت بيدها اليسرى على صدرها جهة الفؤاد وهي تناظره بلمعة الزمرّد:
-سيادتك هنا... وارعٌ في ثنايا الروح والهيامِ
سحبها إلى صدره مغمض العينين ينتشي من لذّة الكلام:
-خبّئيني أبدًا في القلب... دثّريني في أعماقه، فأنا بتُّ مدمنًا لنبضاته تمدّني بجرعات ساحرة تُبقيني على قيد الحياة... بُعدك يطرحني عليلًا سقيمًا... فأرجوك إرأفي باحتياجي وداويني من قسوة الآلامِ
-------------------------------------------------------------------------------------------------
تحلّق الجميع حول مائدة الفطور التي تميّزت بلفتة خاصّة للمناسبة، كلّ ما يشتهيه المرء عند الصباح كان متوفّرًا على السفرة بالإضافة إلى لمسة راقية في التزيين تجلّت من خلال مجموعة من الأواني الفضّيّة والمزهريّات الملأى بالورود. بدت الوجوه باسمة تتبادل أطراف الحديث بانتظار وصول صاحب القصر وملكته. كان روزجار يلاعب قطّة صغيرة قرب أشجار الصفصاف فلمح الحبيبين مقبليْين من الممرّ فركض لاهثًا صوبهما هاتفًا:
- عمّي يمان
أطلّ الرئيس يمسك بيد ملكته تتهادى بثوب فضفاض طويل ناعم الملمس أزرق اللون، يضفي على طلّتها أناقة في بساطة التصميم، وما إن أصبح الطفل على مقربة منهما حتّى قفز إلى أعناق سيادته وهو يبشّره بفرح:
-عمّي يماااان... أخبرتني جدّتي نازلي أنّك وسحر ستتزوّجان، يعني... سيكون لي صديق من عمري في القصر، متى سيأتي؟ أريد أن ألعب معه
ضحك يمان مقبّلًا جبين الطفل ثمّ أجاب بانشراح:
- أجل سنتزوّج أيّها البطل
-وصديقي؟
جال بنظره صوب سحر وردّ مبتسمًا:
- عليك أن تنتظره من دون استعجال، سيأخذ بعض الوقت كي يأتي، أليس كذلك حبيبتي؟
سبقت براءة الطفل الحسناء في الردّ:
-لماذا؟ أمّي أخبرتني أنّ الأظفال يأتون بعد الزواج
ضحكت سحر وهي تعصر وجنتي الصغير قائلة:
-ألن تقبّلني؟ لقد اشتقت إليك كثيرًا
إنهال الصغير عليها بالقبل ومال صوبها فأخذته من حضن سيادته بلهفة:
-أنا أيضًا اشتقت إليك كثيرًا، طلبت من ماما أن تأخذني لرؤيتك لكنّها قالت إنّك لاتعيشين في أنقرة
أسرع سيادته في القول:
-من الآن فصاعدًا ستعيش هنا إلى جانبي... يعني يمكن أن تراها ساعة تشاء...
-أعرف، لأنّكما ستتزوّجان
داعبت سحر خدّ الطفل طابعة قبلة من القلب وهي تمدحه:
-حبيبي، أنت تعرف كلّ شيء، أصبحت كبيرًا حتّى وزنك، ما شاء الله...
وقبل أن تُكمل الكلام أمسك سيادته الطفل بذراعيه وأنزله إلى الأرض قائلًا:
-أجل، هو كبير بما فيه الكفاية حتّى لا يُحمل كالصغار
وما إن وطأت قدما الصغير العشب حتّى ركض وراء القطّة التي كانت تعدو ملاحقةً الفراشات الملوّنة التي تطير جذلى بين أحواض الزهور. إستدار الرئيس يمسك بيد ملكته فألفها تشدّ على صدغيها بكلتا يديها وهي تميل مترنّحةً فإذا بذراع سيادته تتلقّف جسدها الذي فقد توازنه يمنع عنه السقوط يسألها بتوجّس:
-حبيبتي... ماذا جرى؟
إستقامت شاحبة الوجه، مضطربة بعض الشيء تبلع ريقها بانزعاج تُطمئنه:
-أنا بخير... شعرت بدوار مفاجئ...
-دوار؟؟؟
-ربّما لأنّني لم أنم إلّا فجرًا
-حبيبتي، هيّا سأعيدك إلى الغرفة لترتاحي
مطّت سحر شفتيها تستعدّ للكلام بصوت ضعيف:
-لااااا... أنا بخير... دعنا لا نفسد المناسبة، الجميع بانتظارنا، لا أريد أن أقلقهم عليّ... صدّقني أنا بخير
-حسنًا، كما تريدين... عديني أنّك سترتاحين كلّ النهار كي نتمكّن من الخروج مساءً
- سأتناول فطوري وأعود إلى النوم، لا أحبّ أن أراك قلقًا من أجلي...
القسم الثالث
إنقضى الفطور في جوّ من الهدوء والانشراح، فرحة السيّدة بالمناسبة لا توصف، غمرت الجميع باللطف خصوصًا كنّتها الجديدة، أجلستها إلى جانبها وأمطرتها قبلًا حارّةً وأدعية خير فائضة، أمّا الحسناء فكانت تشعر ببعض التوتّر، ربّما بسبب الانتباه المصوّب كلّه عليها أو بسبب الصداع الذي فاجأها في منتصف الفطور، تمالكت نفسها قدر المستطاع كي لا تعكّر صفو الجوّ لكنّها لم تتمكّن من إخفاء الأمر على سيادته، فنظراته لم تتركها في سبيلها لحظة واحدة، وقف على مهل يستأذن من الجميع:
-أرجو المعذرة، صحيح أنّ اليوم هو يوم عطلة لكن عليّ إجراء بعض المكالمات الهاتفيّة الطارئة
وعندما وصل إلى مكان سحر انحنى صوبها قائلًا:
-إذا سمحت حبيبتي، أحتاجك في موضوع خاصّ، هلّا رافقتني إلى غرفة المكتب؟
وقفت سحر تلبّي الدعوة مستأذنة من الحضور وحين مشت بجانب سيادته أمسك بيدها على مرأى من الجميع وسلكا الممرّ عائديْن إلى الداخل:
-ملكتي، أنتِ لستِ على ما يُرام ولا تحاولي الإنكار، بتُّ أعرفك أكثر من نفسي، عيناك ذابلتان... إنّما رغم التعب تبقيان روعة في الجمال... قولي لي ما بك حبيبتي؟
-في الحقيقة... ألمّ بي صداع مزعج، سأتناول مسكّنًا للوجع فور وصولي إلى الغرفة
-سأطلب الطبيب فورًا، من الأفضل أن يعاينك
توقّفت سحر عن المشي ترجوه:
-لا داعي إطلاقًا للطبيب، أنا متأكّدة أنّني سأرتاح بعد المهدّئ وقسطٍ من النوم
أكملت السير ثمّ سألته:
-لم تقل لي بمَ تحتاجني؟
-بصراحة، شعرت بانزعاجك ففضّلت أن ترتاحي في غرفتك، لم أشأ أن تجهدي نفسك في المجاملة
إبتسمت سحر رغم الألم الذي يتملّكها وقالت له معترفةً:
-يبدو فعلًا أنّك تعرفني أكثر من نفسك
-كلّ ما يتعلّق بك أصبح هدفي في هذه الحياة حبيبتي... ببساطة أصبحتِ الهواء الذي أتنفّسه، فكيف لا أهتمّ بمن يمدّني بالحياة
عبر الحبيبان المدخل الرئيسيّ باتّجاه البهو فاستأذنت سحر لدخول غرفتها لكنّ سيادته أصرّ على مرافقتها إلى الداخل، وعندما استلقت على السرير تحت طلبه قالت متمتمةً:
-أستطيع أن أتدبّر الأمر، لا تتأخّر على أشغالك
جلس على حافّة السرير يجاور جانبها من دون أيّ كلمة، وحدها نظراته راحت تجود في التفسير، تشرح أنّ مكانه هنا بقربها، كيف يتركها وهي تتألّم؟ ليت باستطاعته اقتلاع الألم من جذوره، ليت بإمكانه أن يتألّم عنها، في الحقيقة رؤيتها على هذا النحو جعلت روحه تئنّ من القهر. ناولها المهدّئ مع كوب من المياه وحين قرّبت الكأس من شفتيها دنا منها ليسقيها المياه بنفسه، فما كان عليها إلّا الإذعان للأمر برضى يكسوه بعض الخجل أغرق سيادته في بحر من التوهان. لقد تاه في حيائها حتّى الذوبان، آهٍ من هذا الحياء! كيف يستبيح كيان سيادته؟ كيف يمعن في انجراف رغباته وانجذاب حواسّه؟ قرّب شفتيه من ثغرها هامسًا بعد تنهيدة عبرت أنفاسها المتقطّعة:
-بالشفاء ملكتي...
بقيت ساكتةً لضياع الكلام، تتقاذفها نظراته الهائمة ولمسات يده الوارعة في استرخاء عنقها الطريّ وبصوت تعزفه أوتار رهفة الحسّ بثّته جزيل الشكر تنبع من شرايين القلب:
-على يدك الشفاء حَبي...
توقّف النداء في منتصفه يخذل الجرأة التي انتابتها عند سماع صوته العميق المفعم بالرغبة والرجولة فدنا منها أكثر تاركًا أنامله تتنزّه بين خصلات شعرها راجيًا إكمال ندائها مستعطفًا رأفة رحمتها:
-أكملي ما ناديتني به أرجوكِ... كم أتوق إلى سماع "حبيبي" من شفتيك! قوليها وحلّقي بي فوق الحياة...
لم يدعها تهرب بنظراتها كالعادة فلامس خدّيها بيدين حاضنتين يسألها بحرارة العشق:
-أما زلت تخجلين منّي؟ أنتِ حبيبتي وأنا حبيبكِ...
إلتفتت سحر فجأة صوب الباب عندما سمعت طرقًا خفيفًا منع عنها التجاوب مع الطلب، أبعدت سيادته عن وجهها بيد مرتعشة وهي تسأل عن هويّة الطارق تتخلّص مرغمة من شغف اللحظة ليأتيها صوت جينغار من وراء الباب:
-آنسة سحر، السيّدة إيلّا تنتظرك في غرفة الجلوس
-أنا آتية فورًا
نهضت بسرعة تتوجّه إلى الباب إلّا أنّ ذراع سيادته أوقفتها عن التقدّم فاستدارت مرتبكةً:
-يجب أن أرى إيلّا... ثمّ... ثمّ لا يجوز أن يراك أحد في غرفتي... يعني لا أحبّ أن أشعر بأيّ إحراج، أرجوك... عليك أن تفهمني
وقف أمامها مبتسمًا يهزّ رأسه بخفوتٍ ويقول هامسًا:
- صحيح أنّ خبرتي مع النساء قليلة أو ربّما شبه معدومة لكن ما أراه وأسمعه منك لم يعد موجودًا في هذا العصر، أنتِ فعلًا من زمنٍ آخر، جُبلتِ بالنقاء وانصهرتِ صفاءً خالصًا حتّى الكمال، أنا... أنا أحسد نفسي عليك ملكتي
سحبها من يدها صوب الباب يمشي بخطوات راسخة يمدّها بثقة تحاكي شموخ الجبال، يبغي أن يعزّز مكانتها في القصر، وبحركة سريعة فتح الباب ليجد جينغار عائدًا إلى المطبخ فناداه بصوت حازمٍ ليلتفّ الخادم بسرعة يلبّي نداء السيّد:
-أمر سيادتك
أطلب كوبًا من العصير للآنسة سحر ثمّ إلحق بي إلى غرفة المكتب
-حاضر سيّدي
نظر إلى وجهها المندهش يحضنه بين يديه ينعشه بسيلٍ من الاطمئنان:
-ملكتي، أنتِ أصبحتِ سيّدة القصر، لا أريدك أن تشعري بأيّ إحراج من قربي لك، هذه حياتنا وهذا بيتنا، أنتِ تأمرين ولا تأتمرين لأحد، هيّا إنضمّي إلى إيلّا في غرفة الجلوس لدقائق وعودي إلى النوم، يجب أن ترتاحي حبيبتي
-حسنًا، سأرى ما تريده، لكن...
-لكن ماذا؟ ألم تقتنعي بكلامي؟
-ليست مسألة قناعة... إنّما...
أدارت رأسها صوب غرفة الجلوس ثمّ أردفت قائلة:
-من الأفضل أن أرى إيلّا الآن ونكمل حديثنا لاحقّا
-كما تشائين، أنا دومًا بانتظارك ملكتي