حلّ الظهر ومازال باب البيت مغلقًا على غير العادة، جميلة لم تخرج إلى الحديقة لريّ الشتول وحتّى إقبال لم تقم بالزيارة الصباحيّة، سكون غريب يطبق على الدار أثار حيرة زياد القابع في مكانه المعتاد يراقب البيت منذ شروق الشمس رغم الوخزات المزعجة التي يشعر بها في صدره. تنهّد متكدّرًا متضجّرًا يرمي المنظار جانبًا يُرخي رأسه إلى جذع شجرة تظلّله أغصانها الوارفة، يدلّك صدره بأصابع متوتّرة مغمض العينين يحاول عبثًا تخفيف حدّة الألم، لا بدّ أن يتخلّص من هذا الوجع اللعين كي يتمكّن من إكمال المراقبة، ألا يكفي أنّه منزوٍ في هذه البقعة منذ أسابيع؟ لا ينسلخ عنها إلّا في ساعات الليل المتأخّرة ليحصل على حاجته من المادّة البيضاء يمنّنه إدريس بتقديمها مجّانًا مكافأةً لتعبه. وما إن همّ بالوقوف لمغادرة الحيّ بحثًا عن الدواء حتّى أحسّ بوخزة بدت كطعنة السكّين أفقدته التوازن وهوت به على الأرض جثّةً هامدة لا حول لها ولا قوّة. سقوطه المفاجئ لفت انتباه أحد الحرّاس المؤتمنين على تتبّع أثره فهبّ من مكانه محكمًا قبّعةً عريضة على رأسه مثبّتًا نظّارات سوداء على عينيه ينطلق صوب الرجل بشيء من الحذر لاستطلاع الأمر فألفه فاقد الوعي لا يربطه بالحياة إلّا نبض خفيف ينازع للنجاة.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
قُدِّم الغداء في القصر عل غير العادة في وقت مبكر للالتحاق بالطائرة التي ستقلّ الجميع إلى أنقرة. إنقضت الوجبة في جوٍّ من السكوت لم تخرقه سوى كلمات السيّدة نازلي تدعو سحر لتذوّق كلّ الأطباق تحثّها على الاهتمام بغذائها من أجل سلامة صحّتها. جلس الرئيس إلى المائدة شارد الذهن قليل الكلام، يصبّ تفكيره في المخابرة التي تلقّاها من مسؤول الأمن في حيّ "الطاحونة"، يخشى أن يفقد الرجل الغريب حياته قبل وصول سيّارة الإسعاف إلى المستشفى، يجب أن يعيش فهو دون أدنى شكّ خيطٌ مهمٌّ سيقود إلى كشف الكثير من الحقائق في قضيّة الشبكة العنكبوتيّة.
غدا قرار الذهاب إلى أنقرة في محلّه، فهو يخفّف على الجميع حدّة الخطر إذ بات من المستحيل أن يترك سيادته سحر في حيّ الطاحونة بعد معرفته آخر المستجدّات كما لم يكن البقاء في قصر أضنة شيئًا مستحبًّا إذ سيفرض على الرئيس تنقّلًا دائمًا للاطمئنان على ملكة القلب. أقلّت إحدى السيّارات المصفّحة السيّدتين نازلي وجميلة واستقرّ سيادته والملكة في سيّارة الرئاسة لينطلق الموكب بسرعة باتّجاه المطار تحت حراسة مشدّدة.
لازمت سحر السكوت طيلة الطريق يخالجها شعور بالانقباض، ترى حكايتها مع السعادة دائمة التعقيد. مرّة أخرى، عوامل طارئة تعاكس لحظات الفرح تمنع عنها هناء البال وتحرمها من الاستقرار. كلّ ما تبغيه أن تعيش بسلام مع الرجل الذي اختاره قلبها بعيدًا عن الخطر، ذلك الخطر الخبيث لا ينفكّ يهدّد واحة سلامها الداخليّ بوجوهه المتبدّلة، يتوعّدها تارة بالأمن وطورًا بالمرض، يمعن في إنهاك روحها التائقة إلى الخلاص.