الجزء الخامس: يا عزيزتي

668 103 74
                                    

أنهت إقبال ريّ الزرع في حديقة جارتها وهمّت بسحب خرطوم المياه تعيده إلى مكانه الخلفيّ من البيت فلمحت سلسالًا يتدلّى من حافّة شبّاك غرفة جميلة، أفلتت الخرطوم بسرعةٍ ودنت متوجّسة تتأكّد ممّا رأت عيناها فإذا بها تجد الهديّة التي قدّمها المرحوم يوسف لزوجته بمناسبة الزواج. سلسال ذهبيٌّ طويلٌ يدويّ الصنع يحمل قلادة متوسّطة الحجم نُقش عليها شكل الشمس. هو السلسال بذاته وكيف لا تتذكّره وقد أخبرتها جميلة عديد المرّات عن سبب اختيار يوسف لهذه الهديّة، كان يرى حبيبته كالشمس التي أنارت حياته فأحبّ أن يخلّد مكانتها بهذه القلادة المميّزة. ما زالت تتذكّر كلام جميلة عشيّة وفاة يوسف حين خلعت السلسال من عنقها: " سأحتفظ بأمانة المرحوم لوحيدتي، سأقدّمها لها يوم زفافها". إلتقطت القلادة عن الحافّة وقد بدأ الشكّ يساورها، وما إن ألقت يدها على النافذة تتأكّد من إقفالها حتّى فُتح مصراعاها من دون جهد يُبعدان ستارًا داخليًّا كان يحجب فوضى عارمة في الغرفة، كلّ ما في الخزانة مرميّ على الأرض والسرير مُبعثَر الغطاء والوسائد، شهقت إقبال مصدومةً عند رؤية المشهد تضرب جبهتها بعصبيّة لاعنة السرقة والسارقين، وما إن تخلّصت من هول المصيبة حتّى سحبت هاتفها من جيب ثوبها تتّصل بجارتها التي لم تسمع صوتها منذ يومين.

-------------------------------------------------------------------------------------------------

جلست جميلة على الكرسيّ بجانب السرير تداعب شعر وحيدتها مبتسمةً تميل برأسها طربًا لأغنيّة إبراهيم تاتلس "Bebegim" وهي من ضمن باقة من الأغاني المفضّلة عند سحر. بعد انتهاء الممرّضة المختصّة من جلسة التدريب على النطق أوصت بأهمّيّة الاستماع إلى الأغاني، فهي تُعتبر وسيلة مهمّة لتنشيط القدرة على الكلام من حيث تأثّر مركز النطق بالموسيقى والتي بفضل النغمات تمنح المريض دعمًا لمساندة محاولاته اللغويّة. سرحت الحسناء مع عمق الكلام ترافقه عذوبة الألحان تطير بها بعيدًا إلى مروج "بيت الجنّة"، إلى سنديانة العشق لتنقلها إلى بيت الشاطئ وتحطّ بها أخيرًا على أرض ذلك البهو المتلألئ بأضواء تعكس صورة حبيبين انفصلا عن الوجود ليهيما في سحر الوعود. رحلة من ذكريات فتيّة ما زال صدى رونقها يدغدغ الوجدان، تتراءى مشاهدها متتالية تسكب الزيت على النار تشعل فتيل القهر تفجّر ثورة البكاء. على الفور، أوقفت الأمّ آلة التسجيل تحتضن وجه وحيدتها المنفعل تراضي انفعاله بطيب المواساة:

- أشعر بعذابك وحيدتي، أرجوك ضعي في ذهنك أنّك ستتغلّبين على هذه المحنة، بعون الله ستعودين كما كنت، أنا مؤمنة بأنّ الله لن يخذلني... فكما أعادك لي من الغيبوبة سيعيد إليك كامل عافيتك... يكفي فقط أن تسلّميه أمرك... لا شيء أقوى من رحمته حبيبتي

سكنت دموع سحر بعد كلام أمّها وقد نثر في روحها شيئًا من الطمأنينة فاستسلمت للنوم بعد معارك طاحنة مع الذات.

قامت الأمّ إلى البهو تمدّد جسدها على أريكة مريحة علّها تتخلّص من تشنّج رجليها فسمعت طرقًا خفيفًا على الباب فاستدارت عائدة صوب المدخل لترى جينغار واقفًا وفي يده هاتفها الخاصّ:

سيادة الرئيس الموسم الثانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن