"البارت الأول.."

804 22 2
                                    

اكتفاء..
الفصل الأول..
_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
كلمة موظف الزواج صدحت بالقاعة التي امتلأت بالزغاريد من أقرباء العروسين، كُلٌ مشغولٌ بفرحته غير آبهين بتلك الدموع التي تلمعُ بعيني أميري الحفل، للوهلة الأولى قد تظن أن عهد "روميو وچوليت" أو "قيس وليلى" قد عاد، لكن حقيقةً أن تلك الدموع دموع قهرٍ لها ودموع عجزٍ له، هكذا جاء أمرُ كبير العائلة الحاج "منصور" بعجلة تزويج إبن إبنته "سليم" وإبنة إبنه "جميلة"، قناعةً منه أن إبنة إبنه قد "تمردت" على حد قوله برفضها المتكرر للخاطبين، فكيف لها وقد تجاوز عمرها الخامسة والعشرين، ساعات الحفل تمر عليها ببطء شديد، أرهقها تصنع الإبتسامة والفرحة، تريد أن تُسرع الى بيتها الجديد الذي لا تدري كيف ستعيش فيه، نظر لها بشفقة على حالها، يعلم تمام العلم أنها لا تستطيع تقبل هذا الأمر بسبب طبيعتها المتمردة قليلًا، انقضت ساعات الحفل بصعوبة كما خُيّل لهما، وسط تهاني الأقارب والأصدقاء متمنين لهم حياة سعيدة!..
***
أغلق الباب خلفهم ببطء ثم انتزع ربطة العنق باختناق، زفر بضيق ثم نظر إليها، وجدها تمرر بصرها على كل إنش في الشقة التي زهدت عن إختيار أي شيءٌ فيها، لا تنكر أنها باهرة، فذوقه منذ صغرهما فريد من نوعه ويعجبها بشدة، لكن حالها الآن لا يسمح بهذا، تذكرت وضعها فتساقطت دموعها ببطء، إلتفتت له فوجدته ينظر لها بشفقة، اقترب منها قليلًا ثم حرك بصره في أنحاء المكان عداها، جذب شهيقًا ثم زفره على مهلٍ بتنهيدة قوية، قال وملامحه تنبع بالحزن:
_أنا آسف على اللي حصل دا، بس أمر جدي لازم يتنفذ، بس أوعدك انك مش....
قاطعته قائلة بجمود بعدما تمالكت دموعها:
_ مفيش داعي للأسف احنا فترة وهنطلق، ولا أيه؟!
طالعها بإستغراب قائلًا:
_طلاق! طلاق أيه يا جميلة، انتي عارفة لو حد عرف اللي بتقوليه دا هيحصلك أيه!
علا صوتها بغضبٍ:
_ هيعملوا أيه يعني؟ معدش يفرق معايا حاجة، مش هقبل وضع أنا مش عايزاه تاني، أنا ندمت أني لما فكرت أهرب منفذتهاش.
_جميلة، أنـ...
رفعت إبهامها أمام وجهه قائلة:
_ولا كلمة من فضلك يا سليم، وعلفكرة أنت تعتبر جوازنا دا على الورق بس لحد م نتطلق.
رمقها بجمود قائلًا:
_مفيش مشكلة.
استدار تاركًا المكان بأكمله، وقف مكانه ومازال موليًا ظهره لها، قال بصوت خلا منه أي مشاعر:
_وحوار الطلاق دا تنسيه لو هنقضي حياتنا كلها كدا.
ثم تابع بسخرية:
_أخ وأخته!
***
كانت تجلس على الأريكة بتوتر، قلبها يأكلها على إبنتها البكرية، تجلس بحزنٍ على ما حدث لها، لكنها لا تستطيع فتح فمها بكلمة هذه هي العادات هنا، استفاقت على صوت أخت زوجها "فاطمة" قائلة بلؤم:
_مالك يا هناء مش على بعضك ليه، متخافيش على بنتك دي معاها سليم مش أي حد يعني.
رمقتها ببغض على تلك الحرباءة التي تعيش في بيت العائلة معهم بعد وفاة زوجها، ولا تترك شاردة أو واردة إلا وعلقت عليها بسخف، قالت بجفاء:
_مش ناقصة هي يا فاطمة سيبني ف حالي.
رمقتها بسخرية وحقد:
_سيبتك ياختي أما نشوف أخرتها.
اشاحت لها بيديها بفتور ثم همّت لتقوم فوجدت منصور قادمًا، فقالت هناء:
_إزيك يابا الحاج.
أشار لها برأسه ردًا على تحيتها، وجّه وجهه ناحية إبنته قائلا:
_سيبيني مع مرات ابني شوية يا فاطمة.
تحركت إلى الخارج بفضول عما سيتحدثان، لكنها لا تجرؤ على التلصص واستراق السمع.
حمحم قليلًا حتى قال بطبيعته الجافه:
_أنتِ عارفة يا أم جميلة أني عايز مصلحة سليم وجميلة، دول أحفادي، شايلة الهم ليه؟
نظرت في الأرض برهبة من حماها كما هو الحال عليه منذ زواجها، قالت:
_بس اللي حصل مرضاهوش لبنتي يا حاج، قلبي واكلني عليها.
خبط عصاه بالأرض قائلًا بصرامة:
_هتعارضيني ف أوامري ولا أيه يا أم جميلة!
ارتبكت قائلة:
_العفو يابا الحاج.
أشار بعصاه على بابا الغرفة قائلًا:
_يلا إلحقي نامي عشان الصباحية.
_عن إذنك يابا الحاج.
***
استيقظ قرب الظهيرة يفرك عينيه طالبًا المزيد من النوم، تذكر ما حدث أمس، وكيف قضى ليلته بالتفكير، تحرك في الشقة قليلًا، فوجد باب غرفتها مفتوح، دخل ببطء يطالعها بإهتمام فوجدها مستلقية على الفراش بفستان الزفاف ودموعها على خديها، هزها برفق لتستيقظ، فنهضت بفزع قائلة:
_أنا فين!
حاول تهدأتها قائلا:
_إهدي يا جميلة، انتي ف شقتنا.
بدأت بإستيعاب ما يحدث ف تساقطت دموعها مجددًا ، زفر محاولًا الصبر فقال بهدوء:
_جميلة، مفيش منه لازمة اللي بتعمليه دا، قومي غيري الفستان دا عشان هما زمانهم طالعين.
أضاف محاولًا جعلها تشعر بالأمان:
_مش أنا سليم صديق الطفولة؟ اعتبريني كدا الوقتي وانسي ان احنا كان فرحنا امبارح، تمام؟
هزت راسها بإقتناع فأكمل:
_احنا مجبرين نتعامل قدامهم عادي، فلو اتعاملنا على هذا الأساس مش هيبان حاجة تمام؟
ابتسمت فبادلها الإبتسامة قائلًا بمشاكسة:
_قومي يلا اغسلي وشك، أحسن يجوا يقولوا أني ضاربك ولا حاجة.
ضحكت بحشرجة صوتها من البكاء، حتى خرجت من الغرفة فتأمل الفراغ بشرود، حتى عادت بعد دقائق بضيق اعترى ملامحها:
_افتحلي السوستة دي معدتش قادرة.
ضحك ضحكة خافتة على مظهرها، ثم ساعدها حتى خرجت هي وعاد إلى شروده مجددًا.
***
علت رنات جرس بابهم فأقبل سليم يفتح الباب، وجدها والدتها التي كانت تحمل صينيه محملة بطعام الفطور، قالت وهي تناوله إياها:
_خد يا حبيبي افطروا كويس واحنا كمان ساعة وهنطلعلكم.
أخذها منها بإبتسامة مشرقة قائلًا:
_تسلميلي يا ست الكل.
ربتت على كتفه ثم هبطت إلى الأسفل في حين دخل هو وجدها قد أبدلت ثيابها، حثها على التقدم قائلًا:
_تعالي يلا الفطار قبل م ييجوا.
هزت راسها بشرود ثم جلست إلى المنضدة، طالعها بإستغراب من شرودها الدائم، ناداها أكثر من مرة ولا يوجد جواب، رفع صوته قليلًا:
_أنتي يا بنتي.
نظرت تجاهه بإنتباه:
_بتقول حاجة يا سليم؟
رمقها بسخرية:
_بقول حاجة؟ دا انا بنادي عليكي من الصبح ولا حياة لمن تنادي.
اعتذرت:
_آسفة، كنت سرحانة شوية، عايز حاجة؟
سحب يدها ف احتضنها بين كفيه، قائلًا بود:
_امبارح كان يوم صعب عليكي أنا عارف، وعشان كدا أنا عاذرك ف كل اللي قولتيه امبارح، احنا اتجوزنا واللي حصل حصل، مالوش لازمة الكلام، ممكن تفكري ف كلامي؟
سحبت يدها من بين كفيه، نظرت له بنظراتٍ خالية قالت بحسم:
_انا لسة عند رأيي يا سليم، جوازنا بالمنظر دا مخيلني معاندة أي حاجة تخص الموضوع دا.
حاول تمالك نفسه قائلًا:
_أنا مش عايز رد دلوقتي ممكن تفكري؟
زفرت بعصبية:
_سليم، أنا قولتها وهقولها تاني، أنت زي أخويـ...
قاطعها:
_مفيش داعي تفكريني أني زي أخوكي كل شوية.
تركها ونهض قائلًا بجفاء:
_لما يجوا ابقي قوليلي وانا هقوم أفتحلهم.
لم ترد وحملت الطعام ثم اتجهت إلى المطبخ تغسل مابقي من صحون بشرود إلى ما ستؤول إليه الأيام القادمة..
***
استيقظ على همساتها بإسمه، فقد غفا قليلًا بعدما تركها بسبب قلة نومه بالأمس من التفكير..
_طلعوا أهم.
تذكر زيارتهم فنهض بسرعة:
_هفتحلهم.
_لأ م هما قاعدين في الصالون.
قالتها بسرعة ثم تركته وخرجت، تعلم أنها ستغضبه، ذهبت وجلست بجوار والدتها ربتت والدتها على كتفها تزامنًا مع جلوس سليم بجوار جميلة، حولت بصرها تجاهه فأخترقتها نظراته، قررت الهروب من هذا الحصار تجاه المطبخ..

_بعد إذنكم يا جماعة.
قالها وتحرك خلفها، فنظرت فاطمة لهناء بلؤم:
_عرسان جداد بقا.
رمقتها هناء بضيق ولم ترد، بل اكتفت بإبتسامة ساخرة، طرق الجد "منصور" بعصاه أرضًا:
_جرا ايه يا ست فاطمة مش محترمة وجودي ولا اي.
_العفو يابا.
قالتها وهي ترمق هناء بحقد، فدائمًا هو هكذا، يفضل هناء عنها، ودائمًا كانت تفوقها في أشياء كثيرة، كجمالها مثلًا، ولأنها كانت جارتهم فكانت شديدة الغيرة منها، وخصوصًا بعدما تزوجت قبلها، فتلك المنطقة الريفية التي يعيشون فيها لا تكُف عن المقارنات خاصة في موضوع الزواج هذا..
***
بالمطبخ..
كانت تسكب العصير في كاساته، شاردة قليلًا فيما سيفعله سليم بعد مغادرتهم، فرغم طبيعتها المتمردة قليلًا إلا أنها منذ صغرها تخافه وتنصاع لأوامره، ليس لأنه مخيف أو قاسٍ مثلًا، فسليم حنون جدًا منذ طفولتهم، ودائمًا ما كان يدافع عنها في هذا الحي، لكنها لا تدري كيف يفرض سيطرته وهيبته عليها فتنصاع لأوامره..
_صباح الخير يا جميلة.
قالها ببطءٍ وتروٍ وكأنه يتوعد لها، انتفضت في مكانها ثم نظرت للذي ظهر خلفها فجأة بترقب:
_ظهر الوحش ذو الأنياب، يلهوي ياني يمّا.
خرجت منه ضحكة خافته واقترب منها مع استمرارها في التراجع للخلف حتى حاصرها عند الحائط، قال ببطءٍ مستمتع:
_أنا قولت أيه يا جميلة الجميلات؟
قلبت ملامحها إلى الطفولية:
_والله هعيط.
_أنا قولت أيه؟
قالها وهو يسحب كأس العصير الذي كان بيدها تحتمي به تقريبًا، قالت بسرعة:
_لما يجوا ابقي قوليلي وانا هقوم أفتحلهم.
_طب ما أنت شاطرة وحافظة الكلام أهو، مبيتسمعش لي بقا؟
نظرت له محاولة أن تكتم ضحكتها:
_بضايقك.
وضع سبابته على فمه تزامنًا إبهامه الذي كان على ذقنه:
_اممم، بتضايقيني، قدامي يا جميلة قدامي.
فرت من براثنه بسرعة ثم توجهت لتحمل الصينية التي كانت قد انتهت بالفعل من تجهيزها، نظر لها بغيظ:
_سيبي الصينية يا جميلة ولا عايزة تاخديها دي كمان؟!!!
كتمت ضحكتها ثم خرجت من المطبخ وهو خلفها، تنهد تنهيدة عميقة ثم دخل الصالون غير مدرك لما سيحدث بعد قليل..
***
صمت عمّ المكان بعدما دخلا الى الصالون وقدمت جميلة ما كانت تحمله الصينية، وسط نظرات فاطمة الخبيثة، ونظرات هناء المطمئنة قليلًا على ابنتها، فبرغم أن سليم ابن فاطمة إلا أن صفاته لا تنم عن ذلك، فقد تربى معها هي وليس مع فاطمة التي كانت دائمًا منشغلة بدسّ المكائد، فقد استطاعت هناء زرع الصفات الحسنة فيه بحنانها وحكمتها وهدوئها، فهي سعيدة بزواجهم، ولكن طبيعة ابنتها المتمردة تقلقها، وتخشى من أي فعل خاطئ قد تقوم به، وبسبب حسن تصرفه عندما قام يساعدها وأحضر هو واجب الضيافة عنها، فقد اطمأنت، وتدعو الله أن يهدي له حال ابنتها وينعما سويًا بالإستقرار والحياة الهادئة..
_ازيك يا چميلة.
صدح صوت الجدّ منتشلًا لها من أفكارها، نظرت بترقب لما سيقول، فبدايته بهذا الكلام لا تنم عن خيرٍ أبدًا..
نظرت له جميلة نظرة خالية من المشاعر، لا تدري بماذا تشعر ناحيته، فرغم أي شيءٍ هو جدها وهي تحبه، رغم طبيعته المتسلطة، قالت بصوتٍ خفيض:
_الحمدلله.
وزّع الجد نظراته بين الجميع، ثم ثبتها على جميلة، نقر بعصاه التي يتكئ عليها كعادته عندما يرغب في قول شيءٍ مهم، قال بنبرة عالية يملؤها الفخر لا يدري أيُّ من الجالسين من أين جاء به تزامنًا مع قوله:
_جوزناكي يا چميلة لأبن عمتك، أحسن ما كنتي تچيبيلنا العار.
كهرباء عمّت على جسد الجميع، كأنما نزلت عليهم صاعقة، ساد التوتر الأجواء مع ملامح الغضب العارم الذي ظهر على محيا سليم.....

***
انتهى الفصل الأول..

اكتفاء_ رحمة النجار..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن