اكتفاء..
الفصل الخامس..
الأخير..وصل بسرعة لمنزل مروة بسبب قربه المعقول من منزله، كان في طريقه لصعود السلم، وجد محمد أمامه فطغى الإستغراب على وجهه، وقف محمد قبالته وعيناه تلتمع بشراسته المعهودة، بينما سليم يقف أمامه شامخًا لا يدري سر العداوة التي يكنها له أخوه منذ عهد شبابهم، رمقه بتمعن للحظات قبل أن يتشدق بتساؤل:
_بتعمل أيه هنا!
جملته كانت للتعجب أقرب منه للسؤال، فما الذي يربط محمد بمروة ليكون هنا بمنزلها، أو بعمارته تحديدًا، وما أثار استغرابه حقًا متى عاد من سفره ولماذا لم يأتِ للبيت تحديدًا، كل هذه الأفكار تسربت لعقله بسرعة لا تتعدى الثواني، بمشهد سريع عجول يشبه عجلته ولهفته لمعرفة ما بها..
أردف محمد بإستهزاء:
_سيبك مني، اطلع شوف مراتك..
أمسكه سليم من تلابيب قميصه قائلًا بغضب اكتسح عيناه:
_مالها مراتي! عملت فيها أيه؟ انطق!
قالها بيقين يدرك أنه سبب ما يحدث لها.. هذا الذي لا يعرفه إلى الآن، لا يستبعدها عليه خاصة وهو يعلم أنه خلف أفكار أمه لقتل هناء، نفض محمد زراعيه عنه قائلًا بتهكم ساخر:
_حلال عليك.. يخويا.
حدجه بنظرة قلقة ثم تركه وصعد بسرعة ليروعه المشهد الذي رآه، جميلة فاقدة للوعي محاطة ببركة من الدماء، أدرك أنها مصابة في كتفها بسبب قمصيها الأبيض، انحنى لها بجزع والرعب يتمكن من قلبه، تحسس نبضها فكان لا يدري هل يتنهد براحة أم يزيد من قلقه وروعه، وجد قميصًا ملقى أرضًا، قطعه ثم لفه حول إصابتها، نهض ليحملها بين زراعيه بسرعة لأقرب مشفى وقلبه رغم رعبه يفيض بالذكر والدعاء أن لا يفقدها..
***
يجلس بجانبها بوجه مكفهر، وقلبٍ مليء بالخوف عليها، رغم أن الطبيب بث في قلبه الاطمئنان ناحيتها، لكن قلقه لن يهدأ إلا عندما تفيق من آثار المخدر وتحدثه، تحركت أصابعها بين كفه المعانق لكفها، نظر لها بسرعة فوجدها تفتح جفنيها ببطء، تقلصت ملامحها بألم زراعها، حركت وجهها تجاهه ترمقه بنظرة مزجت عجزها بحزنها بألمها، قال بنبرة هادئة:
_حمدلله على سلامتك يا حبيبتي..
هزت رأسها ببطء، غزت الدموع عينيها عندما تذكرت ما حدث، قالت بنبرة خافتة:
_شوفت اللي حصل!
هز رأسه إيجابًا ثم قال:
_عرفت، ويارتني م عرفت..
_هو حصل حاجة؟
قال بتأكيد:
_عشان الرصا.صة دخلنا ف تحقيقات واتقبض على مروة ومحمد بعد م لقوا بصماتهم على المسد.س، اعترفوا الاتنين..
أردفت بنبرتها الخافتة نظرًا لتعبها:
_لحد الآن مش مستوعبة، إي اللي يخلي مروة تعمل كدا؟!
هز رأسه بأسف قائلًا:
_محمد اتقرب منها من فترة، عرف عنها كل حاجة، وهددها إن معملتش كدا هيقتل أختها..
دمعت عيناها ثم أردفت بتساؤل:
_ماما فين؟ هي متعرفش.
_لأ عرفت طبعًا وكانت هنا، بس رجعت عشان ماما..
هزت رأسها إيجابًا، تطلعت حولها فضاق بها المكان، طالما كرهت المستشفيات والغطاء الأبيض ذاك، تسائلت:
_أنا هخرج امتا؟
_الدكتور يجي بس يفحصك ويعرفنا..
***
اعتدلت بجلستها على الفراش بغرفة سليم بمنزل الجد منصور، لكي تكون بجوار والدتها لترعاها، ربت على رأسها برفق، جلس جوارها يساعدها في تناول طعامها، فذراعها يصعب عليها تحريكه بل ويصيبها بالألم عند حركته، انتهى من اطعامها فقال بلطف:
_هخرج برا أخلص حبة حاجات وأجيلك.
ابتسمت ثم هزت رأسها إيجابًا، استقام بجلسته متابعًا خطاه نحو الخارج، نظرت إليهم هناء الذي جاءت لتوها من الخارج لتقول بهمس:
_ربنا يهدي سركم يا حبايبي.
أمسكت بهاتفها تحادث صديقتها التي تعارفت عليها من أحد مواقع التواصل الاجتماعي، استمرت المحادثة لمدة تحكي لها عن آخر التطورات، إلى أن قالت لها صديقتها:
_اللي بتعمليه دا اسمه فرك، انتي بتحبيه ودا باين من كلامك عليه.. ثم أن انتي عبيطة؟
ضحكت بصوت كاد يكون عاليًا إلا أن إصابتها حالت دون ذلك، قالت بفضول:
_ليه؟
تابعت بغيظ:
_حتى لو مش بتحبيه، واحد زي سليم بيعاملك معاملة بريمو وبيحبك ولطيف.. تسيبي كل دا وتقوليلي أصل متجوزاه غصب!
بدا عليها التفكير فتابعت صديقتها بنبرة هادئة:
_سيبك من كل دا وعيشي حياتك، صعب تلاقي راجل عدل اليومين دول.
أغلقت المكالمة بعد جمل وداع تقليدية على وعدٍ بمكالمة أخرى، شردت بالتفكير قليلًا ثم لاحت على وجهها ابتسامة خافتة، دخل سليم الغرفة فقال بفضول:
_ بتبتسمي ليه؟
حركت أحد حاجبيها بمكر وبإبتسامة عابثة:
_ملكش دعوة يا حبيبي.
_يا أيه؟!
قالها بلهفة فتابعت بحنق:
_علفكرة أنا صحتي مش ولا بد، هتمسكلي في الكلمة!
علت ضحكاته ثم جلس بجوارها، نظر لها وقال بجدية:
_لسة مصممة على الطلاق؟
نفت برأسها، ظهرت الفرحة جليةً على ملامحه، نهض يبحث في أحد الأدراج حتى وجد ألبومًا يظهر عليه القدم قليلًا:
_خديني جمبك كدا هوريكي حبة صور.
ضحكت ضحكة خافتة ثم أفسحت له، فتح الألبوم وبدأ في التقليب بين الصور، فيها ذكرياته، طفولته، شبابه، تلقائيًا يعاوده الحنين للماضي، أمامه الآن مجموعة من الصور لهما عندما كان عمرها ما يقارب الست سنوات أما هو فيكبرها بعام واحد فقط، فتح صورة هي الأقرب لقلبه على الاطلاق، كان مرتديًا "ترينج" باللون الأزرق يضع يدًا بجيب بنطاله والأخر محاوط لكتفها، كانت ترتدي "تيشرت" باللون الأحمر وتقف بجواره، تجمعهما نفس الضحكة، نفس الإبتسامة، العينين، تسريحة الشعر _بسبب شعرها القصير جدًا آنذاك_ تراهما فتظن أنهما شابان في ريعان مرحلة الحب الخاصة بهما، الصورة كانت مبهجة بشكل لا يوصف، تزين ثغره بإبتسامة:
_تحسي من الصورة دي كأننا كنا عارفين اننا لبعض.
رغم الحُمرة التي طفت على خدّيها إلا أنها قالت بمزاح:
_احنا كنا صايعين أوي، دا شكل أطفال دا؟
أيّد قولها:
_كنا خاربينها من واحنا صغيرين.
ضحك معها ثم تابع:
_وإن شاء الله نكمل المسيرة دي.
***
مرت فترة من الوقت كانت هادئة على الجميع، وخاصة مع خضوع فاطمة للعلاج ولجوئها للعلاج الطبيعي لكي تعاود السير على قدميها، استعادة قدرتها على الكلام نسبيًا، وما تغير هنا كانت معاملتها لهناء، صارت تعاملها بلطف وطيبة غير معهودة لها، فما فعلته تجاهها من الصعب تخطيه، سيظل جميلًا تحمله لها على رأسها ما بقي لها من عمر، وضعت هناء الطعام فتحركت فاطمة لتساعدها ببطء بدى عليها، ربتت هناء على كتفها قائلة بطيبتها المعهودة:
_ارتاحي انتي يا فاطمة هجيب الأكل أنا.
تطلعت لها بنظرات يشوبها الخزي:
_أنا مش عارفة أردلك اللي بتعمليه معايا دا ازاي رغم ان انا مضيعتش فرصة اني أأذيكي فيها.. جميلك هيفضل ف رقبتي لأخر يوم ف عمري.
تطلعت لها قليلًا بصمت ثم قطعته بهدوء:
_مالوش لازمة الكلام في الماضي يا فاطمة.
لم تبالي بحديثها واستكملت بألم:
_حتى سليم.. ربيتيه أحسن تربية وطلع راجل يعتمد عليه، وأهو.. شايلنا كلنا من بعد وفاة أبويا الله يرحمه بين شغله والأرض وحاجة البيت..
نظرت أرضًا بندم ثم استكملت:
_وعندك محمد.. شايفة تربيتي ليه وصلته لفين؟ قاعد ف السجن مستني الحكم عليه، اتعود مني على الحقد والغل لحد م طلع زيي، نسختي التمام..
رفعت عينيها لها ثم تابعت:
_دلوقتي بس عرفت ليه الناس كلها كانت بتحبك أكتر مني ومن ضمنهم أبويا.. طيبة قلبك وجدعنتك كانت بتجبر أي شخص أنه يقف ف صفك ويتشدلك.. سامحيني يا هناء.
جلست جوارها ثم ربتت على كتفها بهدوء وابتسامة جذابة:
_مسمحاكي يا فاطمة.. انتي أختي، المهم تبقي كويسة.
سقطت دموع هناء تبكي أفعالها، احتضنتها هناء تحت أنظار ذاك الذي ابتسم وهو يدخل للمنزل بعدما عاد من عمله، فرحته بإتحادهما أخيرًا لا توصف وقف أمامهم قائلًا بمرح:
_شكلي جيت ف وقت غلط، ألف وأرجع تاني ولا أيه؟
تطلعت له الاثنتان بابتسامة فقال بأسف مصطنع:
_آسف اني قاطعت المشاعر المرهفة دي، بس أنا جعــان.
نهضت هناء عن مقعدها بلهفة:
_من عينيا يا حبيبي، ثواني ويكون الغدا جاهز..
_تسلميلي يا ست الكل.
قالها وهو يتابع أثرها المغادر للمطبخ ثم انحنى تجاه والدته يقبل يدها قائلًا بلطف:
_متعرفيش فرحتي باللي بيحصل دا قد أي.
ربتت على وجنته بحنان لم يعهده منها كثيرًا:
_زي ما بيقولوا كدا رُبّ ضارّة نافعة، والوقعة دي يابني فوقتني قبل م الاوان يفوت والعمر يضيع وانا مش شايفة غير الحقد والغل..
انتهت ثم أشارت الى السلم نحو شقته مردفة:
_اطلع شوف مراتك زمانها بتستناك.
هز رأسه إيجابًا وعيناه تجولان على السلم بشغف لرؤيتها، نهض ليتجه إلى الخارج فسمع حديث والدته:
_عايزين دستة عيال يملوا علينا البيت الكئيب دا.
أيدتها هناء التي جاءت من المطبخ لتوها قائلة بشغف:
_يسمع من بوقك ربنا يا فاطمة.
_دستة مرة واحدة!
قالها سليم بدهشة فتعالت ضحكات فاطمة وهناء التي قالت:
_يلا متتأخرش هات جميلة وانزلوا علطول.. الأكل هيبرد.
_من عينيا أنا أصلا واقع م الجوع..
قالها ثم أكمل صعود السلم وهو يتنهد براحة من ذلك الاستقرار الذي عمّ عائلته أخيرًا..
***
هواء عليل يضرب الوجوه بخفة، حفيف الرياح يطرب الآذان، تهادت في مشيتها جواره وسط الأراضي وعلى لائحة وجهها ابتسامة ناعمة، قلبها هادئ بعدما تخلت عن صراعاتها التي مرّ عليها بضع سنوات، مشى جوارها يطالعها بين حين وآخر، يرتسم على وجهه ابتسامة شغف لم يقل بفعل السنون، كلاهما يراقب توأمهما الجميل "نغم" و "زين"، يجلسان تحت كروم العنب يلعبان "الكوتشينة"، تارة ثم يركضون خلف بعضهم البعض تارة أخرى والسعادة ترسم حروفها على وجوههم جميعًا، قالت جميلة وهي تتأملهم بحب:
_شايف؟ شبهنا أوي وإحنا صغيرين.
التمعت عينيه بسعادة ثم قال بسخرية:
_بس للأسف هما أخوات يعني مش هيبقا بينهم قصة حب عظيمة زي دي.
رفعت حاجبيها بإستنكار مرح:
_عظيمة! دي كانت كلها مغامرات ومسدسات وحاجة رعب ليڤل الوحش.
تعالت ضحكاته عليها، ضغط برفق بكفه المحتضن كفها بتملك، رمقها بنظرة ودت لو ظل عمره يهديها إياها ثم قال بإبتسامة حالمة:
_الحُب إكتفاء.. وأنا اكتفيت بيكِ يا جميلة.
طالت نظراتهما ثم نظرا أمامهما بسعادة زارت القلب بعد عناء، رفرفت القلوب مع نسمات الهواء وكأنها بخفة الورق المزين بحرافية، حدثت تلك المعجزة التي جعلت قلبها اليتيم ابنًا له وكأنه يخبره أن لا مأمن ولا أمان إلا به وله...
***
تمت بحمد الله..
أنت تقرأ
اكتفاء_ رحمة النجار..
Actionوما بين عنادها وكبرياءها وحبها تقلبت ليالي كثيرة، وآن الآن أن يخفت صوت عنادها وكبرياءها وعلا صوت حبها يناشدها الإنتصار له، فما كان منها إلا الإستسلام لصوتٍ ظنته خافتًا وهو يدوي بحرية داخل أعماقها..