٢٦_الفصل السادس والعشرون(لَوحة خادعة)

4.1K 178 15
                                    

مَسَّت وجنته بِشِفتيها بِحنان وهي تُساعده _رغمًا عنه _في عَقْد رابطة عنقه قائلة:
_صباح الخير حبيبي.
رَد تحيتها باقتضاب واستسلم لأصابعها اللذين يمُسُّون عنقه بِتعمُّد هدد تماسكه، لكنه أظهر سيطرة شديدة على نفسه وأشاح بعينيه بعيدًا عنها...
منذ ما حدث بأمس الأول من انهيار سيلا وهو يلازمها طوال الوقت رغمًا عنها، لم يذهب إلى العمل، لم يتناول طعام الغداء مع العائلة وأصر على تناوله معها بغرفتها الصغيرة بعد أن رفضت بإصرار.
أما هي _على غير عادتها_ تجد نفسها في موقف عجز.. وخوف!
إن فكرت بمحاولة التحدث مع الطفلة تخاف أن تضر بحالتها أكثر؛
وإن فكرت بالابتعاد تخاف أن تفقدها إلى الأبد بعد أن حققت معها نجاحًا هائلًا خلال بضعة أشهر!
_هل.. هل تستطيع الحضور باكرًا اليوم؟
بترت أفكارها الكئيبة متسائلة بِرِقة فردَّ باقتضاب:
_ اليوم سأصطحب سيلا إلى إحدى الأخصائيات.
أومأت برأسها وعادت إلى صمتها ثم ابتعدت إلى الخلف فتابع بقلق:
_لماذا تسألين؟
ابتسمت بتردد ثم ما لبثت أن أجابته بحماس:
_سوف أذهب إلى الطبيبة لِمتابعة الحمل، إنها الجلسة الأولى، وربما نحظى بصورة لِطفلنا.
ثم افتعلت ضحكة مرتجفة وهي تُردِف بِمرح:
_أعلم أننا لن نرى شيئًا واضحًا، لكنها ستظل ذكرى جميلة بكل الأحوال.
وبالرغم من الأمر يُثير حنينه.. وتشوقه، إلا أنه رد بهدوء:
_كما أخبرتك، لدي موعد من أجل سيلا لا أستطيع إلغاءه.
ازدردت لُعابها ثم قالت بِرجاء:
_سوف.. سوف نذهب في الموعد تمامًا، مُجرد ساعة واحدة لا أكثر، ألا تستطيع تدبيرها؟
هَز رأسه نفيًا دون رد فأومأت برأسها إيجابًا بِحسرة مُعقِّبة بِضعف:
_كما تُحب ثائر.
وقبل أن ينصرف قالت مُسرِعة:
_سوف يُسافر والدايّ لآداء العُمرة بعد يومين، وأود أن أبيت معهما منذ الليلة، هل أنت موافق؟
لن يوافق بالطبع؛
أو ربما سيُفاجئها ويذهب إليها مثلما فعل من قبل؛
لقد أخبرها أنه لا يستطيع النوم وهي ليست موجودة حوله؛
صحيح أنه منذ يومين لا يصعد إلى الجناح إلا بعد نومها لكنه يكون بجوارها في آخر الأمر!
_ليست لدي مُشكلة.
والحسرة والإحباط تبادلا الشماتة بها؛
بينما صوت بداخلها لم يتوقف على إلقاء اللوم عليها!
وما إن أولاها ظهره لِينصرف حتى سمحت لِحُزنها بالارتسام على وجهها بأقوى صوره..
وهو أغلق الباب وظل واقفًا على الدرجات يُعاني عذابًا أضعافًا مضاعفة..
يود الصعود إليها، يود سؤالها مجددًا عن سبب خذلانها إياه، يود الارتماء بين ذراعيها اللتين حُرِم منهما ليومين كاملين وهو لم يعتد ذلك منذ أن أصبحت مِلكه وحبيبته..
لكنه لا يستطيع، لا يستطيع التقارُب أكثر حتى يجد وسيلة تمكنه من نسيان ما حدث!
**********
تظاهرت بِعدم ملاحظة دخوله إلى المحل وهي تُسجل بعض الطلبات التي يُلقيها عليها مُحدثها بالهاتف لكن ارتباكها أصبح واضحًا عندما دار حول الثلاجة لِيقف إلى جوارها بِتهذيب وانتظار!
أنهت مكالمتها وتصنعت قراءة الورقة جيدًا فالتفت منها متسائلة:
_كيف حالك سُهَيلة؟
ودون أن تلتفت إليه بالمثل ابتسمت برسمية لتسأله بذات اللهجة:
_بخير، كيف حالك أنت تميم؟ لم تأتِ منذ أيام وهناك العديد من المكونات التي نحتاج لشرائها.
يفهم جيدًا ما تحاول فِعلُه؛
وتفهم جيدًا أنه يكشفها؛
لكن لا حل لهما سِوى الاستمرار في التظاهر!
فَبَعد أن ألقى عليها عرضُه"الكريم" بالمرة الأخيرة فرفضته بكبرياء اعتمد الغياب الكامل حتى اضطرت لأن تستعلم عن حاله من فيروز حيث تعلم أنه يهتم بشؤونها هي ووالدتها باستمرار فتأكدت أنه بخير.
_ما أخبار العمل؟ وما هي تلك المكونات؟
التقطت دفترًا بسيطًا من فوق المِنضدة الجانبية قائلة بِلهجة جادة:
_جيد للغاية، لقد أعددت لك قائمة بالمبيعات وأخرى بالطلبات عليك تفحصهما.
لم ينظر حتى للدفتر وهو يقول بِصوت ضعيف، لكن النبرة كانت مُهتمة:
_لقد علمت أن والديكِ سيسافران لآداء العُمرة قريبًا، ماذا ستفعلين أنتِ؟
رمقته بتساؤل فأردف مُوضحًا:
_أعني، هل ستظلين في البيت بِمفردك؟
اصطنعت ابتسامة رقيقة وهي تجيبه:
_لقد عَرَضت عليّ يُسْر الذهاب إليها، وقد فكرت في ذلك حتى أهتم بها لأن وضعها لا يعجبني إطلاقًا، لقد أصبحت مُهملة في تغذيتها بطريقة صعبة بالرغم من ضرورة الاعتناء بنفسها وبجنينها في هذا الوقت، أتصدق ذلك؟!
تحاول التعامُل معه بطريقة عادية إذن..
تحاول إلغاء كل ما تم بينهما مؤخرًا بمنتهى البساطة..
وكأنه لم يكن!
جاراها مُتسائلًا بنفس الاهتمام:
_وهل ستمكثين لديها حقًا؟
مَطَّت شِفتيها بِتفكير ثم قالت:
_لا، لن أكون مُرتاحة، كما أنني تلقيت عرضًا من فيروز كي أقوم بمؤانستها هي ووالدتها، وأعتقد أنني سأوافق، سأكون مرتاحة معهما أكثر.
لكنه لم يكن يهتم بذلك..
كان يُطالِعها بِتدقيق شاردًا..
كان يتفحص كل لمحة بها مُستعيدًا حُلم الليلة الماضية الذي تختلج ضربات قلبه بسببه حتى وقته هذا.
لِذا وبِكل ألم، وبِكل صدق، وبِكل ندم نطق قائلًا:
_آسف سُهَيلة!
فلينتهي التظاهر إذن..
فلتتوقف عن امتهان اللامبالاة..
فهي وهو يُدركان أنه لم تكن يومًا لا مُبالاة في اجتماعهما!
وبنفس الألم، ونفس الصدق، ونفس الندم رَدَّت:
_لا تأسف تميم، ربما هكذا أفضل، نحن في الأصل أصدقاء وأنت مُعلِّمي وملاذي الـــ...
قاطعها بِنظرة حالِمة وهو يغرق في عينيها قائلًا بابتسامة مُتعبة:
_أتعلمين أنني لا أرى نساءاً غيرِك سُهَيلة؟ بلغت هذا العمر ولم تلفت انتباهي يومًا سِواكِ، لو أنني استسلمت لِجنوني لاعتقدت أنكِ ربما تسحرين لي.
وتابع مُستغلًا صمتها:
_هل تسحرين لي يا سُهَيلة؟
ثم ازدرد لُعابه ومحى ابتسامته مكتفيًا بملامح الألم وهو يُضيف:
_أم هل أنا من صرت مريضًا بك؟
بانت الحيرة في عينيه ثم استطرد متسائلًا متظاهرًا بالمرح:
_ألم أجد لكِ حلولًا لِكل مُشكلة كانت تواجهك منذ صِغرك؟ ألن نتبادل الأدوار يومًا؟ ألا تساعدين عمك يا فتاة؟!
أغمضت عينيها رغبة في كتمان دمعات ستندفع غاضبة فأضاف بِخفوت:
_أليس لديكِ طريقة أفقد بها ذاكرتي ونبدأ ثانية؟
فتحت عينيها وافتعلت ابتسامة واهية ثم أجابته على أسئلته:
_لا تميم، لا أسحر لك بالتأكيد، وأود بالفعل لو باستطاعتي مساعدتك، لكنني لا أعلم كيف بإمكانك فقدان الذاكرة.
واكتفت بنظرات صامتة، في حين اهتزت حدقتاه وهو يسألها حائرًا:
_كيف أرتاح إذن؟
وفجأة انقلبت نظراته لِتصير مُرعِبة حتى أنها تراجعت إلى الخلف خطوتين بِوَجل، ثم سألها بِصوت خفيض يُثير الذعر أكثر من أعلى الأصوات:
_هل كان يؤلِمك؟ حينما_ذلك القذر_ كان يضربك، هل كان يتعمد إيلامك؟
والحِقد تخلل سؤاله التالي :
_هل كنتِ تستنجدين بالعطف الذي لم يملكه؟ هل كان يعتدي عليكِ بعنف؟ هل كان يُهينك بكلماته؟!
وبالرغم من أن إجاباتها على أسئلته التي يُلقيها عليها للمرة الأولى كانت حاضرة، فإنها لم تستطع الإتيان بها..
ليس وهذا العجز المقيت يصرخ بعينيه!
لقد خافت دومًا من غيرته؛
كثيرًا ما تشاجر من أجلها؛
وبإحدى المرات استغلت تلك الغيرة والحمية لديه فأخبرته بزميلها الذي تحرش بها لفظيًا أكثر من مرة.. لكنها بنهاية ذلك اليوم حينما كُسِر أنف ذلك الشاب على يده اجتاحها الندم فلم تخبره بشأن أي مضايقة بعدها..
لكنها الآن ترى ما هو خلف الغيرة؛
ترى عجزًا، ترى ضعفًا، ترى رجلًا افتقر الحيلة!
لماذا لم تنتبه؟ ولماذا لم يقل الحقيقة كاملة؟!
سألته بخفوت راغبة في وأد ذلك الحوار قبل أن يتصاعد أكثر:
_لِمَ تُعذب نفسك وتُعذبني تميم؟ لقد انتهت القصة و...
وتسيدت الغيرة!
ليقاطعها بِقهر:
_أتعلمين بِم كنت أشعر مع إدراكي أنكِ زوجته؟
أشاحت بوجهها بعيدًا ثم قالت بِمرح زائف:
_كنت تتمنى لي التعرض إلى حادث سيارة بالتأكيد، أو السقوط من الطابق الأخير، فأنا أعلم كيف تكون عندما تحقِد!
لكنه أهداها أكثر ابتساماته تألُّمًا وهو يُعلِّق صادقًا:
_كنت أدعو لكِ بالسعادة، كنت أحاول استراق المعلومات عنكِ من يُسْر، وأصدقكِ القول كنت أشعر بالرضا حينما أعلم أنكِ سعيدة.
نظرت له بِدهشة لا تُصدق أن هذا هو تميم، أن حُبه لها تَغَلَّب على غيرته عليها يومًا..
لكن الدهشة انمحت مع انقلاب نظراته مرة أخرى..
فتولَّى افتقار الحيلة!
ليهتف بِكراهية هائلة:
_أتعلمين بم شعرت حينما علِمت أنه كان يؤذيكِ؟ أنه كان يضربك؟ أنه هرِب كفأر وترككِ تنزفين؟ أنكِ كدتِ تفقدين حياتك ولا أحد منا بالقرب؟!
تَقبضت يداه حتى ابيضت مفاصِلهما ثم صاح:
_لقد قررت السفر إليه وبالفعل سألت عنه أحد أصدقائي بنفس البلد لأعلم أنه لم يعد موجودًا هناك.
اتسعت عيناها بِذهول فتابع هو:
_للمرة الأولى بحياتي أشعر بِهذا القدر من الغضب، أشعر بالرغبة في القتل تفوق حتى رغبتي في قتله حينما أخذك مني.
ثم أردف دون تفكير:
_لقد.. لقد قضيت أنا الفترة التي أعقبت زواجك أنتِ بالمشفى!
**********
تأففت بِغيظ وعيناها تتنقلان بين باب الشقة والتلفاز  بشرود تام، ثم أمسكت بِهاتفها تحاول الاتصال به مرة أخرى، لكن كما حدث في المرات الثلاث السابقة.. لا رد!
ألقت جهاز التحكم بإهمال واتجهت إلى غرفتهما تجمع ملابسها وأغراضها المتناثرة محاولة شغل نفسها بأي طريقة حتى يعود وتعلم ما سبب تأخره بالخارج وكيف لا يُخبرها عن انصرافه بالأصل!
وبعد دقائق سمعت صوت مفتاحه يدور في الباب فانطلقت إليه ثم هتفت به بِقلق:
_إلى أين ذهبت منذ الصباح رمزي؟ ألا تعلم أن اليوم هو الأخير لي هنا قبل أن أبحث عن مبرر آخر  أمام والديّ كي أُقابلك.
نظر لها بلا تعبير للحظات ثم رد وهو يجلس على أقرب مِقعد:
_كنت ببيت والديّ.
زَمَّت شِفتيها تكتم اعتراضًا تود إلقاءه في وجهه ثم سألته بلا اهتمام حقيقي:
_وماذا قال لك؟
ظهر الألم جليًا في عينيه وهو يقول بِحسرة:
_لقد طردني دون أن يدعني أدخل المنزل حتى، صار لا يتحمل رؤيتي، كل محاولات أمي لإقناعه بالسماح لي بالدخول إليه لم تفلح.
ثم أردف بٍحزن:
_لقد سمِعت صوت بكائها وأنا خلف الباب فلم أستطع مواساتها.
جلست على مسند المقعد ثم أخذت تُربت على رأسه بِرقة قائلة:
_لا تنزعِج حبيبي، ولا تهتم، انس الأمر تمامًا ولا تجعلُه يؤثر بك أكثر من اللازم، لا تُبالِغ في حُزنك، أنت قد فعلت الواجب وأكثر، لقد ذهبت له مرة واثنتين ولم يقبل بالتحدث معك، لِذا فلتتجاوز ولا تبتئس أكثر.
رَفَع عينيه إليها بصمت للحظات يتأكد من جديتها، ثم وقف حانقًا رامقًا إياها بدهشة، واحتبست الكلمات بداخله لبعض الوقت حتى  هتف باعتراض:
_هل تمزحين؟! أأخبرك أن أحد زملائي يرفض التحدث معي؟ إنه أبي من يقاطعني رِهام، وأنا أشعر بالضيق الشديد لِذلك السبب، ولن أستسلم حتى يُسامحني.
هَبَّت واقفة أمامه خالِعة قِناع حنانها وبادلته حنقُه بأكثر منه ثم صاحت:
_وإن كانت الطريقة الوحيدة للحصول على سماحُه هي التخلي عني، ماذا ستفعل حينها رمزي؟ أستنفذ مطلبه؟ أستتركني كي تحصُل على رضاه؟
أطبق شِفتيه بِقوة يرفض الانجذاب إلى ذلك الطريق الذي لا يعلم كيف تكون نهايته، لكنها صممت مُشددة على كل كلمة:
_أجب رمزي! إن خيَّرك أبوك بينه وبيني من ستختار؟
تأفف بِنزق ثم تجاوزها إلى الغرفة مُتمتمًا:
_رِهام، أنا لست في حالة تسمح لي بالشجار الآن، ولترتاحي لن يحدث ذلك، أنا سأجعله يُسامحني دون الإضرار بك، سأظل أحاول وأحاول حتى يضطر في آخر الأمر إلى تقبُّل زواجنا.
لكن قبل أن يصل إلى الغرفة صاحت بِقوة وبِنبرة مُحذِّرة:
_أنت تعلم أنني قد تخليت عن كل شيء من أجلك وحدك رمزي.
تسمَّر مكانه لِثوان حاول فيها تماسُك أعصابه ثم التفت إليها ببطء قائلًا بِصلابة:
_أعلم رِهام أنكِ رضيتِ بي بينما أنا لا أُناسبك كما قالها والدك بصراحة، أعلم أنكِ بدأتِ تُدركين الفارق الشاسع بين حياتك السابقة في كنف الأثرياء وحياتك المتواضعة الآن بعد بضع أيام، أعلم أنكِ ربما قريبًا ستشعُرين بالندم جراء ذلك ولا داع لأن تُذكريني كل حين!
والباب الذي صفعه أمام وجهها جعل عينيها تتسعان في صدمة وهي تتساءل بداخلها عن كيفية معرفته بذلك!
بالفعل بدأت تُقارِن.. لكن هذا يحدث رغمًا عنها؛
ما إن تنتبه لِذلك حتى تؤكد على نفسها كِفايتها بِوجود حبيبها معها؛
ما إن تنتبه لِذلك حتى تحاول تذكير نفسها بِمُعاناتها في قصر آل الجوهري؛
لكنها لا تفهم لِمَ أصبحت بالتدريج ترى جوانب إيجابية أخرى لِحياتها السابقة!
أبسبب المادَّة؟
أم بسبب أن حياتها كلها كانت في النور؟ الجميع كان يعلم من هي ويمنحوها أهمية فائقة..
ليس بسبب كونها ابنة فريد عبد الحي؛
بل لأنها_ذلك الحين_ كانت زوجة ثائر الجوهري!
**********
"لقد قضيت أنا الفترة التي أعقبت زواجك أنتِ بالمشفى!"
شحب وجهها وضعفت نبضات قلبها فجأة وهي تستعيد عبارته الأخيرة بينما أشاح هو بوجهه بعيدًا عنها بِحرج واضح، واللعنة التي وجهها لسانه إلى نفسه اخترقت أذنيها!
لكنها أجبرته على الالتفات إليها وهي تشرأب بعنقها تنظر له مُتسائلة:
_ماذا قلت تميم؟
افتعل بسمة تضمنت قدرًا هائلًا من الشعور بالخجل.. والخزي، ثم قال بِضعف وهو يتهرب من عينيها عامدًا:
_أعلم أنه شيء مُحرِج ولم أخطط مُطلقًا لأن تعرفيه، أنتِ على الأخص لا أريد اهتزاز قوتي أمامك.
ثم أضاف بهدوء:
_لكن كمال يعرف، فقد قضى معي أيام بالمشفى.
والسبب لم يقله.. لكنها تريد معرفته؛
هي تستطيع تخمينه.. لكنها تريد سماعه!
وبِصوت مُرتجف سألته:
_لِمَ تميم؟ ماذا حدث؟
اعتدل ينظر إليها بألم فاق كل ما تخيلت يومًا أنه قد يُعانيه ثم قال بِعنفوان:
_أنا تميم سُهَيلة، تميم القوي، المُعتمِد على نفسه منذ صغره، الذي هو على استعداد لأن يتحمل مسؤولية الجميع دون شكوى أو تعب.
وذهب العنفوان بعيدًا؛
وَوَلَّت القوة بلا رجعة ؛
ثم أضاف بِتَقَطُّع:
_لكن حينما يتعلَّق الأمر بكِ أنتِ وحدك أعود طفلًا صغيرًا ضعيف النفس.. هش الروح!
تعلَّقت عيناها بِعينيه فقال ببساطة غير مُتناسِبة مع كلماته التي انطلقت كالرصاص تشق قلبها:
_لقد نُقِلت إلى المشفى من المطار وأنا أراقِب إقلاع طائرتك مع ذلك الحقير، لقد وقفت أشاهدك بفستان الزفاف وباقة الورود الجميلة والابتسامة الرائعة، كلهم لأجل رجل آخر، ليس هو أنا!
وَضعت كفها على ثغرها تكتم شهقة تريد الهرب بينما تابع هو بِخِزي وعينين لامعتين بدموع الحسرة:
_انهيار عصبي تسبب في إقامتي بالمشفى لأيام وشعوري الدائم بأن الجميع قد أصبح يعلم نُقطة ضعفي جيدًا.
والصمت صار ضيفهم..
ينظر إليها راضيًا بِفضح وَهَنه أمامها؛
وتنظر إليه لا تُصدق بشاعة ما شَعَر به عندئذٍ؛
حينما كانت هي قد نَجَحَت في إلقاء ماضيها معه خلف ظهرها كان هو يُعاني أشد المُعاناة!!
عندما كانت هي ترتب خططها للمستقبل كان هو يسقط ضحية ماضِ لازمه ليصير حاضرًا ثم مُستقبلًا..
قاسيًا؛
حارقًا؛
قاتلًا!
وأخيرًا بِنبرة مُرتجفة قالت:
_أترى تميم؟ نحن لم نتسبب سِوى بالألم لِبعضنا، لِذا ربما الصداقة بيننا هي الحل الأمثل والأكثر سلامة.
مال مُقتربًا منها مُتسائلًا بإصرار:
_هل ستستطيعين سُهَيلة؟ هل ستستطيعين التعامُل معي كأنني أخ وصديق؟
وقبل أن تجد حُجة هز رأسه نافيًا:
_لأنني شخصيًا لن أستطيع، دومًا ما كنتِ المرأة التي أحببت ولم أر سِواها، دومًا ما كنت أدعو في صلاتي أن أعيش حتى يوم تكوني به حلالي.
وأردف بنبرة صادقة:
_لم أتوقف عن ترديد هذا الدعاء إلا حينما تزوجتِ بآخر، وعندما أصبحتِ حرة صِرت في ترديده أكثر إلحاحًا!
وبِكل عذابه هتف وهو يدور حول نفسه كالمجنون:
_ربما أنا كنت أخاف إغضاب أمي بالماضي فَتخاذلت، ربما أنا مريض بالرغبة في الانتقام من آخر ولم أحصل عليه بعد، أشياء كثيرة ومشاعر كثيرة لست مُتأكدًا بشأنها..
وبتر عبارته بضياع قبل أن يعود لينظر إليها بِدفء وحنان:
_لكن الثابت الوحيد هو أنني أتنفس عِشقك سُهَيلة!
ورَفَع كفه لتتوقف أمام وجهها بارتعاش يمنع نفسه بِصعوبة عن مسَّها ثم قال بهيام:
_كنتِ ولازلتِ وستبقين إلى أبد الآبدين حبيبتي الوحيدة ومُنتهى عذاباتي.
انحدرت دمعاتها وهي تتراجع إلى الخلف مُرددة بِخوف:
_أنت لن تستطيع التحكم بأفكارك تميم، سيظل زواجي السابق دومًا حائلًا بيننا، وأنا لستُ على استعداد لأن أقضي حياتي أتسائل: يا تُرى بِمَ يُفكر الآن؟
ارتسمت ابتسامة واهية على وجهه ثم قال بِرجاء:
_ربما حينما تمنحينني أفكارًا جيدة تخصنا وحدنا أنسى بها السيئة.
نظرت له باستفهام فتابع:
_أنا أخطأت عندما لم أدافع عنكِ بالمشفى اعتقادًا مني بأنني هكذا لا أُثير غضبها عليّ، لكن عندما رفضتني أنتِ لم أكن أدري شيئًا عما حدث، وإن كنتِ تنتظرين مني أن أتوسل المرأة التي أهانتني أمام أفراد عائلتي دون إبداء أسباب فأعتذر سُهيلة، لستُ ملاكًا ولا أرى ما في الغيب!
ارتجفت شفتاها بينما تثبتت نظراتها عليه ليُردف برجاء:
_أنا خذلتك مرة، ثم رفضتني مرة، ثم خذلتك ثانية، فرفضتني ثانية.
وأضاف مُتسائلًا بأمل:
_ما رأيك أن نُجرب للمرة الثالثة؟
ضيَّقت عينيها بِدهشة ثم سألته بتهكم:
_أتقترح أن أُجرب هل سيُعاني قلبي أكثر أم لا؟ ألا ترى أنه طلب غريب بعض الشيء؟
أغمض عينيه بإرهاق شديد ثم قال:
_أقترح أن نُنهي هذا العذاب، أن نبحث عن راحتنا من خلال قربنا.
ورمقها بِعِشق هامسًا:
_مُجرد تخيُّل أنكِ صرتِ زوجتي يدفع بداخلي شعورًا لا أستطيع وصفه، يبدو وكأنه الحل الوحيد.
والتخيل شاركته إياه؛
والشعور الذي يتحدث عنه لا تستطيع وصفه بالمثل؛
لكنها تَهَرَّبت بِعينيها منه ثم قالت بِتوتر:
_ منذ أيام فقط تراجعت عن عرضك بالزواج واقترحت الاكتفاء بالخطبة، ما الذي تغير تميم؟
أطرق برأسه أرضًا ثم ردد بِشرود:
_ بعدما حدث كنت أذهب يوميًا إلى قبر أمي، أسألها ولا تُجيب، أُعاتِبها ولا تتأثر، أطلب مشورتها فلا تمنحني إياها.
اتسعت عيناها بِتوجُّس فنظر لها باستخفاف قائلًا:
_لا ترمقيني بهذه النظرة، لم أُجن بسببك بعد!
وحينما ظلَّت على هذه الحالة من القلق زَفَر باستسلام ثم أضاف:
_ثم رأيتها ذات ليلة في حُلمي تعتذر باكية، فذهبت إلى القبر صباح الأمس أخبرها بأنني سامحتها، وبأنني سأحاول إصلاح أخطائي بنفسي.
ثم دقق النظر بعينيها مُرددا بابتسامة هائمة:
_وبليلة أمس لم تزرني هي بالحلم، بل كنتِ أنتِ من فعلتِ!
تراقصت دقات قلبها وسألته بِفضول:
_أنا؟! بِمَ حلِمتِ؟
اتسعت الابتسامة حتى شملت كل وجهه ثم أسدل جِفنيه قائلًا:
_كنتِ سعيدة رائعة، ملِكة جمال جميع النساء، ترتدين فستانك ذو اللآلئ وحجاب طويل كثيرًا مُطرزًا، ما إن كشفت وجهك تحته حتى قلتِ لي أنكِ سامحتني!
وبالرغم من تفاعُلها مع حُلمه؛
وبالرغم من اشتياقها لِتحقيق كل جزء به؛
فإنها ردَّت ببقايا قوة تحاول التمسك بها:
_إنه..إنه حُلم تميم، مُجرد حُلم!
فتح عينيه ومنحها أكثر نظراته تصميمًا ثم قال بِصدق:
_وأنا سأحققه سُهَيلة، من أعادك إلّي بعد أن كنتِ مِلكًا لآخر قادر على أن يمنحني إياكِ ثانية!
نظرت له بتردد وأفكارها تتراشق بِخوف؛
ماذا إن لم يحدث ما يعدها به؟
ماذا إن استسلم لأفكاره فيما بعد؟
ماذا إن انتهى الحُلم الجميل سريعًا وتحوَّل إلى كابوس بشِع؟
لكن الكابوس الحقيقي كان واقفًا بالباب بعد أن وصل منذ ثوان ولم ينتبه إليه أحدهما..
وفجأة شعرت هي بوجوده فالتفتت بِحِدة ليشحب وجهها على الفور؛
أما تميم فقد تسمَّر وهو يُطالِع هيئة عدوه الأوحد أخيرًا!
هتفت سُهَيلة باضطراب وهي تختلس النظر بقلق إلى تميم:
_باهر؟! ماذا تفعل هنا؟
أجابها بهدوء حَمَل بعض الألم:
_لقد جئت لأودعك سُهَيلة، لأنني سأسافر ثانية.
وقبل أن ترد دار تميم من خلف الثلاجة متجهًا إليه قائلًا بِتوعد:
_بل جئت لأقتص منك يا وغد!
وخطوة صاحبت عبارته الأولى:
_مارست قوتك على امرأة، أليس كذلك؟!
وضعت سهيلة كفها على فمها بينما نظر له باهر بتحفز، فيما تابع هو خطواته وعباراته:
_أنت سرقتها وبِعت أثاث منزلها!
وخطوة أخيرة جعلته أمامه متمتمًا باحتقار صارخ:
_أنت تركتها مضرجة بدمائها وهربت كصرصور بلا شوارب!
وارتسمت على وجهه ابتسامة تشابه خاصة المهرج الذي يخافه الكثير من الأطفال؛
وأبرز أصابعه تجاهه حتى كادت أن ترى مخالب تنبت له؛
ولمَّا أدرك باهر أنه ربما تسرع.. كان الأوان قد فات للأسف!
وصراخها المستغيث بالمارين بعد لحظات ضاع بين الصيحات المُتراشِقة بينهما معًا؛
والدفعات بِكَفيّ تميم؛
واللكمات بيديّ تميم؛
والركلات _بالطبع_ بقدمي تميم؛
وأخيرًا.. كمصاص الدماء الذي يكمُن مصدر غذائه الوحيد بأعناق الحمقى ممن يسيرون ليلًا بزقاقات مُريبة تهرب منها الحيوانات الضالَّة..
كان آخر ما رآه باهر قبل أن يفقد وعيه
قبضة تميم في طريقها إلى.. أنفه!
**********
يتظاهر بأنه يهتم بتناول طعام غداءه مع أصدقائه كما لم يفعلوا منذ وقت طويل، لكنه في الواقع يختلس النظرات_رغمًا عنه_ إلى تلك التي تقف على مسافة قريبة تنتظر استلام وَجبتها..
ويا لعذابه ويا لألمه!
تزداد براعة وانطلاقا؛
ويزداد غيظًا واحتراقًا!
"لِمَ لا تقومين بدعوة فيروز لتتناول طعامها معنا؟ ألم تصبح صديقتك؟!"
قالها زيدان لِرَغَد بينما ينظر لِباسل بِمكر فأجابته زوجته ضاحكة:
_لقد عرضت عليها الأمر بالفعل، لكنها ترفض كي لا تكتسب عداوة زملاءها إن اعتقدوا أنها تُحاول التقرب من مدراءها.
والتفت هو بصعوبة ليعلق مبتسمًا بتهكم:
_وهي بالطبع تُراعي الجميع وتحرص على نظرتهم العادلة، يا لحنانها!
التقطت رَغَد كوب الماء من أمامها ووجهته إليه فاتسعت عيناه بدهشة قبل أن تهتف بتحذير:
_توقف عن السُخرية منها وإلا أغرقتك في الحال!
نزع زيدان الكوب منها على الفور وهو يضحك مُوجهًا حديثُه إلى باسل:
_توقف باسل كي لا تجلب على نفسك مصائب أنت لست على مقدرة بمواجهتها، فَرَغَد أصبحت شرِسة للغاية فيما يتعلق بأصدقائها!
ابتسمت رَغَد بِزهو فنظر لهما باسل وكأنهما مجنونين ولم يُعلِّق، لكن عينيه هرِبتا إلى فيروز القادمة تحمل صينية طعامها بيد وتستخرج هاتفها من جيب سُترتها باليد الأخرى..
وفجأة تراقصت الصينية وأوشك ما فوقها على السقوط أرضًا، لكن المُنقِذ حضر، وأمسك زميلها أحمد_الذي ظهر الآن من حيث لا يدري كما يفعل كثيرًا مؤخرًا_ الصينية حتى تمالكت نفسها وابتسمت له بامتنان ثم أجابت هاتفها بسرعة..
لَم يشعر باشتعال وجهه غيظًا؛
لم يشعر بقبضتيه اللتين تكورتا بِشدة؛
لم يشعر بأسنانه التي تُطحَن في فمه؛
ولا حتى بمن يُراقبان ما يحدث بتسلية.. كَصَقر وزوجته!
حتى هتفت رَغَد فجأة بِلهجة ساخرة:
_لِمَ أصبح الجو ساخنًا فجأة حبيبي؟ هل تعطل المُكيِّف؟
اتسعت ابتسامة زيدان وهو يرد مُسرعًا.. ماكرًا:
_أظن أن هناك حريقًا من نوعٍ ما، ربما أحدهم يغلي قبل أن يفور الآن!
وَد حقًا لو رد عليهما بما يليق، لكن نظرة الذهول التي عَلَت وجه فيروز أثناء استماعها إلى مُحدثها أثارت انتباهه.. وتَرَقُّبُه!
وتَعَلَّقت عيناه بها بِصراحة عندما وجدها تتجه إلى طاولتهما ثم تجاهلته تمامًا مُوجهة الحديث إلى صديقه:
_مُهندس زيدان، هل باستطاعتي الحصول على إذن عاجل للانصراف؟
وقبل أن يرد سألتها رَغَد بِفضول:
_هل هناك ما حدث فيروز؟ ماذا حدث؟ مع من كنتِ تتحدثين؟
والرد جاء سريعًا بِنبرة تعلم أنها تُثير اهتمام أية امرأة:
_لقد تشاجر تميم مع باهر ويبدو أن هناك دماءًا بالأمر!
شهقت رَغَد فحدَّق بهما باسل بدهشة بينما سألها زيدان بقلق:
_من باهر ذاك؟ وماذا حدث لتميم؟
وَكمن يلتف حوله الناس لِيُذيع أسرارًا هامة استرسلت بنبرة مستمتعة بلا تقييد:
_باهر هو زوج سُهَيلة السابق الذي عاد مؤخرًا طالبًا صفحها، وتميم لم يحدث له شيء بالطبع_ إنه كالحمار الوحشي ما شاء الله_، لكن يبدو أن الآخر صِحته كانت ضعيفة بعض الشيء، لقد أخبرتني سُهَيلة أن هناك أنفًا مكسورًا! ودماءًا، واحتجاز بقسم الشرطة وما إلى ذلك.
وقف زيدان في تأهب مُتسائلًا:
_هل تميم لايزال بالقِسم إلى الآن؟
أسرعت هي بِهَز رأسها نفيًا ثم قالت:
_لا لا، لقد تنازل باهر وانتهى الموضوع، يبدو أنه قد فقد الأمل بها أو أنه لا يريد التعرض إلى المزيد من الكسور فآثر السلامة وولَّى محتفظًا بالمتبقي من صحته، لكن سُهَيلة غاضبة وتسير في الشوارع كالتائهة لأن تميم لديهم بالبيت بعد أن أخرجه والدها من القسم واحتجزه لديه كي لا يتتبع أثره، وهي لا تطيق التواجد معه بعد الفضائح التي أثارها في محل عملها.
وأضافت بامتعاض:
_المُتهور الهمجي!
حدَّق بها باسل بِذهول وهو يشعر أن هناك شيئًا شاذًا بالأمر..
لا!
هو متأكد أن هناك شيئًا شاذًا بالأمر!
من باهر ذاك؟
وما علاقة سُهَيلة بتميم؟
ولِمَ تتحدث هي بِكل هذا السلام النفسي وهذه البراءة عن خاطبها السابق الذي يتشاجر من أجل امرأة أخرى يُصادِف الأمر أنها صديقتها؟!!
ورغمًا عنه طرق بكفه على جبهته بضع مرات متتالية قبل أن تنفجر، بينما أردفت هي بِنظرة غير راضية:
_لكنها ليست المرة الأولى على أية حال، لقد أخبرتني سُهيلة أنه قام بكسر أنف أحد زملائها من قبل بالجامعة! أتعلمان؟ كنت أدرك في قرارة نفسي أنه يخفي بعض البلطجة خلف مظهره الوقور المُتحضر، لكنهم لم يصدقوني!
وعندما شعرت أخيرًا أنها ثرثرت أكثر من اللازم حمحمت بِحرج ثم قالت لِزيدان:
_عذرًا، كنت أريد الحصول على إذن لأذهب إلى سُهَيلة كي آخذها إلى بيتي، كفاها فضائح المسكينة!
شَرَدت عينا رَغَد بِهيام غريب ثم رددت بِرِقة:
_أية فضائح يا بنت؟! أنا أجد الأمر رومانسيًا حالِمًا، أن يتشاجر اثنان من أجل امرأة إلى حد الذهاب إلى قسم الشرطة لهو من أمتع الأمور وأكثرها شاعرية!
ويبدو أنها الأخرى استرسلت في أمنياتها الحمقاء أكثر من اللازم فلم تنتبه إلا حينما التفت زيدان إليها بِنظرة جامدة رافعًا أحد حاجبيه ثم عَلَّق بترقب:
_خيرًا سيدة رَغَد؟!
اعتدلت في مِقعدها بسرعة وتهربت من عينيه ثم تمتمت:
_لاشيء حبيبي!
تأففت فيروز بِملل ثم قالت بِنفاد صبر:
_أعتذر على المُقاطعة، هلا منحتماني الإذن؟!
نظر زيدان ورَغَد إلى باسل الذي لا يستطيعان التعدي على مهامه، فالتفتت هي إليه مُستعيدة نظرتها الهادئة اللامُبالية ثم سألت بتهذيب:
_هل أستطيع الحصول على الإذن باسل بك؟
وبالرغم من غيظه وغضبه وحيرته؛
وبالرغم من رغبته في الصراخ بِوجهها رافِضًا تحقيق أي شيء تطلبه؛
فإنه رد عابسًا باقتضاب:
_اذهبي!
وما إن اختفت عن أنظاره حتى التفت إليهما هاتفًا بِكل ما يعتمِل بداخله من مشاعر مُتباينة:
_هلا أخبرني أحدكما ماذا يعني ذلك الجنون؟ ألم تُنهي خطبتها من تميم؟ لِمَ لاتزال مُهتمة به؟ وهل هو حقًا يهتم بسُهَيلة الآن؟
والرد جاء من رَغَد على الفور، هادئًا، مُنذِرًا:
_لقد حاوَلَت الفتاة شرح الأمر لك مرتين ولم تمنحها دقيقة واحدة كي تستمع إليها، لِذا أنت تأخرت باسل، لا تسأل الآن لأن الإجابات التي تبغيها ستُصيبك بِالندم لِوقت طويل!
وفي هذه اللحظة شعر بالتوجُّس؛
وفي هذه اللحظة شَعَر وكأن هناك ما يخفى عنه؛
وفي هذه اللحظة شعر أنه تسرَّع في نقطة ما لا يدري ما هي؛
وفي التو اندفعت إلى عقله عبارة قالتها يومًا من بين دمعاتها الغزيرة ونظراتها المُتوسلة..المذعورة:
"أنا لست كما تعتقد أقسم لك، لست بتلك الدناءة، أنا مُجبرة والأمر كله ليس كما يبدو."
وباللحظة التالية هَب واقفًا مُندفِعًا إلى مكتبه فلم يأبه به أحد منهما موقنين أنه يستحق ما يُعانيه.. وما سيفعل قريبًا!
بينما التفت زيدان إلى رَغَد قائلًا ببسمة أخفت تحذيرًا صارِمًا:
_إذن أنتِ تُريدين أن أتشاجر مع أحد ما من أجلك حتى أذهب إلى قسم الشرطة؟!
**********
استقلت سيارة العائلة التي يقودها سُليمان من أمام العيادة لتستغرق في شرود تام..
أمسكت الصورة بيد لتمعن النظر بها بابتسامة وبالأخرى كانت تُربت على بطنها..
لقد رأته؛
لقد رأت ما سيكون يومًا ابنهما؛
لقد شعرت بِحنان فاق كل حد والطبيبة تُخبرها بِتطور نموه البسيط، ثم تُشدد على ضرورة اهتمامها بِتغذيتها من أجلها.. ومن أجله؛
ثم صارحتها بأن بنيتها الضعيفة بطريقة ملحوظة تحتاج لعناية فائقة حتى تمر شهور الحمل بسلام؛
والآن تشعُر بالاشتياق لِرؤيته ثانية، لكن للأسف أخبرتها الطبيبة أن المُتابِعة القادمة ستكون بعد شهر كامل إلا في حال حدوث ما يُثير القلق!
ستصبر إذن، عسى ألا تأتي وحدها في المرة المُقبِلة!
...
صَعَدت إلى الجناح بعدما ألقت التحية على والدة زوجها التي لاحظت الإرهاق البادي على وجهها، وما إن أنهت تبديل ملابسها وقصدت بعض الراحة حتى سمعت صوت صفع الباب الخارجي ، وبمجرد أن خرجت من الغرفة لمحت سيلا تجري إلى غرفتها لتغلق الباب بعنف، بينما هو يهرول خلفها...
لِوهلة حاولت استيعاب ما يحدث، وما إن أوشكت على سؤاله حتى بدأ هو في طرق باب غرفة طفلته هاتفًا بنبرة حاول خلالها التحكم في غضبه:
_سيلا! افتحي الباب!
والصمت كان الإجابة، بينما هي تراقبه بلا فهم وهو يعاود هتافه بصوت أعلى، وعندما اقتربت لتفهم ما يحدث علا صوت الطفلة من غرفتها:
_أريد أن أنام!
أسند جبهته على الباب يطرقها مرارًا ببطء؛
يزفر أنفاسًا متسارعة، ولا تعلم إن كان سيساعده هذا في تهدئة غضبه أم سيؤججه أكثر؛
يحولق؛
يستغفر؛
يمسح وجهه بكفيه ثم يستنشق عميقًا قبل أن يتابع بهدوء استشعرت نبرة الرجاء خلالها:
_حبيبتي، سنتحدث سويًا لا أكثر، افتحي الآن!
ولا رد، ثم:
_ما رأيك أن نتنزه سيرًا على الأقدام ونبتاع بعض الألعاب؟ لن نعود إلى هناك الآن.
وأيضًا لا رد، حتى:
_سيلا افتحي كي لا أكسر الباب!
بصياح ألقى عبارته الأخيرة فأجفلت هي بمكانها، لكن الصرخة التابعة من الطفلة جعلتها تنتفض بالفعل:
_لا أريد أن أذهب معك إلى أي مكان، أنا سأنام مع جدتي اليوم من الآن وصاعدًا!
والصمت الذي ساد بعد عبارتها ثم شهقاتها احترمته رغمًا عنها واحترمه هو صاغرًا..
لدقائق يقف على باب الغرفة كمذنب تم رفض سماحه..
وهي.. أدركت منذ أيام أن الأمر ليس بهين؛
أدركت أنه لن يمر مرور الكرام؛
وأيقنت أنها قد راهنت على ثقتها بنفسها وبقوتها.. لكنها _هذه المرة_ ربما تخسر!
والتفت بتثاقل ليلاحظ وجودها؛
لم يلُم؛
لم يُلقِ عتابًا تعلم أنها تستحقه؛
لكن ما عجز عنه لسانه فاضت به عيناه.. وأكثر!
وتجاوزها إلى الغرفة ليجلس على الفراش واضعًا رأسه بين كفيه متابعًا صمته، وألمه؛
على أحد الجدران استندت لتناظره بنفس الصمت؛
كفارسة ماهرة اعتادت الفوز بكل مسابقة، لكنها في غمرة نشوتها بالظفر بحصان بتلك القوة ورغبتها بالمزيد تناست أنها ربما تمتطي مُهرة صغيرة لا تفقه شيئًا في فنون المنافسات!
_ماذا حدث ثائر؟ ماذا حدث لدى الأخصائية؟!
ودون أن يرفع رأسه أجابها بهدوء لم ينفصل عن الألم.. والعجز:
_لم يحدث شيء، بعض الصراخ، وبعض البكاء، ثم هرولت إلى الخارج دون أن تستطيع الأخصائية تبادل حرف واحد معها.
وبالرغم من أنه لا ينظر لها فإنها طأطأت رأسها أرضًا بخزي، لتغمغم بتردد:
_وماذا.. قالت تلك الأخصائية؟
وأخيرًا نظر إليها لكنها حافظت على تهربها بعيدًا عنه، ليجيبها بصوت حمل همًا يبدو أنه لا يقدر على مجابهته:
_ألقت عليّ توبيخًا صارمًا لأنني أخبرت الطفلة بالحمل في هذا الوقت المبكر، ثم قالت أن ردة فِعلها طبيعية متوقعة، قالت أنها قابلت العديد من الأطفال بنفس الحالات المُشابهة وأكثر حدَّة، وشددت على ضرورة الانتباه إليها ومراقبتها طوال الوقت كيلا تُقدم على إيذاء نفسها!
رَفَعَت رأسها لترمقه بذعر فأشاح بعينيه بعيدًا عنها متابعًا بخفوت:
_لم أطلب منكِ تأجيل الأمر أنانيةً مني أو تحكمًا بكِ يُسْر، لم أطلبه لأنني أردت الاكتفاء بكما والاستمتاع بكونك زوجتي التي تحب طفلتي وتتعامل معها كأمها المفقودة على غير الشائع.
ومُجددًا أخفضت رأسها، تفشل في العثور على أية مبررات، لا تجد ردودًا من شأنها أن تُصلِح من هذا العطب الذي بدا عميقًا كعُمق جذور شجرة تم زرعها باهتمام منذ مئات السنين.
_ثائر، أنا..
همست بندم فقاطعها بصوت مبحوح:
_سبق السيف العذل يُسْر، لا جدوى من الحديث الآن، تكفيني المصائب المتلاحقة في الحاضر.
ووقف ليعود إلى الخارج مرة أخرى، لكنه توقف إلى جوارها ودون أن ينظر إليها أطلق سؤاله المتردد:
_ماذا أخبرتكِ الطبيبة؟
ورغم مزيج الندم والألم والخزي المتمكن منها، فإن اختلاجة لم تتحكم بها أصابت قلبها قبل أن تجيبه:
_ أخبرتني أن كل شيء على ما يرام نوعًا ما، ووصفت بعض المقويات.
ونظر إليها بجزع أثار اشتياقها، وحنقها على نفسها، بينما سؤاله يتجدد في أذنيها بتكرار حتى انتبهت بآخر الأمر:
_ماذا تقصدين بـ"نوعًا ما"؟! صارحيني!
حاولت رسم ابتسامة على وجهها لكنها لم تستطع، وبتمتمة خفيضة أجابته لتُطمئنه:
_لا تقلق ثائر! أظن أنه بخير و..
وقاطعها بالفعل قَلِقًا، هذا القلق الذي أعلن عن نفسه بسؤاله:
_وأنتِ؟ هل أنتِ أيضًا على ما يُرام؟
يُجيد ما يفعل؛
ببداية تقاربهما اعتقدت أنه يتعمد إظهار اهتمامه بها كالكثير من الرجال في أول الأمر؛
لكنها بمرور الوقت أدركت أنه يُماثلها بهذا الجانب؛
ربما لهذا أحبته؛
وربما لهذا تستهجن فعلتها منذ أسبوع كامل؛
استهجان صار توبيخًا صامتًا لن تتوقف عن ترديده على نفسها!
_لقد شددت عليّ الاهتمام بالتغذية أكثر مع الراحة التامة.
ارتسمت راحة مؤقتة على تعبيرات وجهه المُرهقة، ليتجه إلى الخارج مغمغمًا بشيء حول نزوله لإخبار والدته والعاملين بالمطبخ بضرورة متابعتها..
_ثائر!
ونداؤها أوقفه بمكانه، ليغمض عينيه مانعًا نفسه بمعجزة عن الاستدارة وجذبها إلى أحضانه..
ليُلقي لَومًا؛
ثم يطلب طمأنة!
_لقد استلمت صورة لأشعة الموجات الصوتية، ربما لا يظهر بها شيء لكنني أردت أن أخبرك، هي على الطاولة إن أردت رؤيتها!
نطقت بعبارتها غير مدركة بتسارع دقات قلبه مع اقتران نظراته بتلك الطاولة..
وعندما أغلقت الباب تخلص من جموده واتجه بخطوات تتصارع عليها اللهفة والحنين..
هكذا مظروف هو يود لو يفتح مثله كل يوم!
بالرغم من اللون الأسود الذي ساد أيمن المَلف فإنه رآه كأجمل ما وقعت عليه عيناه يومًا!
تعالت دقات قلبه في انبهار بالرغم من أن الصورة مُبهمة؛
تجري عينيه على الكلمات بالتقرير المقابل ولا يفهم منها سِوى عُمر الجنين بأسابيع لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؛
يعود إلى الصورة مرة أخرى ويمد أنامل مُرتجفة يتحسسها بِلهفة؛
هذا هو؛
هذا هو طفلها وطفله معًا؛
هذا هو نتيجة عِشقهما؛
هذا هو ما أثمر عنه وجودها بِحياته!
هذا هو ابن ثائر الجوهري من حبيبته.. يُسْر!
وبلا تفكير، وكما يفعل مع كل صور سيلا، رفع الصورة إلى شِفتيه.. وقبَّلَها!
**********
بعد يومين:
على صفيح ساخِن يجلس؛
الحيرة تُعذبه؛
الضياع يكتنفه؛
الغضب يجتاحه؛
والغيرة تقتُلُه!
ينتظر منذ دقائق مَنَّ سيادتها عليه بالزيارة بعد أن أرسل في طلبها بِحُجَّة عمل واهية، قبل أن يفقد أعصابه ويجذبها أمام الجميع مُوبخًا إياها على تباسُطها في الحديث مع زميلها ذاك والذي تأكد من أن نظراته لها ليست عَمَلية تمامًا..
ربما ليس تباسُطًا في الواقع وإنما تهذيب ولِذا كان يلتزم الصمت والتظاهر باللامُبالاة خلال الأيام الماضية، لكن اليوم حقًا فاض كيله وهو يراقب حديثه الخافت معها بعد أن تركتهما زميلتها ثم تتورد وجنتاها فجأة وتنصرف بارتباك!
يكفي حيرة وضياع إلى ذلك الحد!
ارتفعت دقات الباب فسمح لها بالدخول، وعندما وقفت أمامه مُنتظرة بابتسامتها التي أصبحت تُثير غضبه أكثر من اللازم صاح بها:
_ماذا كان يريد منكِ؟
ضَيَّقت عينيها بِدهشة متسائلة بلا كلمات عَما يسأل إن كان ليس من أجل العمل؟
وببراءة شديدة سألته:
_مَن؟
اشتد حنقه وهو يرفع سبابته مُحذرًا قائلًا:
_لا تتظاهري بالغباء فيروز! أحمد زميلك، بِمَ كان يُحدثك بِمقهى المطعم؟
عَبَرَت لمحة الفهم عينيها مُختلطة ببعض الخجل..
لقد رأى زميلها إذن وهو يعبر صراحًة عن إعجابه بها ورغبته بالتعارف أكثر!
أيمكن لأمورها أن تزداد سوءًا؟
لكن.. مهلًا!
ما شأنه هو بِمَا تفعل؟!
استعادت صلابتها على الفور ثم قالت ببرود:
_أعتقد أن وقت راحتي من شأني وحدي كما ذكرت لي من قبل، لِذا فأنا لم أخترق أية قواعد، أليس كذلك؟!
هَب واقفًا ثم صرخ بها فاقدًا كل سيطرته:
_فيروز! لا تُثيري غضبي وتتلاعبي بالكلمات، أريد إجابة واضحة، ماذا كان يريد منك؟
لكنها لم تجفل ولم تخاف، إنما كَتَّفَت ذراعيها مُرددة بِهدوء:
_شيء خاص باسل بك، كان يتحدث معي بشأن خاص بي بعيدًا عن العمل، هل أنت راضِ الآن؟
راضِ؟!
بل هو ناقم كما لم يكن يومًا!
دار حول مكتبه واتجه إليها مرددًا بتحذير:
_كُفي عن التحذلق فيروز وأخبريني ماذا كان يُريد؟ هل هو مُعجَب بكِ؟ هل يريد التقرب منكِ؟ هل يرى بكِ الهدية التي أُرسِلت له على حين غفلة منه؟
وبألم أفلت منها رغمًا عنها سألته:
_ألا أستحق أن أكون لأحدهم بهذا الشكل؟
والألم شاركها به أيضًا في نظرته الصامتة، فَرَفَعت ذقنها بإباء قائلة:
_أعتذر باسل بك، لن تُرغِمني على قول ما لا أريد.
وهنا إلى شفتيه قفز السؤال الذي يؤرق نومه منذ يومين ولا يقبل أحد بمنحه إجابة عليه:
_ما طبيعة علاقتك بتميم؟
ولم تستطع تدارُك دهشتها قبل أن يُضيف بسرعة مُشددًا:
_وأقصد في الفترة الحالية، بعد فسخ خطبتكما.
زَفَرت ببطء ثم قالت بلا اكتراث:
_أظن أنك سألتني عن ذلك الأمر من قبل وقد أجبتك.
هنا عَبَّرَت عينيه عن كل ألمُه وقهره وحُرقته، ثم سألها بِصوت حمل أقوى إمارات العذاب:
_إلى متى ستسخرين مني؟ لقد أخبرتني أنه كان مثل الشقيق والأب في حين أنه كان خطيبك عندئذٍ!
وسقط القناع.. قناعها هي هذه المرة!
قالت بِعينيها:"لقد ظلمتني"
ليسألها بعينيه:" وكيف قد فعلت؟"
أجابت بِعينيها:"حينما صممت أذنيك عني!"
توسلها بِعينيه:"جربيني ثانية إذن!"
لكنها صَلَّدت صوتها وهي تقول بِصوت مُتقهقر:
_باسل، من الأفضل لك ألا تطأ كهفًا لن يعجبك ما ستراه بداخله، وسأسدي لك نصيحة بأن تظل متمتعًا باعتقادك عني بأنني خائنة كاذبة، لا تبحث بالخفايا كي لا تندم!
هَز رأسه نفيًا والنظرة مرجوَّة، والنبرة أصابت قلبها:
_لكنني لا أرغب بأن أظل جاهلًا، لا أرغب بأن أرى الأمور تمر من أمامي كالألغاز الجميع يفهمها إلا أنا!
حدَّقت في عينيه لِثوان ثم سألته:
_ألديك شك ضئيل بأني خدعتك؟
عقد حاجبيه دهشة، فلم يكن هذا هو الرد الذي توقعه، لكنها لم تمنحه وقتًا أطول فسألته ثانية:
_ماذا هناك باسل؟ هل الإجابة عَصيَّة عليك إلى تلك الدرجة؟
وبِقدر هائل من الحيرة المُتألِّمة هتف:
_هناك شيئًا لا أفهمه، لماذا أشعر أنني ظلمتك في حين أن كل الدلائل تُشير إلى العكس؟!
ابتسمت بسُخرية ثم رددت بِهدوء شابه ألم واضح:
_أية دلائل باسل؟ الدلائل يمكن تزييفها ببساطة وعلى مرأى من الجميع، وإن حَكَّمت نفسك قاضِيًا يجب عليك الاستماع إلى دفاع من تراه جانيًا، أليس كذلك؟!
هنا اكتفى من حديث العينين ونطق بها صراحة... بتوسُّل:
_أخبريني فيروز إذن، كلي آذان صاغية!
هَزَّت رأسها رفضًا وتراجعت إلى الخلف قائلة بِحسرة:
_تأخرت باسل، لم أعد أرغب بإثبات براءتي لك، فلتعتقد ما شئت، أنت واعتقاداتك وظنونك كلكم لا تهمونني!
**********
صف سيارته في مرآب القصر وأسند جبهته على عجلة القيادة بإرهاق واضح، مُنهك الجسد والروح والقلب.
لقد مَرَّ يومان منذ أن رآها بعدما منحته صورة لِطفلهما وعَبَثَت بِكيانه مرة أخرى..
قضت ليلتين كاملتين ببيت أهلها فكان كمن يوشِك على الجنون وهو يتلمس جانبها الفارغ بالفراش باشتياق قاتل!
كَمَن يُقيَّد بِحبل طويل تتنازع شَدُّه جِهتان متنافرتان أيما تنافر؛
عقلُه يُحذره من مغبة الأمر ويؤكد له وجوب سرعة احتوائه لطفلته قبل أن يتفاقم الضرر؛
وقلبه يلومه مُنبهًا أنها يُسْر حبيبته، ربما يجب عليه التغاضي والتجاوز عن نكثها وعدهما؛
وها هو في المنتصف لا يعلم ماذا عليه أن يفعل!
وطفلته.. وضعها يزداد سوءاً بصورة مخيفة؛
بدايةً برفض اللعب أو تناول الطعام؛
مرورًا بمقاطعته هو ويُسْر ورفضها ذهابها معها إلى بيت أهلها على غير العادة؛
ونهايةً بملابسها المُبللة!
وعلى جانب آخر تلك المُصيبة التي حَلَّت على رأسه ولا يعرف ما هو القرار الصحيح الذي يجب عليه اتخاذه..
أيفضح الأمر وينتقم ممن تسبب في إتعاسهم لفترة لا بأس بها لِارتكابه هذه الجريمة؟
أم يُبقي الأمر سرًا حفاظًا على سعادة وسلام يستحقها الجميع؟
ويميل قلبه إلى الخيار الثاني، فلا تنقصهم المصائب على أية حال، وصاحِب الحق لم يعُد موجودًا، بل وقام بالتفريط به بِنفسه!
عليه فقط أن يحمي إرث أبيه بِكل الطرق؛
ودونما خسائر!
أهذا وقتًا مناسبًا للعلاقة الجافة مع حبيبته؟
كان ليُفضي إليها حتى لو لم تساعده بإيجاد حلول!
زَفَر بِضيق وخرج من السيارة ليدلف إلى الداخل ويتجه رأسًا إلى غرفة المكتب.. يعترف أنه ربما يستسلم؛
يعترف أنه يريد أن يطلب الحصول على بعض الراحة..؛
راحة بواحتها هي!
وما إن فتح الباب حتى وجد أبيه يقف خلف المكتب..
فاغرًا فاه بِدهشة..؛
عيناه مُتسعتان..؛
وفي يده مظروف كبير..؛
نفس المظروف الكبير!
أغمض عينيه مُستغفرًا لائمًا نفسه على إغفال إيصاد الجارور  بالمفتاح قبل انصرافه صباحًا مُتعجلًا!
_هل ما كُتِب في هذا الخطاب صحيح ثائر؟
ها هو الأمر على وشك الانكشاف، وها هو لا يعلم ماذا يفعل بعد!
ولما لم ينبس بإجابة لفظية واضحة صاح أبوه به مُجددًا:
_أجبني! هل هذه هي حقيقة ما حدث؟
عندئذٍ لم يجد مفر من إجابته مؤكدًا، لِذا تقدم منه وجلس على أحد المقاعد قائلًا بانهزام:
_نعم أبي، لقد تأكدت بنفسي من صحة الكلام، وهناك.. وهناك مقاطع مصورة تُثبِت كل شيء.
حدَّق به أبوه بِصدمة ثم سأله:
_منذ متى وأنت تعلم؟
أطرق ثائر برأسه أرضًا ثم رد بنبرة تحمل هَمَّا فاق مقدرته على التحمُّل:
_منذ خمسة أيام.
ضرب أبوه كفًا بِكف محولقًا ثم دار حول المكتب وجلس أمامه مُتسائلًا:
_وماذا سنفعل إذن؟
...
قبل دقيقة في البهو الخارجي:
دلِفا إلى القصر يتضاحكان بِمرح فأشار لها زيدان بأن تصمُت وهو يُشير برأسه إلى باب غُرفة المكتب حيث يصلهما صوت أبيه وشقيقه واضحًا في سكون الليل..
ثم قال بِصوت خافت:
_تعالي معي، سنُلقي عليهما التحية ونُفجر أمامهما مفاجأة سفرنا بالغد، إنها فرصة لن تتكرر!
هَزَّت رأسها رفضًا ثم تراجعت بضع خطوات قائلة بلهجة مُغيظة:
_لا زيدان! لن أفعل ذلك، واجههما أنت وحدك!
عض على شِفته بِغيظ ثم قال بِهمس:
_أنتِ جبانة رَغَد! أنا من سأترك عملي كي أصحبك في نزهة رغم حالة ثائر الغريبة وترفضين مُساندتي أمامهما؟!
ثم أضاف بِلهجة مُتآمرة:
_إنها الفرصة المناسبة، فثائر لن يستطيع إلقاء السباب عليّ أو قتلي أمام أبي!
وحينما ابتسمت في إشارة للقبول جذبها من يدها قائلًا بِمكر:
_هيا يا فتاة لدينا الكثير من النشاطات مُبكرًا!
...
"وماذا سنفعل إذن؟"
قالها أبوه بِحيرة فرَفَع ثائر رأسه قائلًا بتشديد:
_لن نفعل شيئًا أبي، الأمر لا يحتمِل أن نهدم حياته بعدما شُفِي من أزمته أخيرًا، كما أن المرأة نفسها مُعترِفة بِندمها على التخاذل عن حقها، ورَغَد لا ذنب لها وهي أكثر من سيتعرض للضرر، أنا متأكد أنها بالأصل تجهل الأمر تمامًا.
والحيرة زادها القلق وأبوه يسأله بِخوف:
_لكن ألا يجب علينا إبلاغ الشُرطة؟  لاتزال هناك خطورة، إنه مُجرِم و يستطيع القيام بأي شيء غير متوقع.
هز ثائر رأسه نفيًا ثم قال بِشرود:
_لا تقلق أبي، هو لا يدري أنني علمت في الأصل، وكل ما أريد فعله الآن هو التخلص من شراكته دون الإضرار بأخي وبزوجته.
وبانفعال نادر هتف أبوه مُتسائلًا:
_وكيف ستفعل ذلك؟ أنت تعلم أنه متشبث بأسهمه ويرفض بيعها منذ سنوات.
أغمض ثائر عينيه بِتعب ووضع رأسه بين كفيه مُرددًا بِخفوت:
_أفكر أبي، أقسم أنني لم أتخاذل وأفكر وأحاول منذ أن علمت، وسأجد طريقة ما، سأقنعه بالبيع بأي شكل، وبعدها سأفكر في طريقة ليتلقى عقابه دون إيذائهما.
ثم تابع بِنبرة مُنذِرة:
_لكن احذر أبي من معرفة أمي بأي شيء! فهي لن تفكر بهدوء، بالكاد تمالكت نفسها بعد الحادث.
واستعاد أبوه ذكريات أليمة تتمثل في تلقيهما ذلك الخبر بوجود ابنه الأصغر بالمشفى؛
وفاة خطيبته؛
اضطراره لإجراء عملية جراحية عاجلة بإحدى ساقيه؛
ثم إصابته بعاهة دائمة!
وما تلا ذلك من انعزال تام عن الجميع..
_ماذا تعتقد أنني قد أخبرها؟! الحادث الذي تعرض له ابنك مع خطيبته السابقة وتسبب بمقتلها وكاد أن يتسبب بمقتله هو أيضًا لم يكن حادثًا عرضيًا، بل كان مُدبرًا، ومن دَبَّره هو شريكنا وجد حفيدتنا وصِهرنا الحالي ووالد كُنتك!
ثم أردف بصرامة:
_احذر أنت من رؤيتها المقاطع!
ولم ينتبه أحدهما إلى الصنمين المُتسمرين أمام الباب، بينما هتف زيدان بِصوت مبحوح تلقَّى صاحبه للتو أسوأ صدمة بحياته:
_ماذا؟!
***** نهاية الفصل السادس والعشرينن*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 💜💜

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن