٢٣_الفصل الثالث والعشرون(نتيجة الاختيار)

4.6K 167 10
                                    


بعد شهر:
"هل اعتقدت حقًا أنك ستستطيع هزيمتي يا ولد؟!"
قالها السيد فهمي بتهكم وهو يتطلع إلى ولده العابس، ذلك الذي تأفف مُعلقًا باستسلام:
_أعلم أنك نجم الشطرنج بلا منازع يا أبي، فلا داعِ للتباهي طوال الوقت!
ووالده نظر إليه بعينين ضيقتين بمكر ليقول موحيًا:
_لكنك كنت شديد البراعة أيضًا، لِم فقدت تركيزك؟!
"لقد قُمت بتجهيز حقيبة ملابسك، أهناك شيئًا آخر تريده من الخادمة؟!"
هتفت بها السيدة فادية بحنق بالغ وهي تلج إلى غرفة ابنها قبل أن يرد على أبيه، حيث يجلس معه منذ ما يزيد عن الساعة..
رَفع الاثنان رأسيهما إليها، تظاهر زوجها باللامبالاة بينما زفر باسل بضيق، وما لبث أن هتف باستنكار:
_ماذا فعلت أنا أمي؟! لِمَ تعاملينني بهذه القسوة؟! من يراكِ تقتلينني بنظراتك وبكلماتك منذ أتيت يعتقد بأنني أعيش معك طوال الوقت!
تخصرت وهي تمنحه نظرة مليئة بالغيظ والغضب لتهتف ساخرة:
_لكنت أُصِبت بذبحة صدرية عندئذٍ!
وضع باسل كفه على جبهته مُستسلمًا لتمتمات ستكون مسموعة اعتادت ترديدها على أذنيه طوال الشهر بلا أسباب؛
وجاءت الأولى المُتحسرة:
_يا لأسفي!
وتبعتها الثانية المقهورة:
_يا لخيبتي بك!
وختمتها الثالثة اليائسة:
_يا لحظي المائل بابني الوحيد!
مسح وجهه بكفيه ملتزمًا التهذيب والصمت، فلا حديث سيفيده الآن طالما والدته قررت التعبير عن خسارتها الشنيعة والمتمثلة به وحده!
_اهدئي قليلًا يا فادية! و..
والصيحة للأسف تلقاها والده مُتبرعًا بدلًا عنه، لتتجه بغضبها إليه، تلومه على شيء لا ذنب لأحد به!
_وكيف أهدأ أنا؟! وكيف لا أستشيط غضبًا؟! هل أدركت الآن يا فهمي لِمَ تمنيت مرارًا أن أنجب فتاة؟! هل علمت أننا لو رُزقنا بِعنزة بدلًا منه لكان حالنا أفضل؟!
واللكزة التي أهدته إياها بكتفه صاحبت عباراتها قبل أن تشير إليه جعلته يبتسم بسخرية ليعلق:
_حقًا؟! أكنتِ ستجبرين العنزة على طي ملابسها وطهي طعامها والاستيقاظ فجرًا يوميًا خلال إجازتها السنوية الوحيدة لأن هناك كارثة ستحل إن لم تغسلي الملاءة التي تنام عليها تحديدًا؟!
وبالرغم من أنه نطق عبارته بقهر واضح مُستعيدُا شريط عذاباته اليومية منذ وصل فإنها أظهرت شماتة أكثر وضوحًا وهي ترد بلا تردد:
_وما الذي يزعجك يا حبيب أمك؟! ألا تفعل ذلك بالأصل بالوطن؟! ألم تتخذ قرارك بأن تتابع حياتك وحيدًا من الآن وصاعدًا؟! فلتعتد على تدبير أمورك كلها، وبالمناسبة! الملاءة أنت من ستغسلها اليوم قبل أن تسافر، كي يطمئن قلبي أنك ستنجح في هذا الأمر حينما تعود لتنام في فراشك كالكلب الأجرب!
وبصعوبة نجح في كظم غيظه وهو يلتزم بابتسامته الصفراء قائلًا:
_للأسف أمي ليس باستطاعتك إعادتي أو استبدالي بتلك العنزة، لقد تأخرتِ سنوات بالفعل!
لكنه ندم!
عندما وجهت نظراتها المتحفزة إليه أدرك أنه ربما تسرع.. وندم!
لتقول بخفوت احترمه الاثنان _لا عن طيب خاطر_ بل هم مُجبرين على الصمت إزاء نوبة غضبها التي لم تهدأ منذ وصوله:
_أتعلم؟! أنا متيقنة الآن أنك من تسببت في إفشال زواجك الذي لم نجد الوقت لنفرح به، بالتأكيد هي فتاة نقية طيبة دَعَت لها والدتها في ساعة استجابة أن يبعد عنها التافهين فأنقذها الله من شخص متحذلق، متراخِ، عديم المسؤولية مثلك!
ارتفع حاجبا باسل بدهشة بينما يعدل من نظاراته الطبية، لكن والده أسرع ليُهدئها قائلًا:
_فادية، لا تــ...
لكن عينيها اتسعتا أكثر وهي تميل بجذعها على ولدها لتمسك بأذنه كطفل صغير يسستحق عقابًا رادعًا:
_أتعلم أيضًا؟! لو أنني لدي فتاة وجئت أنت لتطلبها لكنت ركلتك بمعدتك وطردتك شر طردة!
وآلمته أذنه، وعبس مُغمغمًا وهو يحاول التخلص من إصبعيها اللذين يؤديان عملهما بمهارة:
_هل أنا ابنك بالفعل يا أمي؟!
ودفعته أخيرًا هاتفة بغيظ:
_للأسف!
وتابعت بصوت باكِ يعلم كلاهما أنه مُصطنع:
_ليتني أنجبت فتاة! ليتني رزقت بابنة حنونة ناعمة تبرني ولا تثير غضبي بين الفينة والأخرى، بدلًا من جُثة طويلة القامة فارغة العقل ثقيلة الظل لا تهتم سوى بسد جوعها الذي لا يُسَد مثلك!
وعلى الفور انطلقت إلى الخارج تُصدر أصوات شهقات ونهنهات باكية مُفتعلة، لكنها كانت مفضوحة تمامًا!
_ما بها زوجتك؟!
أطلق باسل هذا السؤال على والده _الذي حرر ضحكاته أخيرًا_ وهو يُمسد على أذنه التي صارت حمراء تمامًا:
_إنها حزينة بسبب سفرك بالتأكيد يا بُني.
أجابه أبوه متمهلًا، لكن باسل عقد حاجبيه أكثر هاتفًا باستنكار:
_وما الغريب بالأمر؟! كل عام كنت أبقى معكما لِشهر ثم أعود مُجددًا، كما أنها واظبت على تعذيبي يوميًا ولم يبد عليها أية شفقة بي، فَلِمَ هي غاضبة بهذا الشكل الآن؟!
حدَّق السيد فهمي بعيني ابنه لقليل من الوقت دونما كلمات، ثم قال بنبرة ذات مغزى:
_لأنك أعطيتها أملًا ثم سلبتها إياه يا باسل.
تظاهر بعدم الفهم وهَمَّ بالتراجع كي لا ينكأ والده جراحه التي يفتعل الشفاء منها، لكن والده أدرك ما يجول بخاطره فتابع بلهجة حملت بين طياتها تأنيبًا واضحًا:
_لقد كانت لا تتحمل سعادتها باطمئنانها عليك أخيرًا بعد أن خبرتنا بأنك ستتزوج، قامت بتجهيز كل ما يلزم، كانت لا تكاد تنام وهي تفكر باستقرارك أخيرًا.
طأطأ باسل رأسه أرضًا مُحاولًا اكتساب أكثر قدر من الهدوء في مواجهة هذا الأمر الذي يحاول تجاهله.. ويفشل!
_أنت تعلم أنها كانت تتمنى دومًا إنجاب فتاة، ولقد باتت تتصرف أن الفتاة التي أحببتها أنت وعزمت على الزواج بها ستشغل تلك المكانة، لِذا لم تتحمل تراجعك وإلغاءك الأمر بأكمله فجأة.
ظل على وضعه لدقائق لم ينبس خلالها ببنت شفة، ولما شعر والده أنه لن يتحدث تساءل باهتمام:
_ألن تخبرني ما السبب؟ لقد تركتك شهرًا كاملًا انتظارًا لأن تقص عليّ ما حدث بنفسك، لكنك إلى الآن لم تفعل، وها أنت ستسافر مُجددًا وربما لن آراك إلا بعد شهور عدة!
ورَفَع رأسه؛
مُظلم العينين؛
وملامحه خاسرة.. ساخرة!
_ماذا أخبرك أبي؟! أأخبرك أن ابنك اكتشف أنه ساذج؟! غبي؟! سقط ضحية تسلية فتاة أصغر منه بأعوام؟!
وبابتسامة متحسرة، وبنبرة صادقة أضاف بلا انتظار تعليق:
_لقد أحببتها حقًا، أحببتها وحدها، لم أفكر بأية امرأة من قبل، ولا أعتقد أنني سأفعل إلى الأبد!
واحتدت ملامحه لتصبح غاضبة، نافرة.. حائرة:
_ما يُثير غضبي ونقمتي أنني حتى الآن أشعر أن هناك أسرارًا خافية، بينما كل الحقائق أمامي واضحة كنور الشمس لا شك بها.
وتابع متجولًا بعينيه بعيدًا عن عيني أبيه اللتين كعادتهما دومًا، تنفذان إلى أعماقه وتكشفان مشاعره بلا جهد:
_أرغب بأن أتخطاها، أرغب بأن أنسى أنني رأيتها، أتمنى أن يمحوها عقلي من ذاكرته، ولا أحقق أي نجاح يُذكَر!
وبروية، وبصوته الهاديء، وباختصار سأله:
_ماذا فَعَلَت؟
هب واقفًا، يطوح بيديه بلا معنى في الهواء وكأنه يبحث عما ينفس عن غضبه وعجزه عن طريقه، ليصيح بكل حنق:
_كذبت، خانت، وتلاعبت بي!
واستدار لينظر لأبيه الذي لم يتحرك من مكانه، ولم يُغير من جلسته المستريحة، ولا يبدو عليه أن غضب ولده يُثير قلقه على الإطلاق:
_لقد كانت مخطوبة لآخر وأخفت الأمر، بل أخبرتني أنه بمثابة شقيق أو أب، وذلك الآخر أعرفه جيدًا، لا يستحق خيانتها، ولجرأتها كانت تتحدث معي بطريقة طبيعية تمامًا في نفس مكان وجوده معنا، وأكثر من مرة!
وصمت لسانه؛
وتحدثت عيناه بكل قهر؛
وارتفع صدره وهبط بكل الغضب؛
لكن أباه_بكل هدوء_ ألقى عليه سؤالا مُغايرًا لما اعتقده من عبارات مواساة وحث على النسيان ولَوْم على عدم تأكده من أخلاقها:
_إن كانت هي خائنة متلاعبة، ماذا بشأنه هو؟
حارت عيناه أكثر، وبنبرة ضائعة سأله:
_لا أفهم!
هز والده كتفيه ليقول موضحًا:
_أعني ماذا تعرف عنه هو؟
وبرغم غيرته، وبرغم حُرقته أجابه بصدق:
_رجل خلوق، مُهذب، لا أدري كيف لم يكتشف خداعها.
ووالده مُجددًا ذهب إلى اتجاه مُخالف لِما انتظر، ليقول بصوت من انشغل بالتفكير:
_أعتقد أن ما يستحق تساؤلك هو كيف ارتضى تعاملها معك ببساطة بينما هي خطيبته.
عقد حاجبيه بلا فهم، وعاد إلى الفراش ليجلس عليه مجددًا، وسأله:
_ماذا تعني أبي؟
وأبوه أمعن النظر به لثوان صامتة، ثم أجابه بحزم، وعن اقتناع:
_لا يوجد رجل يملك قدرًا بسيطًا من الغيرة يتحمل نظر آخر لخطيبته، فكيف بتقاربك معها إلى حد إقبالك على الزواج منها؟!
والضياع تجلَّى على وجه باسل، لكن الرفض عاد ليحتله ثانية، وقبل أن يعبر عنه أردف أبوه بابتسامة حانية:
_أعتقد أنك تسرعت بُني، وأعتقد أن هناك شيئًا لا تعلمه، كما أنني لن أشعر بالدهشة إن ظهر ما يقلب تلك الحقائق التي تتحدث عنها ليُحيلها إلى مَرايَا خادعة، بينما الأسرار الخافية التي تشعر بوجودها هي ما دَفَعَت كل الأحداث إلى مآلها!
وبلا رد نظر له؛
ووقف والده ببطء ليحدق به من علو؛
ثم اتجه إلى الباب واختتم حديثه بكلمات ناصحة، حاسمة:
_لا تجعل غرورك الذكوري يُغشي عينيك بغلالة من الأوهام باسل! لا تتشبث بأسهل اختيار فترسُب في أهم اختبار!
**********
دَلف إلى المحل بابتسامته المعهودة فكانت  أكثر كرمًا منه وهي تتجه إليه مُسرِعة، وبالرغم من التوتر الذي يجتاحها للقرار الذي اتخذته منذ أيام فإنها لن تتراجع الآن..
تشتاق إليه حقًا مثلما تخبرها عيناه دون كلمات واضحة؛
تتمنى قُربه بِصدق كما يُعبر هو من خلال كل أفعاله؛
لتُلقي بكل مخاوفها خلف ظهرها.. ولتَلقى السعادة التي كانت دومًا من حقها!
تقدمت منه بينما هو يصُب جام تركيزه على دفتر المبيعات، حتى وقفت أمامه بارتباك ثم قالت:
_تميم، أريد أن أتحدث معك!
وعلى الفور أغلق الدفتر ليقف أمامها مرددًا بابتسامته التي باتت ملاصقة له:
_وأنا أيضًا، لكن أولًا كيف حال كعكة الشوكولاتة خاصتي؟
والمرح بعينيه أصابها بالعدوى، فَرَدَّت على الفور بابتسامة مُتشوقة:
_لقد صنعت لك كعكة أخرى، انتظر وأخبرني رأيك.
وضعتها أمامه ثم وقفت تتململ بِترقب كالطفلة التي تنتظر إثناء أبيها، وكعادته كان على قدر توقعاتها وهو يرمق الكعكة بِشَغف ويقول بابتسامة واسِعة:
_لو استمررنا على هذا النمط سُهَيلة لن أجد بذلة على قياسي كي أحضر بها الزفاف!
ضحكت بِرقة فقال وهو ينظر إليها بحسم:
_ سوف آتي إلى كمال يوم الجمعة كي نُحدد موعد زفافنا سُهَيلة.
تظاهرت بالاعتراض ثم هتفت:
_أي زفاف؟ ألن نقيم خطبة أولًا؟
انعقد حاجباه بعبوس امتزج باعتراض جليّ ليصيح بها بِحنق:
_أية خطبة؟! أنتِ تمزحين معي بالطبع! نحن مُتأخرين عشرة سنوات بالفعل سُهَيلة، وأقسم إن تدللتِ وأصررتِ على ذلك الجنون سأختطفك أمام أبيكِ وأتزوجك في نفس اللحظة!
تعالت قهقهاتها ثم قالت:
_لا أريد أن أُكبدك عناء الخطف والإجبار، سأضطر للموافقة، حتى وإن..
بَتَرَت عبارتها وتوردت وجنتاها بِخجل ثم تابعت بِخفوت:
_حتى وإن فكرت في إحضار المأذون يوم الجمعة لن أمانع كثيرًا، وربما_بمساعدة أمي_ أستطيع إقناع أبي.
تخشب جسدة دهشًة ثم انتفض بِحدة ليقول برجاء:
_هل أنتِ جادة سُهَيلة؟ أبإمكانك أن تكوني زوجتي بعد أيام فقط؟
ازداد خجلها وتَهَرَّبت بعينيها منه ثم قالت بِحَرج:
_لقد.. لقد ابتعت ثوبًا رائعًا منذ أسبوع ولا أكاد أطيق صبرًا حتى أرتديه، إنه.. إنه رائع، أبيض وله لآلئ عند الخِصر والـ...
بَتَرَت عِبارتها عندما اشتد بها الخجل فهتف بلا تصديق:
_سُهَيلة!
عندئذٍ نظرت إليه باستسلام قائلة بِعِشق أعادهما معًا عشرة أعوام إلى الماضي:
_لقد سئمت تميم، أريد أن أكون زوجتك، أريد أن أظل طوال العمر معك، هناك الكثير أود البوح به إليك لكنني لا أستطيع الآن، أريد التحرر من كل القيود تميم، أرغب بِهدم كل الحواجز التي اُقيمت بيننا منذ أعوام، لا يهم من المُخطئ أولًا، كفانا ابتعادًا وانتظارًا لا داع له.
وعندما أجبرها حياؤها على التوقف قال هو بتصميم ممتزج بالذهول:
_بعد ثلاثة أيام ستكونين لي، وسنبوح معًا بكل ما يعتمل بقلبينا، ستصيرين زوجتي وحلالي أخيرًا سُهَيلة.
ثم هب واقفًا بِحماس مُفاجئ وهو يقول:
_نحتاج لِترتيب كل شيء، أستطيع الحصول على بذلة من أي مكان، المأذون سهل إحضاره، ولا نريد دعوة الكثير، فقط المُقربين، سأهاتف مُصطفى وأنتِ هاتفي فيروز وأمها، وأخبري يُسْر أن تدعو عائلة زوجها، وأنا سأدعو بعضًا من أصدقائي، لا.. يجب عليّ أنا دعوة عائلة ثائر بالطبع، أهناك شيء آخر؟
مطت شِفتيها بإدراك متأخر ثم قالت:
_هناك الكثير، تجهيزات واحتياجات، وأمي ستقتلني، أعتقد أننا يجب علينا التريث و..!
قاطعها بصرامة:
_لا تريث بعد اليوم، لقد تَزَوجت أختك خلال أسابيع، نحن نعرف بعضنا منذ الأزل ويحق لنا التسرع، انسي كل الاحتياجات والضروريات، سنستطيع توفير كل شيء خلال هذه الفترة القليلة، شقتي جاهزة بالأصل، لا ينقصها سِوى وصول ملِكتها.
مع رسم الصور بعقلها ضحكت بسعادة ثم قالت:
_ألا ترى أن هذه العِبارة أصبَحَت مُبتَذَلَة قليلًا؟
اقترب منها هامسًا:
_أنا على استعداد لِفِعل الأعاجيب الآن كي أُحقق حُلمي بِك، لقد تشبثت بالفكرة وانتهى الأمر!
ثم تراجع إلى الخلف وأخرج هاتفه وهو يقول:
_سأهاتف كمال وأُخبره كي لا يشعر بالصدمة و...
قاطعته بسرعة صائحة:
_انتظر تميم!
التفت لينظر لها مُتسائلًا:
_ماذا هناك؟
ازدردت لُعابها وجف حلقها ثم قالت بتوتر:
_هناك شيء لابد أن تعرفه.
وعندما دقق النظر بها بِحَذَر أردفت بِصوت مبحوح:
_لقد..لقد عاد باهر!
والاسم الكريه الذي تفوهت به كان بمثابة..
دَفْعَة من علُو؛
لطمة على وجهه؛
كف وُضِعَت على فمه وأنفه معًا فمَنَعت عنه التنفس!
انمحت ابتسامته على الفور لِتظل الدهشة عالِقة على وجهه؛
ثم صمت..
تام..
مُريب!
وتوتُّر كاد أن يقتلها حتى تمتمت بارتباك امتزج بالتوسل:
_قُل شيئًا تميم!
والتوسل بداخلها حقًا كان صارخًا
"أرجوك قل شيئًا، أي شيء سِوى ما أتوقعه!"
سواد..!
غشى عينيه سواد من كل الجوانب؛
تخلل روحه مُقحِمًا غضبًا أعمى وغيرة مُقيتة..
كُمم فمه بلاصق أسود ورُفِعَت أمامه لافتة تأمره بالخرس!
لقد تجاهل؛
لقد تظاهر بالنسيان؛
لقد أدار ظهره لكل تلك الأفكار؛
جمعها كلها في صندوق مُهمل بداخل ذهنه مُجبرًا نفسه على التغاضي...
لكنه على حين غرة فُتح على مصراعيه ناشرًا رائحة عَفَن لا مفر منها، ليخبره بشماتة أنه لم يتجاهل، لم ينس، ولم يكن باستطاعته يومًا أن يتغاضى!
_متى؟ هل قابلتِه؟
قالها بِهدوء مُخيف فازداد توترها قبل أن تجيبه:
_منذ شهر، باليوم التالي لِعودتك من بلدة عم فيروز للمرة الأخيرة.
وبنفس الهدوء كرر سؤالًه الثاني:
_هل قابلتِه؟
هَزَّت رأسها بسرعة والأمل يعود إليها ثم قالت:
_لا، لقد.. لقد جاء إلى هنا و...
بَتَرت عبارتها عندما اتسعت عيناه بِذهول وهو يسألها:
_إلى المحل؟
ضاع صوتها فاكتفت بإيماءة طفيفة ليُلقي سؤالًا آخر:
_كم مرة؟
تملكها الضياع لِوهلة فلم تستطع الرد، فصاح بها:
_كم مرة قابلتِه سُهَيلة؟
أجفلت ثم عادت إلى الخلف بِضع خطوات وقفز التوسل إلى صوتها مرة ثانية وهي تُدافِع عن نفسها:
_لم أقابله تميم، لقد وجدته أمامي هنا فجأة، ارتعبت وهددته بإبلاغ الشرطة و..
وبِترقُّب استجوبها:
_هل كانت المرة الوحيدة؟
شحِب وجهها فصرخ بها:
_انطقي!
أخفضت رأسها أرضًا غير مُدرِكة قطرات العَرَق التي نضح بها جبينها ولا بالارتجافة التي اجتاحت يديها، لكنها رددت بِخفوت:
_لقد رأيته بالأسبوع الماضي أمام المحل فعُدت إلى البيت، وأخبرت أبي وقال لي أنه سيتصرف إن ظهر مُجددًا.
وبِنفس الترقب سألها مرة أخرى باقتضاب:
_وهل فعل؟
رَفَعَت رأسها إليه ثم هتفت مُسرعة تهز رأسها نفيًا بتكرار بِلا داع:
_لا، لم أره منذ ذلك اليوم.
اتسعت فتحتا أنفه وتسارعت أنفاسه وتحولت نظراته بالتدريج إلى أخرى..
مُريبة؛
مُخيفة؛
مُرعِبة!
ثم سأل ببطء مُشددًا:
_عندما جاء إلى هنا، ماذا قال لكِ؟ ماذا كان يريد منكِ؟
هَزَّت كتفيها وهي تقول بلهفة:
_لا أعلم، لم أمنحه الفرصة ليتحدث، لقد طردته على الفور.
لكنه منحها ابتسامة ساخرة وهو يقول:
_لا أحتاج لكثير من الذكاء حتى أدرك أنه بالتأكيد يريد العودة إليكِ، اشتاق إليكِ بالطبع، يرغب بإعادة الوصال ثانية، سيعيدك زوجته مرة أخرى.
جف حلقها وهي تحدق به للحظات بِصمت ثم قالت بِصوت مُتحشرِج:
_لا أهتم بما يريد، أنا لا أفكر به و....
لكنه قاطعها صارخًا:
_لا تكذبي سُهَيلة! لو كنتِ لا تفكرين به لِما أخبرتني بظهوره الآن!
هتفت بأقصى قوة تمتلكها تلك اللحظة:
_أهذا هو اعتقادك تميم؟! أنني أفكر به؟ لقد أردت أن تعلم بحضوره لأنني لا أريد إخفاء شيء عنك، لقد أخبرتك كصديقي ومن أفضي إليه بكل ما يُثير قلقي وتفكيري.
انتظرت الحنق والغضب..
انتظرت الصياح والعِتاب..
انتظرت حتى أن يتركها الآن وينصرف..
لكنها لم تنتظر ضحكة عالية طويلة.. مُقيتة!
أخبرتها أن ما سيتفوه به الآن سيكون من أقسى ما سمعت؛
وقد فَعَل!
وعندما توقف فجأة مال برأسه كي يقترب من قامتها قائلًا بِخفوت:
_أهذا كل ما في الأمر؟ أتعنين أنكِ عندما رأيته هنا أمامك لم تستعيدي ذكرياتك الرائعة معه؟ لم تتذكري سعادتك معه وتشتاقين إليها؟ لم تشعري بافتقاد تلك الأيام؟
بان الرفض في عينيها وَهَمَّت بالدفاع عن نفسها لكنه تابع بِصوت أكثر خفوتًا.. وأعظم قسوة:
_لم تتفاعلي مع ماضيكما معًا وتفكرين بتكراره مُستقبلًا؟
اتسعت عيناها بِذهول ثم قالت بِصوت مُرتجِف:
_اسكت تميم!
لكنه لم يسكت وهو يُضيف بنفس الخفوت:
_لم تضعي احتمالًا واحدًا للإصلاح بينكما، فرصة أخرى، بيت جديد، وربما أطفال، أعني أنه كان زوجك وهو بالطبع أَولَى مني أنا!
أغمضت عينيها وأنفاسها تتسارع بسرعة ثم قالت بِرجاء:
_توقف تميم!
واقترب من أذنها قائلًا بِفحيح:
_لم تشتاقي لِهمساته ولمساته وقُربه و...
قاطعته باشمئزاز مع انحدار سيل دمعاتها صائحة:
_كفى أرجوك!
عاد إلى الخلف رامقًا إياها بِحقد ثم هدر بها:
_ألازلتِ تُحبينه؟ هل تَعَالت دقات قلبك عندما رأيته أمامك؟ هل تذكره قلبك على الفور؟!
ولم تهتم بِمحو دمعاتها وهي تقترب منه مُرددة ببطء:
_تَعَالت تميم، وتذكره قلبي، أتعلم كيف؟ لقد شعرت بالذُعر، كنت أتَلَفَت كَمَن هي على وشك التعرض للقتل بحثًا عن أي نجدة، وكل ما كنت أتمناه وقتها هو حضورك أنت، وقلبي هذا كان سيتوقف رُعبًا عندما رأيته أمامي في صورة مُجرم ضربني وأصابني ثم سرقني وتركني مُضرجة بِدمائي وهرِب.
والحرب بينهما اندلعت..
بِصمت؛
بانكسار؛
بِخَيبة؛
وبمنتهى الخيبة تناولت حقيبتها وقالت له:
_شكرًا  تميم!
وأردفت بابتسامة ساخرة رغم وجهها المُبلل بالدموع:
_شكرًا لأنك لم تُخيب ظني!
**********
ولجت إلى غرفة الطفلة التي تصر على الانعزال منذ وصلت رافضة تناول الطعام أو آداء فروضها المدرسية أو مشاركتها أي نشاط..
"لِمَ هذا العبوس حبيبتي؟ هل أزعجك أحدهم ثانية؟"
قالتها وهي تجلس إلى جوارها بفراشها وتُمسد على شعرها بحنو، فما لبثت الطفلة أن ارتمت بين ذراعيها لتجيبها بحزن:
_لم تأتِ حلا إلى المدرسة اليوم، ولم أجد من ألعب معه!
دققت النظر بها بقلق متخوفة أن تتراجع إلى حالة انطوائها مرة أخرى، وباهتمام سألتها:
_ولماذا لا تلعبين مع بقية أصدقائك؟!
هَزَّت سيلا رأسها رفضًا لتقول بصوت خفيض:
_لا أحب إلا حلا، ويبدو أنها لن تأتي بالغد أيضًا، قالت المُعلمة أنها مريضة.
ابتسمت يُسْر وهي تعتدل لتواجهها قائلة بحماس شديد:
_أتحبين أن نذهب سويًا لزيارتها؟!
وعلى عكس الموافقة السريعة التي انتظرتها جاءها الرفض قاطعًا، وازداد عبوسها وهي تقول بِحدة:
_لا أريد، لا أريد أن أراه، سأنتظر حتى تشفى وتعود إلى المدرسة.
اكتنف القلق قلبها وحاولت إخفائه فلم تنجح، لتسألها بصوت متوتر:
_من؟ من هو الذي لا تريدين أن ترينه سيلا؟ هل هناك من فعل شيئًا ضايقك؟
وعبوس الطفلة ازداد أكثر حتى كاد حاجباها أن يلتصقا معًا، وانتفضت جالسة تهتف بحنق:
_أخوها، هو السبب بمرضها ولا أريد أن أراه.
زفرت يُسْر براحة واستجمعت شتات نفسها قبل أن تقول بدهشة:
_أتملك حلا إخوة؟ ألم تخبريني أنها وحيدة؟
وسيلا طأطأت رأسها أرضًا وهي ترد بخفوت:
_كانت وحيدة، لكن الآن صار لديها أخًا صغيرًا.
وعاد القلق إليها مُجددًا؛
وحدسها أنبأها إلى أين يتجه هذا الحوار؛
لكنها _بأمل طفيف_ سألتها:
_وكيف تسبب بمرضها طالما هو لايزال صغيرًا؟
رفعت سيلا رأسها إليها لتقول بغضب هائل:
_لأن والدها ووالدتها صارا يحبانه أكثر منها، يحملانه طوال الوقت، ولا يتحملان بكائه.
ازدردت لعابها وحاولت التظاهر بالثبات بعض الشيء، ثم سألتها بهدوء:
_من أخبرك بهذا؟
لَوَت الطفلة شفتيها ثم أجابتها بلا اكتراث:
_حلا أخبرتني، قبل أن تتغيب من المدرسة.
مسحت يُسْر على وجهها ببطء، وحمحمت محاولة إجلاء حنجرتها، منحتها بعض الصمت ثم قالت بروية:
_لكن.. حبيبتي لا علاقة لوجود أخيها بهذا المرض، أخبرتني أمي أن سهيلة كانت سعيدة للغاية عندما وُلِدت أنا، كما أن والدك أيضًا كان فرحًا بميلاد زيدان، وها أنتِ ترين أن كليهما يهتم بالآخر و..
وقاطعتها الطفلة بنبرة حاسمة شبيهة بخاصة والدها:
_لكنني لا أحب ذلك، لا أحب وجود أخ أو أخت!
وشحب وجه يُسْر؛
وانتبهت إلى أنها في خضم تفكيرها برغبتها تناست الظروف الخاصة لهذه الطفلة؛
لقد أخبرتها أمها أن سهيلة حاولت كتم أنفاسها وهي رضيعة؛
وأخبرها والد زوجها خلال إحدى جلساته التي يقص عليها طرائف أولاده أن زوجها قد حبس شقيقه داخل إحدى حقائب السفر ذات مرة!
وتعلم هي _كما يعلم الجميع_ أن الطفل الأول يغار من المولود الجديد، فما بال لو كان ليس شقيقًا.. بل هو نصف؟!
وما بال لو كان الأكبر لم يعِش حياة طبيعية؟! ولم يحصل على فيض الحب والاهتمام إلا مؤخرًا؟!
_هل.. هل سيكون لدي إخوة؟
والسؤال الذي انتزعتها الطفلة به خارج مسار أفكارها جعلها ترسم ابتسامة مرتجفة على فيها قبل أن تقول بصوت متحشرج:
_لا أعلم.. ربما!
والتعليق كان أن عادت الطفلة إلى فراشها لتدير ظهرها لها وتجذب الغطاء حتى أعلى رأسها!
هالها الألم الذي انتشر بينهما فجأة؛
أرعبتها فكرة الحزن ولمحة الخوف التي اعترت نفسًا صغيرة؛
والندم اجتاحها مصطحبًا تأنيبًا عاليًا!
_ما رأيك حبيبتي أن نقوم بصنع بعض الألعاب المطاطية؟
تمتمت بها بجوار أذنها بعد أن رفعت الغطاء عن الوجه الصغير برفق، فما كان من سيلا إلا أن شددت من إغلاق جفونها لتجيبها بهمس:
_لا أريد!
ويُسْر لم تتراجع، ورغبتها بإعادة الفرحة إلى قلبها سيطرت عليها لتقول بلهجة توقن تمامًا أنها ستُبدل رأيها:
_لقد علمت أن المعلمة بالأمس حدثتكم عن وسائل المواصلات، ما رأيك لو صنعنا بعضهم فتأخذينهم معك بالغد، ربما تأتي حلا أيضًا فتستطيعين إدخال بعض السعادة على قلبها!
ونجحت!
بالتدريج ارتسمت ابتسامة ضعيفة على وجه سيلا؛
لم يذهب الخوف، لم ينقشع الحُزن؛
لكن _كنتيجة مرضية بعض الشيء_ أزاحت الغطاء وهي تمد يدها إليها باستسلام!
ربما لا تزال طفلة صغيرة، لكنها تملك الكثير من الحرمان، والخوف، والاحتياج!
**********
"بعد غد لَدينا اجتماعًا مع السيدة نجلاء رئيس مجلس إدارة شركة حورس للعقارات، تأكدوا من تجهيز كل العقود في الموعد المُحدد، ستكون صفقة هامة."
قالها ثائر بِعملية فأومأ زيدان برأسه بينما ظهر  الضيق على وجه رَغَد قبل أن تقول باعتراض:
_حقًا ثائر؟! أسنتعامل مع تلك الشركة مرة أخرى؟!
نظر لها مُستفهمًا ثم سألها باهتمام:
_هل لديكِ أية تعليقات أو ملاحظات عليها؟ أخبريني رَغَد.
توترت عيناها ثم أشاحت بوجهها بعيدًا عنه قائلة بغيظ:
_لا.. أعني إنهم جيدون بالطبع، أنا لا أشعر بالراحة للتعامل معهم فَحَسْب.
لكن ثائر مال على الطاولة مُستندًا بذراعيه للأمام وأصر على السؤال باهتمام أشد:
_وما السبب؟ هل هناك ما علِمته بشأنهم؟ أطلعيني قبل أن نضطر للتعامل معهم مجددًا!
هَزَّت رأسها نفيًا ورددت بِخفوت:
_لا.. لكن..
اكتنفها الحرج فَبَتَرَت عبارتها بينما تعالت ضحكات زيدان المستمتعة الذي يجلس إلى جوارها ثم قال رغبة في استفزازها:
_إنها غيرة النساء ثائر، كما تعلم السيدة نجلاء...
بَتَر عبارته بنظرة ماكرة، مقصودة فضَيَّق ثائر عينيه ثم عَلَّق بِحَذَر:
_عفوًا؟!
دَعَسَت رَغَد قدم زوجها أسفل الطاولة فتأوه مُتألمًا، وَضع ثائر إصبعيه أسفل وِجنته رامقًا إياهما بملامح غير مقرؤة، ثم أسرعت هي بالقول:
_أنا لا أغار من تلك الحِرباء بالطبع.
اتسعت ابتسامة زيدان مرة أخرى ثم هَمَس يُغيظها:
_لقد لاحظت ذلك حقَّا!
كَزَّت على أسنانها بِحنق ثم هَبَّت واقفة وهي تهتف:
_كما تشاء زيدان، أستأذنكما!
وقبل أن تصل إلى الباب صاح ثائر:
_لن يستطيع باسل الحضور قبل موعد الاجتماع بِوقت كاف، لِذا أطلعاه على كل شيء في مكالمة مُشتركة، ولا تهملا أي تفصيل.
التفت إليه زيدان مُتسائلًا بدهشة:
_وهل عاد باسل؟
_موعد وصول طيارته مساء الغد، لا أريد أن يفوته أي شيء تم خلال الفترة الفائتة.
ثم أردف مُشددًا:
_بِخلاف عمل فيروز هنا بالطبع!
أومأت رَغَد برأسها إيجابًا ثم انصرفت فالتفت ثائر إلى شقيقه مُتسائلًا:
_ما قصة رئيس مجلس إدارة حورس تلك؟
ابتسم زيدان باستهجان ثم قال:
_هل تصدق هذا الهراء ثائر؟ إنها رَغَد تُعاني بعض التهيؤات بخصوص السيدة نجلاء، لا تهتم بذلك الجنون!
لكن ثائر حدَّق بعينيه بِصرامة قبل أن يقول ببطء:
_أنا أعلم أنه هُراء وجنون، لكن أرجو ألا يتأثر العمل، لا أريد أية تصرفات هوجاء بالاجتماع، أتفهم؟!
أومأ زيدان برأسه في طاعة فتابع شقيقه عابسًا:
_لكن لتقابلها معي بعد قليل، لا أطيق ثرثرتها الفارغة!
**********
أخذت فيروز تُرتب بعض الأوراق داخل أحد الملفات بِدِقة بالغة حتى انتهت وأغمضت عينيها تمنحهما بعض الراحة قليلًا..
راحة ممتزجة بالامتنان!
لقد انقضى على عملها في هذه الشركة شهر كامل بعدما أصر ثائر عليها البدء بالعمل على الفور، دون إهدار يوم واحد في البكاء على اللبن المسكوب..
لكنه كان صريحًا منذ اليوم الأول عندما أخبرها أنها ستقابل باسل حينما يرجع بالتأكيد، وبالطبع ستحدث مُشاحنات بينهما..
وقتها منحها الخيار بين أن تظل بمكانها قابعة، من مواجهته خائفة، وتقبل ظلم الآخرين لها بكل استكانة؛
أو لا تهتم به، تُجابِهه بِشموخ ولا تدع له الفرصة لِسلب السلام الذي ستحصُل عليه أخيرًا بعيدًا عن كل ما يُهددها، وأكد عليها أنه سيدعمها حينئذٍ؛
وبالطبع قامت بالخيار الثاني.
فبعدما أقدمت على خطوة متهورة حين تظاهرت بتصوير عمها بهاتفها القديم لتهدده قبل أن تهرب من بين يديه لم تعد تخاف شيئًا!
وها هي تستغرِق في عملها الذي تُحبه وتتمتع باهتمام رَغَد وثائر وزيدان..
زيدان الذي أظهر عِنادًا شديدًا عندما رَفَضت الإقامة مع أمها بشقته القديمة، حتى توصلا في نهاية الأمر إلى تأجيرها منه بمقابل مادي بسيط في حل يُرضي الجميع فوافق صاغرًا..
وها هي الآن تمتلك أمان.. عمل.. أشخاص آخرين يُحبونها ويهتمون بها بِصِدق دون أن تتسبب في أذيتهم.
والقلب؟!
لم يجلِب لها سِوى العذاب، فلتدعه جانبًا!
وإذا عاد صاحب القلب؟!
فـــ يا أهلًا ويا مرحبًا!
عليه إذن أن يتلقى شُكرها الجزيل بطريقتها الخاصة!
فبالأصل خُذلانه إياها هو من تسبب في تحسُّن أوضاعها الآن!
"صباح الخير آنسة فيروز."
فتحت عينيها وهي ترمُق أحد زملائها في المكتب بِدهشة، ثم ابتسمت بتردد وهي ترد:
_صباح النور أستاذ أحمد، كيف حالك؟
تقدم منها مُبتسِمًا أكثر ثم قال:
_أنا بخير، مُهندسة رَغَد تريد أن تُحضِري إليها التقرير الشهري بِمكتبها.
تناولت أحد الملفات من جارور مكتبها ثم اتجهت إلى الباب فأوقفها بسرعة:
_آنسة فيروز!
التفتت إليه بِنظرة مُتسائلة، فتابع بِتردد:
_ما رأيك لو تناولنا طعام الغداء معًا بِمطعم الشرِكة؟ أعني.. إنه وقت راحة مُوَحَّد على كل حال.
ارتبكت قليلًا ثم أشاحت بوجهها بعيدًا عنه قائلة:
_أعتذر أستاذ أحمد، عَلَيّ متابعة بعض المهام من أجل الاجتماع.
وعندما غادرت تمامًا هتف أحد زملائهما:
_الفتاة لا تنتبه يا أحمد، أو تنتبه وتبتعد بِلباقة.
نظر له أحمد بِضيق ثم قال مُعترِضًا:
_لماذا تقول ذلك؟ هي فقط جادة قليلًا وتتعامل مع الجميع بِرسمية، ربما لو تَقَرَّبت منها لانسجمت معي.
لكن زميله أكد ببطء:
_أنا أرى أنها من الذكاء بحيث لاحظت مُحاولاتك بالفعل وتصُدَّك بِلُطف.
جلس أحمد على مقعد مكتبه وهو يقول بإصرار:
_وأنا أرى أنني لن أخسر شيئًا بالمزيد من المحاولات، هي فتاة مُهذبة وجميلة ورائعة، وأعتقد أنها تُناسِبني.
مط زميله شِفتيه يائسًا بينما شرد أحمد فيها كعادته منذ فترة قصيرة..
لقد انجذب إليها خلال وقت قليل وحاول استمالتها إليه، لكنها تُعامِله كما تُعامِل الجميع...
بتهذيب ولُطف.. ورَسمِية لا تروقه!
لكنه قد اتخذ قراره، سوف يُحاول مُجددًا حتى يستطيع جذبها إليه أيضًا!
**********
جلس رمزي أمام فريد بك يُشبك أصابعه معًا بِتوتر شديد، بينما الرجل يرمُقه بلامبالاة وبرود مثيرين للقلق، أما رِهام فقد حاولت افتتاح الحديث الوِدي بضع مرات لكن جمود والدها أنهاه في كل مرة!
حمحم رمزي بتوتر ثم خاطبه بتهذيب قائلًا:
_أنا.. أنت تعرف فريد بك أنني كنت زميل رِهام بالجامعة، وأننا كنا على وشك الزواج حتى....
قاطعه فريد على الفور ببرود:
_كيف كنتما على وشك الزواج وأنا لا أعلم؟ ألها أب آخر طلبتها منه؟
تدخلت رِهام بابتسامة مرتجفة قائلة برقة:
_هو يعني أننا كنا متفقين أبي و...
نظر لها أبوها مُتسائلًا بسُخرية:
_ألا يستطيع الكلام بِمفرده؟! أيحتاج دومًا إلى مساعدتك؟!
تسلل الحنق إلى رمزي الذي ازداد شعوره بالإهانة فقال بسرعة:
_كنا نريد الزواج لكن لم يتم النصيب في ذلك الوقت، والآن أنا أجدد رغبتي فريد بك وأطلب منك الزواج من ابنتك رِهام.
وضع فريد إحدى ساقيه فوق الأخرى موجهًا قدمه إلى وجهه في إشارة انعدام ذوق مُتعمدة، ثم سأله باقتضاب:
_ماذا تعمل؟
عَبَث رمزي برابطة عُنُقه وهو يزفر ببطء باحثًا عن بعض الهدنة، ثم أجابه بهدوء:
_أنا محاسب بإحدى شركات المُقاوَلات.
عاجله فريد بسؤال ثانِ ببرود تام:
_ألديك شقة؟
هتف رمزي مُسرعًا بأمل وهو ينقل النظر بينه وبين زوجته الصامتة منذ البداية لكن ملامح وجهها تصرخ بالرفض:
_نعم بالطبع، وهي مُجهزة من الأساسيات، وقريبًا سأتدبر بقية الأجهزة.
وتدخلت والدتها متسائلة بحنق لم تخفِه:
_وأين أهلك؟ لِمَ أتيت وحدك؟ ألا تدري أنه لا يصح قدومك لخطبة امرأة بِمفردك؟
وقبل أن يرد قال فريد بِعجرفة:
_وبالأحرى، ألا تدري أنه لا يصح قدومة لخطبة ابنة فريد بك عبد الحي بِمفردك؟!
عاد التوتر إليه مرة أخرى طاردًا كل بادرة أمل ثم ردد:
_أنا.. أنا أقيم وحدي حاليًا، لقد نشب خلاف طفيف بيني وبين والديّ و...
هتفت ليلى به مُقاطِعة إياه:
_ما رأي أهلك بزواجك من ابنتي؟
شحب وجه رمزي وهو يدرك أن ما كان يخاف من حدوثه قد وقع، تفصد جبينه بالعرق رغم برودة الجو بسبب المُكيف، لكنه تشبث بِقوة واهية وهو يجيبها:
_إنه قرار يخصني وحدي، وأنا لست صغيرًا كي لا أستطيع تنظيم حياتي دون مساعدة من الآخرين.
نظرت رِهام إلى والديها بِتوسل، لكن تعليق أبيها جاء هادئًا.. حاسمًا:
_وأنا لست موافقًا.
أجفل رمزي وهو يرمقه بدهشة في صمت لِثوان ثم سأله:
_ماذا تعني؟
وانطلق سؤال رِهام المُعترِض:
_أبي، ما الذي تقوله؟
لكن فريد مط شفتيه بلا اكتراث ثم دقق النظر بها قائلًا:
_لِمَ الدهشة رِهام؟ أعتقد أنني أخبرتك من قبل أنني لن أوافق على زواجك منه، ليس ذنبي أنكِ أصررتِ على موقفك ولم تُخبريه وعرضتِه لهذا الموقف المحرج!
تصاعد العناد بداخله ثم هتف مُتسائلًا:
_ما هو وجه اعتراضك عليّ؟
وإن كان يعتقد أنه سيفاجئه فقد خاب اعتقاده، حيث حدَّق به فريد مُرددًا بلهجة تقريرية، متعالية:
_لا تناسبني، لا تليق بمكانتي ولا باسمي، لا يُعقل أن أقبل باستبدال ابنتي زوج كثائر الجوهري بمن هو أقل منه شأنًا، هذا كل ما في الأمر.
وقبل أن يرد رمزي وقف فريد وهو مُشيرًا بِكفه إلى الخارج قائلًا:
_الباب من هذا الاتجاه إن كنت قد نسيت، تشرفنا!
وقف رمزي ببطء مصدومًا وغاضبًا ثم اندفع إلى الخارج فلحِقته رِهام بِوجل هاتفة:
_أعتذر رمزي، أرجوك لا تغضب مني، سوف أتوسله بعد يومين و...
التفت إليها هاتفًا بِهياج:
_لا تتوسليه رِهام، أنا لن أهين نفسي مع أبيك مرة أخرى.
شحب وجهها ثم قالت بِصوت مبحوح:
_ماذا تعني؟ أنت لن تتخلى عني رمزي!
اقترب رمزي منها ثم قال بألم شعرت أنه لا يتعلق برفض والدها وحده:
_أنتِ الوحيدة التي تمسكت بها في حياتي ومن أجلها تخليت عن كل شيء.
وأردف بأسف:
_بالفعل كل شيء!
ثم تراجع إلى الخلف قائلًا بِحزن:
_إلى اللقاء رِهام!
ظلت مكانها تُحدِّق في إثره بذهول؛
أهذه هي النهاية؟!
أهكذا تكون نتيجة كل ما سَعَت إليه خلال الشهور الماضية؟!
هل فقدت رمزي للتو؟!
لا.. هي لم تفعل كل هذا كي تخسر بآخر الأمر؛
ستحصل على ما أرادته بأية طريقة ممكنة!
"إن اعتقدتِ أنكِ بإمكانك إجباري على شيء لا أريده فقد تحامقتِ كثيرًا رهام!"
انطلقت العبارة الصارمة خلفها فالتفتت لتواجه والدها بعد أن انصرفت والدتها التي ساءت علاقتها بها كثيرًا منذ الطلاق..
حدَّقت به بجمود تتوعده بعينيها.. فابتسم!
واقترب منه شابكًا كفيه خلف ظهره، وأمامها تابع بخفوت:
_وإن تخيلتِ أنني لا أستطيع إيذاءه هو وأسرته فردًا فردًا حتى يلقيكِ خارج حياته بنفسه فقد فقدتِ عقلك!
واهتز جمودها؛
واستطاع حيازة اهتمامها.. وحذرها!
_ربما باستطاعتي فضح سبب طرده من الشركة لدى كل من لا يعلمون، وكما تدرين.. ربما يصل الأمر إلى الشرطة مثلًا!
وارتجفت شفتيها حين فرقتهما لتتحدث، وخرج صوتها مرتجفًا بالمثل:
_لمَ وافقت على حضوره إذن طالما سترفض الزيجة؟!
وبقدرته المعروفة على إظهار غروره الدائم أجابها:
_ليعرف قدره، وليدرك متى يجب عليه التوقف عن التحليق في سماء طموحاته، حتى لا يسقط فاقدًا.. حياته!
وجسدها شارك شفتيها الارتجاف؛
لكنه تخلى عن الوظيفة التلقائية المتمثلة برحمة أب، ومال على أذنها ليردف هامسًا بتوعد، وبشماتة، وبقصد لا يدركه بهذا المكان سواهما:
_ولتدركي أنتِ أيضًا أن ابنتي نفسها لا تستطيع حملي على فعل ما أرفض، فلا تكرريها مُجددًا، حتى لا أضطر لمفاجأتك!
**********
وقفت رَغَد في آخر الممر مُكتِّفة ذراعيها وهي تقضم أظافرها بِغِل حتى كادت أن تدمي أصابعها، بينما هو يقف في بدايته مع تلك السيدة أمام باب قاعة الاجتماعات يتضاحك معها ويبدو عليه السعادة الشديدة!
ألم ينتهي اجتماعها معهما منذ عشر دقائق؟!
لِمَ يقف معها الآن؟
وعن أي شيء يُثرثران بالأصل؟!
وفي بداية الممر كان هو مع السيدة نجلاء رئيس مجلس إدارة الشركة التي على وشك التعاقُد معهم قريبًا، يبغي الانصراف لكنها تفتتح مواضيعًا عديدة مُتشعبة وعيناها بين الحين والآخر تحيدان إلى داخل قاعة الاجتماعات...
"لكن الزواج بدلك كثيرًا زيدان، أصبحت أكثر مرحًا وأخف ظلًا!"
قالتها بِصوتها الناعم فتظاهر بالاستياء ثم قال:
_أتعنين أنني كنت ثقيل الظل من قبل سيدة نجلاء؟! سامحك الله!
أطلقت ضحكة عالية بعض الشيء علِم هو الهدف منها على الفور قبل أن ترد:
_لم أعنِ ذلك، لكن أنت وشقيقك تزوجتما في فترة متقاربة للغاية، وبالرغم من ذلك فإن الفارق بينكما واضح، تبدو أنت رائق البال دومًا، بينما لايزال صارمًا جامدًا كما هو.
اتسعت ابتسامته ثم قال بِمكر:
_لأنكِ لا ترينه مع أسرته، يكون على النقيض تمامًا.
رَفَعَت المرأة إحدى حاجبيها باستغراب ثم قالت:
_حقًا؟! لقد أثرت فضولي لأرى ثائر الجوهري المناقض تمامًا هذا!
...
صدرها يرتفع وينخفض بسرعة في تنفس عنيف..
ستفقد إحدى أسنانها غيظًا الآن..
وربما بعض الأدخنة ستندلِع من رأسها!
"رَغَد! لِمَ تقفين هكذا؟"
انتفضت إلى الخلف بِذعر ما لبِث إن أُزيل بالتدريج وهي ترمق فيروز بلامبالاة ثم عادت لاستئناف مراقبتها في صمت، بينما نظرت فيروز إلى مرمى بصرها ثم أطلقت صفيرًا خافتًا مُعجبًا قبل أن تعلق بانبهار:
_ومن تلك القُنبلة الصارخة بالأنوثة؟ أهي عارضة أزياء؟
ثم شهِقت وهي تلاحظ ما يحدث:
_يا إلهي! لِمَ يضحك معها زوجك بهذا الاستمتاع؟!
عضت رَغَد على شِفتها بِقهر فمصمصت فيروز شِفتيها بامتعاض ثم تمتمت:
_لم يمر شهران بعد على زواجكما وبدأ يبحث عن رِزقه خارجًا؟! يا للرجال! لا أمان لهم على الإطلاق!
التفتت رَغَد لها بِحدة ثم قالت بِغيظ:
_توقفي عن إشعالي فيروز! أنا بالأصل أمنع نفسي بصعوبة عن جذبها من شعرها تلك المائعة وركله في قصبة ساقه ذلك المُتبَجِّح!
ضحكت فيروز بِمرح ثم ردَّت:
_أنا أمزح معك يا بلهاء، من يراكِ تقتلينهما بِنظراتك هكذا يفهم أنكِ غيورة بشدة، أليست هي من كانت باجتماع اليوم وستحضر بعد الغد أيضًا؟!
نفخت رَغَد بِغيظ ثم رددت بِخفوت:
_هي بنفسها.
رَفَعت فيروز حاجبيها بتوجس ثم سألتها بهدوء:
_أتخططين للبقاء هنا طوال اليوم أم ماذا؟
نظرت لها رَغَد بتساؤل فتابعت بِجدية:
_إما أن تتراجعي إلى مكتبك وتذرين الغيظ يقتلك كمدًا، وإما أن تتدخلي على الفور.
تأففت رَغَد وهي تعود بنظراتها إليهما ثم أجابتها بِحِقد:
_لا، لقد حذرنا ثائر من التهور لأنه يهتم بهذه الصفقة، بالإضافة إلى أن الخطأ يقع على زوجي العزيز بالأصل.
وتمتمت بِعينين مُتسعتين وبنظرة متوعدة:
_اتفقنا زيدان، عندما نتقابل بالبيت!
مطت فيروز شفتيها بأسف ثم قالت بهمس وهي تسحبها بعيدًا:
_رحِمك الله زيدان، كان يُلقي عليّ تحية الصباح يوميًا ببشاشة لا مثيل لها، لو فقط أدرك ما ينتظره بسبب هذه التصرفات الطائشة!
**********
صعد إلى الجناح مُتوقعًا هجوم سيلا عليه كعادتها كل يوم خلال الشهر الماضي..
وما أجمل الشهر الماضي!
إنه الأفضل في حياته على الإطلاق!
تَحَسَّنت علاقته بِطفلته كثيرًا وصارت كما لم تكن مُطلقًا من قبل؛
ويا لروعة شعوره الآن!
لقد بات ينتظر موعد عودته كي يجلس مع حبيبتيه ويشاركهما اهتمامتهما الطفولية، بل إن يُسْر أجبرته ذات مرة على مُساعدة سيلا في آداء الفرض المنزلي!
هو.. ثائر الجوهري الذي يُثير اسمه الرعب في قلوب الموظفين يجلس أرضًا بِجانب طفلته يختار معها الألوان التي ستستخدمها لإحدى رُسوماتها!
ويكتشف فجأة أن هذا الشيء البسيط يَمنحه سعادة فاقت كل صفقاته واتفاقاته!
ألوان.. ألوان .. ألوان!
تُحيط به الألوان من كل جانب؛
وكُلما مال إلى ظلامه في غفلة منه سَحَبته حبيبته بِقوتها وحنانها إلى نهر ألوانها الغزير..
والآن أين هما وألوانهما؟
وهَدَفه كان في غرفة الصغيرة، وبدلًا من الألوان كان هناك الكثير من القُصاصات المطاطية اللامعة..
وبعض المُجسمات لِفواكه، وخضروات، ولِوسائل المواصلات المختلفة؛
صمغ، وشمع، ومقصين صغيرين؛
ثوبان بيتيان مُتطابِقان "لأم وابنتها" ابتعدا كثيرًا عن الرُكبتين..
بينما إحدى الكتفين مكشوفة!
وَثَبَت سيلا إلى أحضانه على الفور  فَحملها لتُمطِره بِقُبُلاتها الغزيرة فيبادلها بالمثل وأكثر...
ثم ابتعدت عنه مُشيرة إلى أرضية غُرفتها وهي تصيح بِحماس:
_انظر أبي! لقد ساعدتني يُسْر في صناعة وسائل المواصلات هذه، ماذا تختار؟ القطار أم  السفينة؟
وبِنظرة ماكرة رمى تلك القابِعة أرضًا تَلمَع بِوفرة ثم ثَبَّت أنظاره عليها قائلًا بمكر:
_أعتقد أنني سأختار"الصاروخ"!
ابتسمت يُسْر بِانتشاء بينما تلفتت سيلا حولها بِحيرة هاتفة:
_لكننا لم نصنع واحدًا!
تظاهر ثائر بالدهشة ثم قال بلهجة مُغازِلَة أصابت هدفها بِمهارة:
_حقًا؟! لكنني الآن أرى واحدًا!
عَضَّت يُسْر على شفتها ثم نظرت له بنظرة ذات مغزى، حمحم بِخشونة قبل أن يُخاطِب سيلا بصرامة مهتزة:
_ومن سيقوم بتجميع هذه القُصاصات آنسة سيلا؟
ردت على الفور:
_أنا ويُسْر، لقد اتفقنا أن من يتسبب في إثارة الفوضى يجب عليه أن يُرتبها ثانية!
زم ثائر  شِفتيه بتفكير ثم قال بِجِدية زائفة:
_أولم تُخبرك يُسْر أن إحداهن تسببت ذات يوم في إثارة فوضى أشد بِمكتبي الفخم ليُصبح كأنه مصنعًا للأقمشة رَدَّا على نِيتي الحسنة تجاهها وأول غُصن للسلام أمُد يدي به إليها؟ ولجرأتها لم تكتفِ بذلك، بل هددتني بالمقص!
نظرت إليه سيلا بِحيرة بينما تعالت قهقهات يُسْر حتى دمعت عيناها مع اجتياح تلك الذكرى البعيدة عقلها، ومع استغراقها في الضحك اتسعت ابتسامته ثم قال بِلهجة عابثة:
_ويا ويلي أنا من ضحكة الصاروخ!
وعندما توقفت ضحكاتها رَفَعَت مقصًا بلاستيكيًا صغيرًا ثم قالت ببراءة:
_كنت أقصد مثل هذا، إنه لا يؤذي!
أهداها نظرة متوعدة ثم رمق ابنته بجدية قائلًا:
_سيلا حبيبتي، انزلي إلى جدتك واطلبي منها كيسًا كبيرًا كي نقوم بتجميع تلك القصاصات به.
هتفت الطفلة بدهشة:
_ولِمَ أحضره من عند جدتي؟! سأبحث في جارور خزانة المطبخ.
مط ثائر شِفتيه بِغيظ ثم أنزلها أرضًا وقال:
_ابحثي في المطبخ إذن، لكن ابحثي ببطء شديد، أنا لا أحب التهور!
والطفلة عقدت حاجبيها ثم سألته ببراءة:
_ألا تقول دائمًا أنك لا تحب هدر الوقت؟! ماذا أفعل الآن؟!
وانتظار الطفلة إجابة فعلية مع نظرة الحيرة والحرج بعينيه جعلاها تفقد سيطرتها على ضحكاتها مُجددًا فهتف بها موبخًا:
_بدلًا من الاسترسال في الضحك وإفقادي تركيزي ساعديني في البحث عن إجابة لا تظهرني في هيئة أب يقوم بتسيير المبادئ حسب أهوائه الشخصية!
لكنها غطت وجهها بكفيها لتستمر في ضحك مكتوم، فمال هو على طفلته قائلًا بمُهادنة:
_سيلا! أنا أرغب بأن تجدي الكيس الأكثر متانة وجودة، وليكن وردي اللون، وبحجم كبير للغاية، إن وجدته بهذه المواصفات دون هدر الوقت ستكونين طفلة ممتازة!
وإن كان يعتقد أنها ستقتنع بسهولة فقد نسى أنها.. ابنته!
_لا يوجد كيس في القصر كله بهذه المواصفات!
_لقد أصبحتِ نسخة مُصغرة من زيدان!
قالها بغيظ واضح تعليقًا على نظرتها المتذاكية، لكنه كان قد أثار بها روح التحدي وانتهى الأمر، فارتسم التصميم بعينيها وهي تنطلق خارجًا!
وعندما غابت عن عينيه التفت إلى تلك التي تُناظِره بِابتسامة مُترقبة ثم رَفَع سبابته إليها مُشيرًا لأن تأتي إليه، وفَعَلت!
وحينما توقفت أمامه سأل بِخفوت:
_أين تحية عودتي؟
اتسعت ابتسامتها ثم مَسَّت إحدى وجنتيه بِشفتيها وابتعدت بسرعة، ليهتف باعتراض:
_أين الإتقان والضمير يُسْر؟!
لكنها أخرجت له لسانها ثم قالت:
_أنت لم تُهاتفني طوال اليوم، لِذا هذا كل ما ستحصُل عليه!
دلالها وغنجها يُثيران جنونه..
سعادتها بقربه تثير فخره وزهوه..
وجودها بين أحضانه يمنحه رِضا يفيض من خلجاته!
أحاطها بِذراعيه ثم مر على كتفها بأنامله ببطء مُتسائلًا بِهمس:
_لِمَ إحدى كتِفيك مكشوفة يُسْر؟
رَفَعت حاجبيها في دلالة اعتراض ثم سألت بِخفوت:
_أهناك ما يمنع ارتداء ما يحلو لي في بيتي؟!
هز رأسه نفيًا وعيناه لا تحيدان عن عينيها ثم قال:
_لقد فهمتِ سؤالي بطريقة معكوسة، أعني لِمَ الكتف الأخرى مُغطاة يُسْر؟
ابتسمت بِرِقة ثم قالت بِحنان:
_لقد اختارته سيلا فلم أقو على الرفض.
تظاهر بالأسف ثم قال:
_لقد اعتقدت أنكِ تُحاولين إغوائي، لكن ها أنتِ تُلقنين غروري ضربة قاسية!
أحاطت عنقه بِذراعيها ثم تساءلت بدلال:
_وهل أحتاج إلى إغواءك ثائر؟
تعالت ضحكاته المُستمتعة ثم هتف من بينها:
_لا أمل بكِ على الإطلاق!
بادلته ضحكاته ثم قالت بِزهو:
_أنت تعلم أنني أصبحت وقحة للغاية، فلا تحاول إصابتي بالخجل، سوف تتعب!
ضَم رأسها إلى صدره للحظات في صمت ثم عاد مُحدقًا بِعينيها قائلًا:
_وأنا أعشق وقاحتك هذه ولا أقبل منك تجاهي أي خجل، فلتجاريني إن استطعتِ!
تراجعت إلى الخلف مُبتسِمة بزهو ثم سألته باهتمام:
_هل تَمَّت الصفقة؟
جلس على فراش طفلته جاذبًا إياها لتجلس إلى جواره، ثم أجابها:
_لايزال هناك اجتماعًا آخر  كي نتفق على كل التفاصيل.
ثم أردف بِحذر:
_بالمناسبة، سيعود باسل من السفر.
زَفَرت ببطء والتزمت الصمت المتفكر ثم سألته بِقلق:
_أتعتقد أنه سيُثير المشاكل عندما يرى فيروز؟
شَرَد قليلًا ثم قال:
_بالتأكيد!
ونظر إليها قائلًا بِنبرة مُطمئنة:
_لكن لا تقلقي، أنا سأكون معها ولن أدعه يُزعِجها.
ثم أردف بابتسامة:
_كما أنها أصبحت شرِسة بعض الشيء، فلا تخافي عليها.
حدَّقت به بامتنان ثم قالت:
_أنا لا أخاف ثائر، أي من تحوطهم بِعنايتك لا يجب عليهم الخوف!
أطلق زفيرًا حارًا ثم قال بِخفوت:
_يا إلهي! أشعر أنني أريد اصطحابك معي خلال كل خطوة أقوم بها، أرغب بوجودك أينما ذهبت.
ابتسمت بِعِشق فقال لها بِرجاء:
_ألا تفكرين في العمل معي؟ لدينا الآن فيروز، وباستطاعتي إقناع سُهَيلة بأن تعمل بالشركة، باستطاعتي إقناع تميم نفسه إن أحببتِ.
شَبَّكت أصابعها بأصابعه ثم سألته:
_أتعني أنك ستجمع كل من يهمونني حولك كي أظل أنا حولك؟
رَفَع ذقنها بأنامله ثم مر بسبابته على شق شفتها السفلي هامسًا:
_لو كان لي سُلطة على جيوش لَسَيَّرتها من أجلك يُسْر!
أسدلت أهدابها مُستسلِمة لِحالة هيام أصبح يُسبِغها عليها بِكرم بالغ، لكنها فتحت عينيها عندما قال بِمرح:
_لكنني لن أستطيع التركيز في العمل حينها، لِذا تراجعت عن عرضي!
وقبل أن ترد دلفت سيلا قائلة بهدوء:
_لقد أحضرت الكيس أبي!
أخذ منها الكيس زافرًا بخيبة وهَمَّ بمساعدتها حينما لاحظ هذا الحزن على وجهها، وبقلق سألها:
_لِمَ غزالتي عابسة بهذا الشكل؟! لتوك كنتِ تضحكين!
والطفلة كانت كمن ينتظر هذا السؤال، فاندفعت بكل حنقها تهتف:
_حلا صديقتي مريضة للغاية، أتعلم أن والديها أحضرا لها أخًا صغيرًا؟! لماذا لا يكتفيان بها؟! ها هو قد تسبب في مرضها و...
انعقد حاجباه بدهشة، وعلى الفور قاطعها قائلًا:
_سيلا! لا يمرض أحد بسبب إخوته حبيبتي، الأخ عون دائم ووجوده ضروري، الجميع يحبون أن يُرزقوا بإخوة.
ثم حمحم وانتهز الفرصة ليقول بكلمات مترقبة:
_ربما.. إن صار لديكِ أخًا ستشعرين بسعادة لا مثيل لها، ستشاركينه ألعابك ورسوماتك..
وهنا بتر عبارته مذعورًا عندما انهمرت الدمعات من عيني الصغيرة!
وبينما تسمرت يُسْر مكانها بذهول اجتذب هو الطفلة إلى أحضانه يربت عليها بخوف قائلًا بكلمات متسارعة:
_سيلا! لا تبكي حبيبتي! اهدئي وسنتحدث فيما بعد!
لكنها رَفَعت رأسها إليه متسائلة ببراءة من بين شهقاتها:
_ألا تحبانني بما يكفي؟
انحبست الكلمات في حلقه فازدرد لعابه ثم هتف باستنكار:
_ماذا تقولين سيلا؟! بالطبع نحبك، لا نحب أحدًا بقدرك.
وببراءة أكثر سألته:
_لماذا تريدان طفلًا آخر إذن؟! ألأنني أثرت الفوضى هنا؟! لن أفعل مُجددًا!
وانخرطت في بكاء أعلى دبَّ الذعر بقلبه وبقلب يُسْر التي لم تدرِ _للمرة الأولى_ ما تفعل!
_توقفي عن البكاء سيلا! ما رأيك لو خرجنا ثلاثتنا الآن؟! سنذهب إلى النادي ونتناول طعامنا هناك، هل أنتِ موافقة؟!
وبعد دقيقة كاملة تراجعت الطفلة لتخرج من الغرفة بأكملها دون رد متجهة إلى جدتها بالأسفل، فالتفت هو على الفور إلى تلك الصامتة منذ البداية ليجد ملامحها تعبر عن شعورها..
ولا يدري ماذا يفعل.. ولا يعلم من يسترضي!
وإلى صدره ضمها مربتًا على رأسها، ليقول بعد قليل بنبرة معتذرة:
_يُسْر لا تنزعجي! سأحاول تهيئتها من الآن وصاعدًا، وسأستشير أحد الأخصائيين، وحينما نتأكد من تقبلها سيكون لدينا العديد من الأطفال، ينتمون إلينا وحدنا.
وأخيرًا عثرت على صوتها، لكنه كان متقطعًا، مبحوحًا، لترد قائلة:
_أنت مُحق ثائر، ينبغي أن نراعي حالتها النفسية أولًا.
وأحاط وجهها بكفيه لينظر بداخل عتمة عينيها، وبحزم، وبصدق، وبحب قال:
_ثقي أنني أتلهف كالمجنون لطفلي منكِ يُسْر، لا أطيق صبرًا حتى أحصل على تلك العطية!
وابتسمت بافتعال تخفي بعض الندم الذي لم يستطع رؤيته، ثم تمتمت عن وجوب ذهابها إلى غرفتهما لترتدي ملابسها، ليبقى هو مكانه..
يحتل الحزن قلبه..
يشعر بالعجز بين خوفه على طفلته وحبه لزوجته..
يشعر بالاشتياق لطفل يحمل اسمه من حبيبته!
لكن.. ألم يتخذ الصبر منهجًا دائمًا؟!
لِمَ لا ينجح في الحصول عليه في هذا الأمر؟!
أهو أناني لأنه إن أنجب طفلًا يتمناه ربما سيضر بابنته؟!
أم هو أناني لأنه ينبغي عليه أن يجدد طلبه بالانتظار؟!
وما هي الطريقة المُثلى التي ستمكنه من حل هذه المُعضلة؟!
**********
أمام صالة الوصول يقف باحثًا بعينيه عن صديقه مُحاولًا الهرب من أفكار تغزو عقله بإصرار..
لقد هرِب منذ شهر إلى والديه رغبة في تخطي الصدمة التي تعرض لها بسبب استسلامه لقلبه للمرة الأولى لِيدرك أنه قد أخطأ حينما تنازل عن أحد أهم مبادئه..
وصدمة أخرى كانت من نصيب والديه حينما أخبرهما بتراجعه عن قرار الزواج، عاتبه والده بكلمات مُبطنة، وعاقبته أمه بأفعال قاسية!
وحتى يخفف من وطأة الأمر أكد عليهما أنه صار لا يحبها!
كاذب هو ويعلم ذلك؛
لكنه يعتقد أنه إن واظب على ترديد الأمر بِلِسانه سيصير حقيقيًا..
سينسى كل ما حدث؛
سينسى عينين بلون الفيروز اقتحمتا حياته و..
"توقف يا أحمق، لقد نجحنا لشهر في نسيانها، أستنتكِس الآن؟!"
زَفَر بِغضب ثم رَسَم ابتسامة مبالغ بها وهو يلمح زيدان قادمًا تجاهه فأقبل عليه مُحييًا إياه بِحرارة..
_لقد اكتسبت بعض الوزن يا رجل!
قالها باسل بِدهشة فَعَبَس زيدان هاتفًا:
_أتعني أنني لم أصبح جذابًا بما يكفي؟!
ابتسم باسل بِمكر ثم سأله:
_وفيم تريد الجاذبية؟ ألم تتزوج وانتهينا؟! وهل تعلم رَغَد أن زوجها العزيز يريد أن يظل جذابًا؟
تأفف زيدان ثم هتف بحنق:
_لا تبدأ باسل! فأنا أعاني غضبها هذه الأيام بما يكفي، خاصة مع إصرار ثائر على تلك الصفقة.
عقد حاجبية بدهشة وسأله أثناء تقدمها تجاه سيارة زيدان:
_أية صفقة؟
فتح زيدان الصندوق الخلفي لسيارته ثم أخذ يضع فيه الحقيبة معه قائلًا باقتضاب:
_مع شركة حورس.
اتسعت عينا باسل بِقلق مُفتعل مُعَلِّقًا:
_يا إلهي! لا تخبرني أن السيدة نجلاء هي من....
أومأ زيدان إيجابًا ثم قاطعه مُعقبًا وهو يشير بكفيه بجوار رأسه:
_ورَغَد تغار كالمجانين!
ضحك باسل بِمرح وأغلق باب الصندوق الخلفي قائلًا بِمكر:
_ألم تُخبرها بألا تقلق لأنك لست الهدف في الأساس؟!
لم يرد زيدان واكتفى بابتسامة واسعة وهو يتجه إلى مقعد القيادة، وعندما استقل باسل المقعد الجانبي سأله بِتوجس:
_أتتعمد إصابتها بالغيرة عبثًا؟!
ضحك زيدان وهو يبدأ القيادة قائلًا بزهو:
_أنت تعلم، الرجل يحتاج من حين لآخر أن يشعر بغيرة زوجته عليه.
نظر له باسل بامتعاض ثم هتف بدهشة:
_لِتوك تزوجت يا رجل وتُجلب المشاكل على رأسك دون داعِ؟
أهداه زيدان نظرة جانبية ثم قال بِمكر:
_على ذِكر المشاكل، أرجو أن تلتزم الهدوء والصبر باسل، فأنت لا تعلم ماذا ينتظرك، وأنا_بلا ضغينة_ سعيد من أجلك للغاية!
نظر له باسل بتساؤل فقال زيدان بِشماتة واضحة:
_ سأخبرك بكل تفاصيل العمل خلال الطريق، لأن ثائر الجوهري يتوعد لك بأشد العذاب، هو حتى الآن لم ينس أنك سافرت فجأة دون إخباره.
اعتدل باسل في مقعده ونظر أمامه صامتًا فتابع زيدان:
_لنكن صادقين باسل، لم يكن من المنطقي أن تهرب بعد مشكلتك مع فير....
قاطعه باسل بِحِدة وهو يلتفت إليه هاتفًا:
_زيدان، لا أود سماع هذا الاسم مرة ثانية، أنا نسيت تلك الفتاة وكل ما يتعلق بها ولن....
تعالت ضحكات زيدان فَبَتَر باسل حديثه مُتسائلًا بِغيظ:
_علام تضحك؟ لِمَ هذه السعادة؟!
عندما استطاع زيدان التوقف عن الضحك أخيرًا قال بِنبرة ماكرة كثيرًا:
_من أجلك باسل، سعيد من أجلك، وأعتقد أنني سأتقدم باقتراح لإمداد الشركة بالكثير من المُسلِّيات خلال الأيام القادمة، يبدو أننا سنمرح كثيرًا!
ظل باسل رامقًا إياه بِعدم فهم لكن زيدان تابع بسرور غير مبرر:
_منذ زمن لم أشعر بهذا الاستمتاع، أكاد أراه على مرمى البصر!
***** نهاية الفصل الثالث والعشرين*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 😍😍

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن