٧_الفصل السابع (الجولة الأولى)

5.1K 199 29
                                    

"هل ستعودين إلى القصر رِهام؟"
ألقت ليلى سؤالها على ابنتها التي تستعد للخروج، فالتفتت لها بإرهاق واضح مُجيبة:
_لا أمي، سوف أقابل إحدى صديقاتي.
حدَّقت أمها في عينيها بضيق ثم قالت:
_رِهام، أنا لا يعجبني وضعك على الإطلاق، هذا الصدع بينك وبين زوجك يجب رأبه بأسرع وقت.
اعتلت الحسرة نظرة رِهام وهي ترد على أمها بصوت خفيض، مُتحسر:
_اطمئني أمي! لقد انتصر ثائر، والآن لم يعُد بِوسعي سوى التسليم، يبدو أنني لن أعيش يومًا سعيدة.
زَفَرت أمها بحُزن وهي تقترب من ابنتها قائلة بحنان:
_لِمَ تقولين ذلك رِهام؟ ثائر رجل جيد وكان دومًا يُحبك ويحاول إسعادك و...
انتفضت رِهام مُقاطِعة أمها صارِخة:
_أكرهه أمي، أكرهه كما لم أكره شخصًا بحياتي، ربما أردت رؤيته مذلولًا حينما آخذ ابنته منه، لكنه للأسف انتصر.
صمتت للحظات تسمح لدمعاتها بالنزول ثم تابعت بحسرة:
_والآن سيتسبب في تدمير الانسان الوحيد الذي تمنيته.
حدَّقت ليلى في وجه ابنتها والدهشة تصرخ بملامحها قبل أن تسأله بتردد:
_ما هذا الهذيان؟!
هزَّت رِهام رأسها نفيًا وهي تصيح بهياج:
_لا أهذي أمي، أنا لا أهذي، لقد طلبت الطلاق مِرارًا لكن أبي من رفض، أجبرني كل مرة أن أعود إليه، والآن حانت النهاية، سأعيش مع من أكره من أجل إنقاذ من أحب.
فغِرت ليلى فاها دهشة بينما لم يبد على رِهام أي اهتمام بالمصيبة التي هتفت بها حالًا، ولم تنتبه إحداهما إلى رَغَد التي دخَلت لتوها إلى البهو قائلة بازدراء:
_أنتِ تتعمدين صياغة أمرًا في غاية النذالة بطريقة نبيلة، أليس كذلك؟!
التفتت رِهام إليها هاتفة بحنق:
_رَغَد لو سمحتِ....
لتقاطعها رَغَد بقوة صائحة:
_لو سمحتِ أنتِ اصمتي! وتوقفي عن الدفاع عن حبيبك السارق!
أغمضت رِهام عينيها بقهر وانحدرت دمعاتها أكثر بينما نقلت ليلى أبصارها بين ابنتيها بذهول ثم تساءلت بخفوت:
_عن أي حبيب وأي سرقة تتحدثان؟ ما الذي يحدث؟
هنا ابتسمت رَغَد بسخرية ترد على أمها وهي لا تحيد بعينيها المُشمئزة عن أختها:
_للأسف يا أمي، للأسف ابنتك على علاقة بآخر، نفس الشخص الذي تركته منذ سنوات وهرعت إلى ثائر بمجرد أن أولاها نظرة، والآن ستترك ثائر لتهرع إلى ذلك اللص.
شحب وجه ليلى وهي تنتظر نفيًا أو إنكارًا من ابنتها الكبرى، لكنها للأسف انتظرت كثيرًا فهتفت بها:
_رِهام! هل ما تقوله أختك صحيح؟
تعالت شهقات رِهام الباكية فصاحت أمها بصوت أعلى:
_رِهام تحدثي! هل أنتِ تخونين زوجك؟
ألقت رِهام حقيبتها أرضًا وهي تصرخ بِحِقد:
_لم أحبه! لم أحب ثائر مُطلقًا، لم أحب سوى رمزي!
لكن رَغَد وقفت أمامها تهتف بها بصرامة:
_كفى كذبًا رِهام! تستطيعين التظاهر بدور المظلومة أمام الجميع كما شئتِ، تستطيعين تقمص دور الضحية كما شئتِ، لكن ليس هنا، ليس أمامنا، فأنا وأمك كنا حاضرتين منذ ستة أعوام.
أخفتت رَغَد نبرة صوتها وهي تتابع مُتسائلة:
_ألازلتِ تتذكرين ما حدث ذلك الوقت يا رِهام أم أنكِ اخترتِ تناسي ذلك الجزء؟
أغمضت رِهام عينيها وهي تُدافِع عن نفسها بِضعف:
_أنا.....
قاطعتها رَغَد على الفور صارخة:
_أنت كدتِ تموتين فرحًا عندما طلب ثائر الزواج منك، وأنا لاأزال أتذكر ذلك اليوم جيدًا، لأنني عندئذِ فقط شعرت بالذهول منكِ، شعرت أنني ربما لا أعرفك قدر المعرفة!
وتابعت سِرًا:
"وربما لأنه يوم فارق في حياتي أنا أيضًا!"
منذ ستة سنوات:
حدَّقت رَغَد بدهشة في رِهام وهي تُنهي مكالمتها والأخيرة تُطلِق ضحكات رقيقة تشُع سعادةً فابتسمت بدورها مُشاركة أختها فرحتها، وسألتها بفضول:
_لِمَ كل هذه السعادة رِهام؟ مع من كنتِ تتحدثين؟
التفتت إليها رِهام قائلة بسرور:
_إنه ثائر، سيزورنا اليوم أيضًا، مع عائلته.
عقدت رَغَد حاجبيها بدهشة رغم ابتسامتها قائلة:
_لا أصدق أن حالتك السعيدة مؤخرًا بسببه، أنتِ لم تريه سِوى بضعة مرات مع أبي!
هامت عينا رِهام بشرود وهي تتذكر هيئة ثائر هاتفة:
_أنتِ لم تريه، إنه ساحر رَغَد، مُهذَّب، وسيم، لبِق، رزين، متحفظ كثيرًا مع النساء، ربما جاد بعض الشيء لكنه مختلف، ليس مثل مُعظم الشباب، أشعر أمامه بانبهار غير عادي.
هزَّت رَغَد كتفيها ثم عقَّبت بهدوء:
_إنها مواصفات جيدة بالطبع، لكنني لا أعتقد أن الانبهار كافي للزواج.
نظرت لها رِهام باستغراب ثم ردت بتأكيد:
_إنه جيد بما يكفي رَغَد.
تساءلت أختها باستغراب مماثل:
_وبِخلاف الانبهار، هل تشعرين تجاه بأية مشاعر؟ الحب.. أو الإعجاب به دون صفاته الظاهرية؟
ابتسمت رِهام بسخرية ثم علَّقت:
_وهل تعتقدين أن من الصعوبة أن أقع في حبه؟! أنتِ لا تُدركين كم أنه حُلمًا للعديد من الفتيات، لقد رأيت بنفسي نظرات الإعجاب المُوجهة إليه من بعض الموظفات بالشركة، سأقع في حبه في خلال أيام.
انمحت ابتسامة رَغَد على الفور وهي ترمق أختها بدهشة مُتسائلة باستنكار:
_هل ستتزوجين رجلًا من أجل الانتصار على بعض الفتيات؟ أي تفاهة هذه؟!
وتابعت بسرعة مُستدرِكة:
_ثم أخبريني، أين ذلك الشاب الذي قلتِ أنكِ ستتزوجين منه ما إن تتحسن أحواله؟
بان الرفض مُقترنًا ببعض الألم على وجه رِهام وهي ترد بلهجة متوترة، متحسرة بعض الشيء:
_انتهينا رَغَد وانتهت قصتنا، هو غير مُناسب لي على الإطلاق، ربما يجب عليه الارتباط ممن تكافئه ماديًا واجتماعيًا.
ظلت رَغَد تنظر إلى أختها بتوجس وهي تتذكر سعادتها المماثلة من قبل عندما اعترفت لها أن زميلها يريد الزواج منها أيضًا، وفجأة سألتها وهي تتمنى إجابة نافية:
_رِهام! هل انفصلتِ عن زميلك قبل ظهور ثائر بحياتك أم بعده؟
وعندما أشاحت رِهام بوجهها بعيدًا بِحَرَج ارتفع حاجبا رَغَد في دهشة ثم قالت:
_لا أتخيل أنكِ تُفكرين بهذه الطريقة! هل تخليتِ عنه بعد عامين من أجل آخر؟ أتذكر جيدًا أنكِ كنتِ تتمنين أن يبادلك حُبك!
هنا عادت رِهام تنظر إلى رَغَد على الفور، لكن بنزق واضح:
_توقفي عن نظرتك الحالمية لكل الأمور، الحب إن لم يكن بين طرفين متكافئين يصبح تعذيبًا رَغَد، لِذا فثائر هو الأنسب لي من جميع الجهات!
تسمرت رَغَد أمام أختها وهي تستوعب الموقف كاملًا؛
إذن فرِهام لم تكن مثلما اعتقدت دائمًا..
ربما هي لم تحب زميلها؛
وربما لن تحب هذا الذي ستتزوج به؛
وربما لن تحب مُطلقًا سوى نفسها!
وفي نفس الليلة، عادت من بيت صديقتها بعد أن ذهبت إليها للحصول على بعض المذكرات وهي تدعو ألا يصل الضيوف قبلها، وصلت إلى مدخل فيلا والدها وقبل أن تدق الجرس صدحت العبارة من خلفها:
_انتظري لو سمحتِ!
والتفتت لتقع عيناها على شاب وسيم يبدو المرح في عينيه واضحًا، وبعض التعجُّل؛
قفز برشاقة صاعدًا الدرجات القليلة حتى توقف أمامها بابتسامة واسعة؛
إذن فخاطب أختها قد جاء مُتأخرًا أيضًا على ما يبدو..
لكن بمفرده!
_مرحبًا، بالتأكيد أنتِ رَغَد.
ابتسمت بتهذيب وهي تومىء برأسها إيجابًا مُرَحٍّبَة:
_أهلا بك، أنت ثائر أليس كذلك؟!
ضحك بصخب وهو يُجيبها نافيًا:
_لا، ألم تتعرفي خاطب أختك حتى الآن؟ كلهم بالداخل لكنني وصلت مُتأخرًا وربما سيقتلني أبي!
نظرت له بتساؤل فتابع عابثًا:
_أنتِ شقيقة العروس، أليس كذلك؟! لقد حدثني فريد بك عنكِ كثيرًا.
وعندما نظرت له بعدم فهم أردف بنفس الابتسامة الرائعة:
_أنا زيدان الجوهري، شقيق ثائر، تستطيعين القول بأنني العنصر الأكثر مرحًا بهذه العائلة الصارمة!
أفلتت ضحكة مستمتعة منها فأردف متظاهرًا بالرجاء والخوف:
_أرجو أن تخبريهم أننا نثرثر هنا منذ نصف الساعة على الأقل، حتى لا أتلقى توبيخًا من أبي أو ثائر أمامكم جميعًا!
تظاهرت بالعبوس لتقول باعتراض:
_لكنني لست ثرثارة!
ورده جاء تلقائيًا، سريعًا:
_لا توجد فتاة ليست ثرثارة!
ولما بدأ بمشاكستها بِمرح تعالت دقات قلبها في فرحة غير مفهومة؛
لِتعلَق منذ تلك الليلة في حب من طرف واحد!
حب يراه الجميع واضحًا كنور الشمس إلا صاحبه!
صاحِبه الذي لا يراها أبعد من شقيقة!
**********
"إذن.. تزوجيني!"
والكلمة ترددت في عقلِها كصدى صوت يأبى التوقف، لكنها اعتقدت أن ذهنها ربما زاد تشوشه قليلًا!
ضيقت عينيها باستغراب مُعَلِّقَة بهدوء:
_عفوًا؟!
وكأنه يعرِض الزواج على كل من تقابله فلا يجد في الأمر ما يُثير الاهتمام، هز كتفيه بلا مبالاة خافيًا انفعالاته التي تظهر تمردًا عليه للمرة الأولى، قائلًا:
_لقد سمعتني، إن أردتِ إنقاذ ما تبقى قبل انتشار الفضائح، تزوجيني!
عقدت حاجبيها بدهشة هاتفة بنفاد صبر:
_هل تسخر مني ثائر بك؟ أتستمتع بإعطائي أملًا زائفًا ثم تسلبني إياه؟!
مط شِفتيه وهو يهز رأسه نفيًا ثم قال بهدوء مُستفز:
_أنا لا أجد فائدة من السخرية منكِ آنسة يُسْر، أنتِ لتوك أخبرتني باستعدادك التام للقيام بأي شيء كي لا أتخذ إجراءات رسمية ضد ابن عمك، وأنا أخبرك الآن أن الطريقة الوحيدة التي ستجعلني أعدل عن قراري بتصعيد الأمر هو الزواج منكِ.
حدَّقت في عينيه بجرأة لم يمتلكها الكثير أمامه، وتساءلت باهتمام:
_هل أنت أبله؟!
اتسعت عيناه فجأة بغضب وقد بدأ يفقد أعصابه هاتفًا بنبرة تُجمد الدماء في الشرايين:
_لا تتواقحي يا فتاة كي لا.....
إلا شرايينها!
قاطعته بهتاف مماثل وجابهته بنظرات قوية لا تهتز:
_لا تتواقح أنت ولا تتجاوز حدودك معي! عن أي زواج تتحدث؟! هل تراني مجنونة كي أتزوج من رجل مثلك لم أكن أعرفه قبل أيام؟
ابتسم بسُخرية مُشوبة بازدراء واضح وهو يرد على سؤالها الاستنكاري:
_بل أراكِ مجنونة بما يكفي كي تُقبلين على الزواج من حقير مثل ابن عمك عرفتِه طوال عمرك! حقير سرق من المكان الذي يثق به أصحابه، وما خفي كان أعظم!
ومثلما ابتسم ابتسمت أيضًا، لكن ببرود، وعندما كتفت ذراعيها بتحدي انحدرت عيناه إلى شِفتيها لتعبر لمحة دهشة عينيه وهو يتساءل بداخله..
"هل شفتها السفلى مشقوقة طوليًا؟!!"
ازدرد لعابه وهو يحاول الفكاك من أسر النظر إليها.. فلا يستطيع!
_أتعلم؟! ربما أنت على حق، رمزي يجب أن يُعاقَب كما يستحق، فليحترق في الجحيم!
أجفل وهو يعود إلى قتامة عينيها منتظرًا توضيحًا فمنحته إياه وهي تستأنِف:
_أوتعلم أيضًا؟!
والابتسامة اتسعت أكثر؛
والشِّق ظَهَر أكثر؛
وحلقُه جَفَّ أكثر؛
وأنفاسه ثقلت أكثر؛
ثم أردفت هي بخفوت، وبِكل تشفِ:
_فلتحترق أنت في نفس الجحيم معه!
وبكل هدوء استدارت بجسدها مُغادِرة غرفة مكتبه، بينما يخرج هو بالتدريج من دوامة انجذابه الغريبة ليستوعب كلماتها الأخيرة...!
**********
"ماذا فعلت أنت؟!"
هتف بها تميم أمام رمزي الذي يتضح الخزي عليه بقوة بينما تهرَّب بعينيه منه فأعاد تميم سؤاله بغضب:
_تحدَّث رمزي! ماذا فعلت؟
رد رمزي بنزق:
_ما سمعت تميم، لقد أنهيت خِطبتي مع يُسْر.
جز تميم على أسنانه وهو يمعن النظر به متسائلًا بحنق:
_ألهذا لم يتحمل أبوك؟ ألهذا وصل إلى هكذا حالة؟
أومأ رمزي برأسه مُجيبًا باقتضاب:
_نعم.
وعندما انتظر تميم إيضاحًا استدرك بتوتر:
_أنت تعلم أنه كان يتمنى تزويجي من يُسْر منذ سنوات، لِهذا غضِب مني.
تخصَّر تميم وهو يُحدِّق به بتدقيق مُتسائلًا:
_ولِمَ أنهيت خطبتكما الآن بالذات رمزي؟
وبتوتر أكبر أجاب رمزي وهو يخفض رأسه مُتظاهِرًا بالتدقيق في حِذائه:
_لم نتفق، هذا شائع، لم يحب أحدنا الآخر.
لاحقه تميم بنظراته بالرغم من تهربه الواضح منه مُتسائلًا باستنكار:
_ألم تُدرِك هذا سوى الآن؟ قبل أسابيع فقط من الزفاف؟
رفع رمزي رأسه إليه بِحدة هاتِفًا:
_ماذا تعني تميم؟
ضغط تميم على كل حرف وهو يتكلم ببطء قائلًا:
_أعني أنك تُخفي شيئًا ما يا رمزي، لقد كنت تعلم منذ البداية بأن يُسْر لم تحبك وقد نصحتك كثيرًا بأن تنهي هذه الخطبة، لكنك لم تجد مانعًا من اتخاذها كوسيلة لنسيان أخرى، لِمَ الآن بالتحديد استيقظ ضميرك؟
أشاح رمزي بوجهه بعيدًا شاعرًا بأنه قد حُشِر في الزاوية ولا يجد منفذ، لكن تميم تابع بازدراء:
_أتدري شيئًا؟! أنت فعلًا لا تستحقها، حمدًا لله أنها تخلصت منك، أنت ضعيف الشخصية رمزي، وأناني لا تهتم سِوى بنفسك بينما هي تستحق من هو أفضل منك، والآن ندعو الله أن يسلم مُصطفى من هذه الوعكة وسيكون ما حدث مكسبًا للجميع!
وتابع ممتعضًا:
_يا مُدلل!
وبنفس التعبير تركه وعاد إلى حيث أفراد عائلته الذين يحاولون التعاطي مع هذه الأخبار دَفعَة واحدة.
**********
عادت يُسْر إلى المشفى لتجد حالة من القلق تعم وجوه أفراد عائلتها، انطلقت مُسرِعة إلى فيروز التي تقف بجوار أمها وزوجة عمها لتسألها بخوف:
_ماذا حدث فيروز؟ ماذا به عمي؟
انتحت فيروز بها جانبًا بعيدًا عن أسماع زوجة عمها المنهارة قائلة بخفوت:
_لقد أخبر رمزي الجميع أنه أنهى خطبتكما وأن هذا هو سبب وعكة عمك، وتشاجر والديكِ معه منذ قليل، بالكاد أبعده تميم من هنا قبل أن يُزيد الطين بلة.
لم يبد على يُسْر الاهتمام، فهذا كان سيحدث على أي حال، لكن فيروز استدركت بتوجس:
_والأطباء يقولون أن حالة عمك لا تُبَشِّر على الإطلاق، ولن ينتظروا أكثر من أجل إجراء الجراحة.
تعالت دقات قلب يُسْر في وجل وهي تهمس:
_يا إلهي!
ثم صَدَح النداء باسمها من خلفها:
_يُسْر!
استدارت لترى تميم شاحِب الوجه تمامًا وقال لها:
_مصطفى يريد أن يراكِ فورًا!
...
تمسكت يُسْر بكف عمها لِتُمسده بحنان ثم مالت عليه لتُقبله وهي تكبت دمعات لن تفيده الآن، لم تتخيل مُطلقًا أن ترى عمها مُصطفى القوي الصارم على هذه الحالة من الضعف.
لطالما كان لها أبًا ثانيًا، ولطالما غذاها بمبادِئه وعلمها وجوب أن تكون دومًا قوية ولا تسمح لأي إنسان بالتمكن منها، علَّمها ألا تُظهر أي لهفة أو ضعف أو احتياج، والآن يجب عليها التشبث بهذه المبادىء أمامه هو!
فتح عينيه ثم أدار رأسه إليها، وما إن رآها حتى حاول الحصول على شبه ابتسامة ولم ينجح، فضغط على كفها بأنامله لتبتسم هي رغمًا عنها قائلة بخفوت:
_ماذا فعلت أيها الرجل العجوز، أهكذا تتسبب في حالة ذعر عامة لنا؟
حافظ على ابتسامته وهو يتحدث بنبرة ضعيفة للغاية:
_المرء يحتاج كل فترة أن يتأكد من مقدار حب الناس له.
اقتربت يُسْر منه أكثر لتُحدِّق به بحنان قليلًا ما تُظهره قائلة:
_ألا تعلم عمي كم نُحبك؟
انمحت الابتسامة فورًا والألم يقتر من كلماته وهو يُجيبها:
_لم أعد أعلم شيء يا يُسْر، لم أعد أثق بأي شيء!
شاطرته ألمه بكل إخلاص بينما استدرك هو بشرود:
_لطالما تمنيت أن يرزقني الله بأطفال آخرين، لكن حالة ألفت الصحية لم تساعدنا، لم أعترض مُطلقًا على إرادة ربي، وقررنا الاكتفاء برمزي والاهتمام به وتنشئته صالحًا.
صمت للحظات بعدما أنهكه جهد التحدث بعض الشيء، ثم تابع:
_وكما يحدث في معظم الحالات نشأ مُدللًا بعض الشيء، مُندفعًا وعاطفيًا، وأنانيًا.
وانحدرت دمعة من جانب عينيه شاطرتها دمعاتها الأبية أيضًا بعدما تحررت أخيرًا، فاستأنف هو بصوت مبحوح:
_منذ سنوات أخبرنا أنه يُحب إحدى زميلاته، وعلى الرغم من سعادتي إلا أنني شعرت بقلق شديد عندما أدركت الفارق الواضح بينه وبينها، لكنني لم أرغب بصد أحلامه.
صمت ثانية والدمعة لاحقتها أخرى حتى تابع:
_ثم عاد ذات ليلة مُنهارًا، غاضبًا كما لم أره مُطلقًا، بعدما ضاعت منه حبيبته وتزوجت بآخر، لم أندهش فقد كنت أتوقع أن ذلك سيحدث على أي حال، وانتظرت بصبر تخلصه من حبها.
اجتذب أنفاسًا بدا أنها تُزيد في وَجَعه وهو يُكمِل:
_لكن انتظاري قد طال وأنا أجده يومًا بعد يوم يبكي على أطلالها، حتى نصحني أحد أصدقائي بتزويجه من أخرى كي ينسى حبيبته.
أغمضت عينيها وهي تتجاهل الإهانة التي يصرخ عقلها بتعرضها لها طوال تلك الفترة ثم قالت بخفوت:
_توقف عمي أرجوك، لا تُرهِق نفسك!
لكنه كان شاردًا في عالم آخر تمامًا فأردف بندم:
_عندئذٍ لم أفكر سوى بكِ أنتِ، لم أكن لأثق سوى بكِ أنتِ، رأيت في قوتك وتعقلك وصبرك بصيص النور الذي سيجتذب رمزي من كهفه المظلم.
وابتعد بنظراته عنها والخزي واضحًا في نبرته:
_أعلم يُسْر أنني أيضًا كنت أنانيًا، أعلم أنكِ لم تحبيه يومًا إلا كأخ، أعلم أنني استغليت جانب عزة النفس بكِ كي تتزوجي من رمزي وفاءًا لِما تعتبرينه أنتِ دَينًا.
ثم حدَّق بها مُتابِعًا بِصِدق:
_لكن وليشهد الله عليّ، أنا لم أعتبره دَينًا مُطلقًا، لكن هذا لم يمنعني من التشبث بكِ حتى أنقذ ابني.
عمَّ صمت قليل وهو يُحاول التقاط أنفاسه بصعوبه ثم ردد بأسف:
_والآن ربما لن أنجو من وعكتي هذه وسيقضي بضعة سنوات في السجون، أمه ستدفع الثمن، كمال سيدفع الثمن، تميم سيدفع الثمن، جميعكم ستدفعون الثمن لِذنب ارتكبته أنا.
أسرعت هي بلهجة قصدتها مُبَشِّرة:
_لا تقل هذا عمي! أنت ستخرج من المشفى وستصير صحتك أفضل، ونحن سنتوصل إلى طريقة كي نجعل صاحب الشركة يتنازل، ربما سأصطحب تميم ونذهب إليه كي...
قاطعها مُصطفى بنهي صارم قدر ما استطاع:
_لا يُسْر، لا تُقحِمي نفسك أو تميم في الأمر، لطالما حذرني من طريقة تربيتي له ولم أستمع، ولطالما اتهمني بالأنانية لِدفعي لكِ لإتمام الزواج من رمزي ولم أهتم، هو عقابي إذن وأنا راض.
ثم ربت بضعف على كفها وهو يرمُقها برجاء قائلًا:
_لقد طلبت أن أراكِ كي أتوسلك أن تسامحيني، وصدقيني ابنتي بمجرد أن علِمت بفعلته كنت سأنهي خطبتكما بنفسي!
وقبل أن تُجيب ارتفعت طرقات على باب الغرفة تبعها دخول الطبيب قائلًا بهدوء:
_يجب تجهيز المريض للعملية الجراحية.
نظرت يُسْر إليه قائلة بوعد صريح:
_سيشفيك الله عمي، ستصبح أفضل ولن يحدث شيء.
صمتت للحظة ثم همست بصدق:
_أعِدك!
**********
"حاولي تأجيل غضبك من رمزي قليلًا حتى نطمئن على مُصطفى يا عبلة!"
همس كمال بهذه العبارة وهو ينتحي بزوجته جانبًا بعيدًا عن أُلفت التي لا تتوقف عن البكاء منذ دخل زوجها إلى غرفة العمليات وتشاركها به سُهيلة بكل تفانِ..
_وما أدراك أنني غاضبة من ابن أخيك الغالي؟! أنا غاضبة على العامين الذين ضاعا من عمر ابنتي هباءًا!
نطقت بها عبلة بصوت مُنخفِض فَرَد كمال بصوت يشوبه الحرج قائلًا:
_نحن لا نعرف ما الذي حدث بينهما يا عبلة، ربما هو سوء تفاهم وسيـ....
قاطعته بعينين متسعتين وبنبرة قاطعة:
_اسمع كمال! يُسْر لن تتزوج برمزي حتى لو توسلنا، سأحترمه كابن أخيك طالما حييت، لكنه لن يكون مُطلقًا أكثر من ذلك! أي مُحاولة لِجمعهما سويًا ستكون فاشلة، وأنت تُدرِك هذا جيدًا!
ولم تكن لتعطه فرصة للمناقشة، فنظرتها الصارمة كانت كافية، والإصرار المُنبعِث من صوتها أخبره بانتهاء الأمر، وبأنها فعلًا على حق!
لقد كان يتجاهل صوتًا بداخله طالما حذره بأن ابنته لا تتفق على الإطلاق مع رمزي؛
وبأن رؤيتهما معًا تُمثل صورة شاذة تُرغِم الجميع على إغماض أعينهم.
والآن قد انتهى الأمر بالفعل قبل أن يبدأ،
أيجب عليه الندم على فشل ارتباطهما؟ أم على نشأة تلك القصة بالأصل؟
يعلم الله أنه لم يتحمس لِذلك إلا من أجل مُصطفى شقيقه الأكبر الذي دومًا ما ساعده ودعمه طوال العُمر..
لِمَ إذن يتسسل إليه الندم تجاه ابنته في هذه اللحظة؟
هل كان يُضحي بها؟ هل كان يغض النظر عازِمًا عن مرأى الرفض بعينيها؟
هل تصرَّف مصطفى بأنانية شاركه هو بها أيضًا؟!
**********
صف ثائر سيارته في باحة القصر الخارجية وهمَّ بالولوج إلى الداخل حينما انطلق صوتها الرقيق من خلفه مناديًا باسمه، توقف مكانه وجسده بأكمله يتخشب في ردة فعل مُشمئزة ترافقت بكل ما يخصها، ثم استدار  إليها لينظر إليها..
عيناه تجول عليها بتمهُّل وبأسف..
أسف على حاله؛
أسف على اختياره لها بالذات؛
أسف على حبه لها بالماضي؛
أسف على مُسامحته إياها؛
أسف على صبر ثم صبر ثم صبر حتى أعياه أسفه!
_ثائر!
واسمه منها أصبح فعلًا يكرهه، لم يُكلف نفسه عناء الرد وهي تستأنف:
_أرجوك ثائر، سأفعل كل ما تُريده مني.
وضع كفيه داخل جيبي بنطاله وهو يُعلِّق باقتضاب:
_والمُقابل؟
توسلته بعينيها البريئتين_ظاهريًا_ قائلة:
_اتركه!
والجمود كانت إجابته بينما دوره إخفاء النيران المُتقدة بداخله حينما تابعت هي بنفس التوسل:
_اترك رمزي يا ثائر، انتقم مني أنا كما تشاء لكن لا تؤذه!
حدَّق بها بامتعاض يمنع حسرته من الظهور علنًا أمامها هي على الأخص، ثم عقَّب بدهشة:
_أنتِ فعلًا امرأة قذرة، أتدركين ذلك؟!
تراجعت إلى الخلف بِرَهبة لكنه لم يهتم وهو يُتابع بِذهول قلما يشعر به:
_أتأتين إليّ وتطلبين مني بكل صفاقه ألا أؤذي حبيبك اللص؟ أتتبجحين بآخر وأنتِ _للأسف_ لازلتِ زوجتي؟
وحينما طال صمتها ولم تجد إجابة هدر بها فأجفلها:
_ما الذي يمنعني من إلقائه بالسجن الآن؟ ما الذي يمنعني من فضحه وفضحك أنتِ أيضًا؟ ما الذي يمنعني من القضاء عليكما معًا؟
انتفضت مرددة بدمعات غزيرة:
_أنا لم أفعل شيء، لم أخنك وأنت تعلم هذا جيدًا.
جزَّ على أسنانه بِغَضب وهو يهتف بها:
_اخرسي رِهام! اخرسي ولتعلمي أن ما يمنعني من صفعك الآن هو أنني لا أريد لقذارتك أن تعلق بيدي!
صاحت من بين دمعاتها:
_أنت لا تحبني وتعلم أنني لا أحبك، لِذا لا داع لأن نعذب بعضنا، سأفعل أي شيء ثائر ، سأفعل كل ما تطلبه لكن دع رمزي خارج خطة انتقامك.
وبمنتهى الهدوء عقَّب قائلًا:
_أنا فعلا لا أحبك رِهام، لقد توقفت عن ذلك منذ ثلاثة سنوات، حاولت مُعاملتك بالحُسنى لأنكِ أم طفلتي لكنكِ خسيسة لا تستحقين، كان يجب أن ألقيكِ خارجًا منذ تلك الليلة، لكنني من أجل سيلا وحدها تحملت بقائك تحت مُسمى زوجتي.
تغلَّبت على بكائها وهي تُخاطبه برجاء:
_سأتركها لك ثائر.
والحسرة بعينيه لم تكن من أجله هو فتابعت:
_سأتركها لك ولن أطالبك بها أبدًا، لكن لا تنتقم من رمزي!
والاشمئزاز بعينيه حتمًا كان مُوجهًا إليها هي، فأردفت:
_أنت انتصرت ثائر، طلقني وستظل ابنتك معك، لكن أعطني مقطع رمزي.
ارتفعت ضحكة عالية منه تسببت في ذعرها، وعندما أنهاها نظر إليه باستنكار متسائلًا بخفوت:
_وهل تظنينني ساذجًا يا رِهام؟ أعطيكِ المقطع ثم تبتزينني بعد ذلك وتسلبيني طفلتي؟
قالت بسرعة دونما اكتراث:
_أنا لا أريدها في الأصل.
مال جانبي شفتيه بخيبة أمل وهو يقول:
_أعلم أنكِ لا تريدينها، لكنكِ ستريدين رد الضربة لي بإيعاز من والدك، سترغبان بحرماني من طفلتي.
ثم مط شفتيه متابعًا بقسوته التي تخافها:
_لِذا ذلك المقطع انسيه تمامًا.
وأدار لها ظهره فَحدَّقت به بذعر وهي تتساءل هل ضاع أملها وهل سيُلقى حبيبها في السجن؟
هل ستُحرَم منه بعدما أوشكت على العودة إليه؟
لكنه صاح دون أن يلتفت إليها:
_أما عرضك الخاص بالطلاق سأفكر به وسأبلغك.
ثم نظر إليها بجانبي عينيه مُضيفًا بابتسامة صفراء:
_لا تأتِ إلى هذا القصر مرة أخرى، فقريبًا ستصل إليه من يتشرف بوجودها به!
عقدت حاجبيها بدهشة وهي لا تفهم كلماته، لكنها تراجعت إلى الخارج عندما اختفى عن عينيها.
أما هو فبمجرد أن دلف إلى جناحه قام باتصال كان قد أَجَّلُه لكن موعده الآن قد حلَّ...
وبصوته الهادىء بكلمات بسيطة أمر الطرف الآخر:
"أستاذ سامي، نفذ ما اتفقنا عليه في التو!"
**********
"أنتِ تمزحين! أليس كذلك؟"
ألقت فيروز هذا السؤال الذاهل على صديقتها بينما بقى فمها مفتوحًا، فزفرت يُسْر ثم ردت عليها بضيق:
_هل هناك مزاح في شيء كهذا؟
اتسعت عينا فيروز أيضًا وهي تحدثها بصوت خافت كي لا يسمعها أحد من المارين بحديقة المشفى:
_وإن لم يكن طلب رجل الزواج بكِ وهو لم يكن يعلم بوجودك بالأسبوع الماضي مزاحًا، فما يكون المزاح إذن؟!
نظرت لها يُسْر بغيظ، ثم رَدَّت باستهجان:
_وهل أخبرتك أنه وقع في غرامي منذ النظرة الأولى؟! إنه يعلم بحالة عمي ويعلم أنها ستسوء أكثر إذا دخل رمزي السجن ويستغل ذلك.
مطت فيروز شِفتيها وهي تُحدِّق بصديقتها باستنكار قائلة:
_ومع هذا كان يستطيع إلقاء رمزي بالسجن منذ اكتشف فعلته لكنه لم يفعل، وبدلًا من ذلك يُهدد ويطلب الزواج منكِ!
صمتت ثم أردفت بتفكير بعد برهة والابتسامة ترتسم على وجهها بالتدريج:
_ هناك شيئ غامض في هذه القصة، شيء أكثر شاعرية وحالمية، أنا لا أستسيغ اعتقادك! ربما يحب ذوات البشرة الشاحبة مثلًا!
قالتها عن اقتناع فعلًا فرمقتها يُسْر باستخفاف وهي تُحلل كلامها كاملًا؛
بالطبع كان يستطيع اتهام رمزي رسميًا منذ اليوم الأول؛
لقد رأت المقطع بنفسها ولن يستطيع أي محامي إيجاد ثغرة ما لإنقاذه؛
من الطبيعي أن يُقدمه إلى الشرطة على الفور..
لِمَ يُكلِّف نفسه عناء البحث والتهديد؟
ولِمَ يُكلِّف نفسه عرض الزواج عليها؟
بالطبع هناك سر ما!
علَّقت يُسْر بشرود:
_ ربما أنتِ مُحِقة، تُرى لِمَ يفعل ذلك؟
واجتذبتها ضحكة صديقتها الخافتة من شرودها قائلة بمكر:
_أعيدي النظر يا فتاة، ربما _بمعجزةٍ ما_ وقع في غرامك أنتِ تحديدًا ويتحجج كي يُسْرع الأمور، من المُحتمل أنه غير صبور، أو أنه لا يرى نساء كثيرًا فَظَّن أنكِ أجملهن!
وتمتمت بصوت بسموع:
_أعتقد أن حظه الذي أوقعه أمامك أسود كَلَون عينيكِ لِذا تآلف معِك سريعًا!
حدَّقت بها يُسْر بملل قائلة باستنكار:
_أتمزحين بالفعل في هذا الوقت فيروز؟! إنه رجل مستفز، لو رأيتيه لِما استطعتِ منع نفسك عن ضربه، لقد كنت أعاني وأنا أقف أمامه لأشرد فأتخيل نفسي ألكُمه على أنفه المُتعجرف!
وهذا الغِلّ المُقترن بالغيظ على ملامحها لم تره فيروز يومًا على صفحة وجهها الجامدة، هذا الانفعال الزائد بجميع خلجاتها لم تتطلع إليه قبلًا، لِذا فقد تمسكت بكفيها تضغط عليهما بحنان قائلة:
_اهدئي يُسْر، واستمعي لما قال عمك، من أخطأ يجب عليه تحمل خطأه.
زَفَرت يُسْر بألم وهي تنظر لفيروز مُرددة:
_لكن عمي ليس له ذنب فيروز، أنا بحياتي لم أره على هذه الحالة من الحسرة والندم، لقد صُدِم في ولده الوحيد، كما أن الضرر سيطالنا جميعًا لو تم سجن رمزي.
قرصتها فيروز من إحدى وجنتيها قائلة بنبرة مُطمئنة:
_عسى أن يخرج سالمًا وحينها سنجد حلًا.
"من منكما الآنسة يُسْر؟"
صدح السؤال بنبرة مهذبة بالقرب منهما، فوقفت الفتاتان بتتابع وهما ترمُقان الرجل الماثل أمامهما بتوجس، ثم استلمت يُسْر دفة الحديث قائلة بهدوء:
_أنا يُسْر.
ابتسم الرجل لها بتهذيب وهو يُشهِر بِطاقته الشخصية قائلًا:
_أستاذ سامي فتحي، مُحامي السيد ثائر الجوهري، هل أستطيع مُقابلة الأستاذ مصطفى رمزي أبو الفتوح؟
وما إن استمعت لاسمه حتى تخصرت والحِقد يعود إلى ملامحها ثم قالت بغيظ:
_ألم يُخبرك رب عملك أن عمي يتعرض الآن لإجراء عملية جراحية؟
زم الرجل شِفتيه بأسف مُرددًا:
_شفاه الله وعافاه، لا لم نعلم بذلك، لكنني_مع اعتذاري_مُضطر لإخبارك بأنني سأضطر لإبلاغ الشرطة ما لم يقوم السيد رمزي بتسليم نفسه طواعية.
ودون انتظار لأي رد أضاف بتهذيب:
_أستأذنكما!
تبِعته يُسْر بعينيها بصدمة وقلبها يرتجف بين أضلعها بينما هتفت فيروز شاهِقة:
_يا إلهي يُسْر، يبدو الموضوع جادًا!
نعم يبدو جادا؛ً
يبدو أن ذلك الرجل لم يكن يُهددها عبثا؛ً
ويبدو أنه يضغط الآن بكل قوته على نقطة ضعفها؛
وما كان منها إلا أن هتفت مجددًا بغيظ:
"منك لله يا رمزي!"
**********
"ألن تفعل شيئًا يا فريد؟"
نطقت ليلى هذا السؤال بألم وهي تنظر إلى زوجها الذي يجلس أمامها شارِدًا ولا يبدو عليه الاهتمام المتوقع بعدما سَرَدت عليه المُصيبة التي ستقع قريبًا.
ردَّ فريد بيأس وهو ينظر إليها عابسًا:
_ماذا تُريدينني أن أفعل ليلى؟
طلَّ الإصرار من عينيها وهي تُجيبه بنفس اليأس:
_أي شيء! تحدث مع ابنتك، حاول إصلاح الأمور بينها وبين ثائر.
زفر فريد ساخرًا ثم علَّق بصوت مُنخفض:
_وهل الأمر بهذه البساطة؟ هل تشاجرا سويًا على شيء مصروف البيت؟!
ثم هبَّ واقفًا فجأة وهو يهتف بضيق واضح:
_طوال الأعوام الماضية وابنتك تأتي إلينا غاضبة كل عدة أيام فأُجبِر ثائر على أن يأتي ليستعيدها بنفسه مُستغِلًا احترامه لي، ثم ارتباطه بابنته.
صمت قليلًا ثم تابع بغضب:
_لأعوام ليلى وابنتك ترفض التمسك بالقليل من العقل، ترفض النظر إلى المزايا التي تتمتع بها كزوجة لثائر الجوهري وتُصِر على البكاء حسرةً على ماضِ مزري!
ونظر إليها مُتسائلًا باستنكار:
_هل هناك امرأة عاقلة تتدلل لسنوات على رجل مثل زوجها؟!
ثم اقترب منها مُتابِعًا بنفس الاستنكار:
_أخبريني ليلى، هل أجبرها أحدنا على الزواج من ثائر؟
ولما هزَّت ليلى رأسها دامِعة العينين نافية، استأنف بغضب:
_أنا أتذكَّر جيدًا لهفتها عليه وقت أن طلب الزواج منها، أتذكَّر أنها حتى لم تطلب فترة خطبة كجميع الفتيات لأنها كادت تموت حماسًا للزواج منه.
ثم تابع بازدراء شديد:
_صحيح أنني لم أكن لأسمح لها بالزواج من ذلك المُعدم الذي كانت تحبه، لكنني لم أجبرها مُطلقًا على الزواج من ثائر.
توقف عن الكلام وهو يُشيح بوجهه بعيدًا ويضرِب قبضته في كفه الأخرى صائحًا بغيظ:
_والآن تحامقت وجُنت تمامًا وعرضت شراكتي معه للخطر!
ضيقت ليلى عينيها وهي تعقِد حاجبيها بِدهشة مُتسائلة:
_عن أي شراكة تتحدث يا فريد؟ أقول لك أن ابنتك....
قاطعها وهو يلتفت إليها صارِخًا:
_شراكتي مع ثائر يا ليلى، أتظنين أنه سيُمرر الأمر بدون رد اعتباره؟ لقد خانته ابنتك وسرقته، أتدركين حجم الكارثة التي أوقعتها ابنتك على رأسي؟
ثم وضع أصابِعه في شعره الأشيب الغزير مُكمِلًا بقهر:
_لقد كنت أحاول وبكل جهدي لسنوات أن أزيد من نسبة أسهمي بالشركة على الرغم من وقوف ثائر بالمرصاد لي، وقد كنت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك، كنت سأستطيع إقناع زيدان ببيع بعض أسهمه لي وهو بالأصل لا يبدى أي اهتمام بأمور الإدارة ويرغب بمعاندة ثائر بأي شكل، والآن تلك الخرقاء أفسدت كل ما كنت أحاول فعله!
وَقَفت ليلى مُقترِبة من زوجها وهي تُحدِّق به باستنكار هاتِفة:
_أهذا ما تفكر به فريد؟ أقول ابنتك خانت زوجها واتفقت مع ذلك النذل على السرقة، أقول لك أن ثائر يعلم الآن بفعلتهما ويستطيع فضحنا، أقول لك أنه على أقل تقدير لن يجعلنا نرى حفيدتنا مرة أخرى، وأنت تفكر في الأسهم والشراكة؟
صاح بها بِغِلّ أثار الخوف بقلبها:
_لِمَ تعتقدين أنني رفضت طلاقهما إذن؟! لقد أتتني ابنتك منذ ثلاثة سنوات مُصممة على الطلاق، وقتها هو_للمرة الأولى_ لم يُظهر أي اعتراض، بل بدى وكأنه يُريد ذلك أكثر منها لكنني تدخلت وأصلحت بينهما كي لا ينهار كل ما بنيته، كنت أعلم أن نقطة ضعفه الوحيدة هي ابنته وضغطت عليها قدر ما استطعت، والآن ذهب كل ذلك هباءًا، سيطلق ابنتك وسيمنع زيدان من بيع بعضًا من أسهمه لي، ولن تري حفيدتك مرة ثانية!
صمت لحظة ثم تابع صائحًا بامتعاض مُقترِن بالغيظ:
_حتى البلهاء الأخرى لم تستطع جذب زيدان إليها رغم مرور سنوات على معرفتها به.
وأردف بتحسُّر:
_ربما لو كان لديّ ولد لِما اضطررت للاعتماد على تلكما الخائبتين!
ولم يكن يُدرِك أن "البلهاء" استمعت إلى كل كلمة بمجرد أن وصلت من الخارج!
استمعت وتشبَّعت بالألم الذي تعايشت معه بكل سلام؛
تعلم أن أبيها يراها بلهاء؛
رِهام تراها بلهاء؛
باسل يراها بلهاء؛
لكن زيدان.. لا يراها في الأصل!
كم عام مرَّ على غرقها في دوامة عِشقها له؟
ستة أعوام!
ستة أعوام ذاقت خلالهم طعم معاملته لها كشقيقة؛
ستة أعوام ذاقت خلالهم مرارة حب من طرف واحد، طرف يقُص عليها كل تفاصيل حياته مُخبِرًا إياها أنها بالنسبة إليه جائزة حصل عليها في هذا السن!
ستة أعوام طُعِنت خلالهم بكل قسوة بينما ترسم على شِفتيها الابتسامة وهو يُخبرها أنه قابل أخرى!
يهتم بأخرى؛
يحب أخرى؛
تقدَّم لِخِطبة أخرى!
كان يحاول كثيرًا تقريبها منها قائلًا بكل فخر:
"هي حبيبتي وستكون زوجتي، وأنتِ بمثابة شقيقتي، لِذا أريد أن تُصبِحا صديقتين!"
لكنها لم تكن حَجَرًا..
لم تستطع التقارب معها؛
الفتاة لطيفة بالفعل، لكن ذلك أبعد كثيرًا من احتمالها..
لقد تحملت رؤية نظرات حبه إلى شيرين؛
تحملت همساته إليها وابتسامتها الخجولة؛
تحملت وتمزقت وصمَّت أذنيها عن صوت صراخ قلبها!
ثم انقلبت الأمور فجأة!
حادث لهما سويًا قبل زِفافهما بِشهر واحد..
خرَج هو منه بفُقدان حبيبة؛
وفقدان قلب؛
وعَرَج بإحدى ساقيه!
وعلى الفور نحَّت الحبيبة جانِبًا وتمسكت بمنصب الشقيقة الذي قَلَّدَها إياه؛
حاولت وحاولت وحاولت..
ومن جديد تحملت!
تحملت رثاءه لأخرى، حنينه لأخرى، حسرته على أخرى، واشتياقه لأخرى!
وبالتدريج تخلَّص من صدمته، لكنه تخلَّص معها من الكثير بزيدان القديم..
لم يعُد مرِحًا، لم يعُد يهتم بأي شيء كما كان، وابتدأت الشجارات بينه وبين شقيقه الذي فشل في انتزاعه من تلك الفجوة الزمنية التي ألقى بها نفسه رافضًا كل سُبُل العودة!
حتى عمله بدأ في الإهمال به؛
رويدًا رويدًا بدأ يتخلى عن مهامه الإدارية ويتعايش على أنه مجرد موظف في شركه يمتلك بها ما يقرُب من نصفها!
كثيرًا ما فكرت بالابتعاد؛
كثيرًا ما صاح بها عقلها أنها لا تستحق هذا العذاب؛
كثيرًا ما آلمتها كرامتها وهي ترى الجميع ينظر إلى ما داخل قلبها إلا هو!
وحتى الآن لا تجد وسيلة تُوازِن بها أمورها معه سوى التظاهر بأنها مجرد.. شقيقة!
تلك العِلاقة المُهددة بالانتهاء الآن بعد فعلة شقيقتها الشنعاء..
والكارثة الأكبر أن يقطع ثائر علاقتها مع سيلا!
لكن.. لِمَ حتى أبوها لا يرى بها أكثر من وسيلة لتحقيق أهدافه بالشرِكة؟!
لِمَ تكالبت كل الأمور عليها بذلك الشكل؟
لِمَ لا تجد راحة مؤقتة؟
وإلام تنتهي كل هذه المصائب؟!
**********
طمأن تميم الجميع بعدما لاحق الطبيب الذي أخبرهم للتو أن العملية الجراحية تمت بدون مُضاعفات حتى الآن، تنفسوا الصعداء وهم يعودون إلى مقاعدهم، حينما رَفَعت يُسْر رأسها إلى آخر الرواق متمتمة بقلق:
_يا إلهي!
والتمتمة لم تسمعها سوى فيروز التي نظرت هي الأخرى حيث اتجهت عينا يُسْر فوقعت عيناها على الرجل ضخم الجثة الذي يرتدي عباءة واسِعة فوق جِلبابه الفخم وتختفي جبهته أسفل عمامة تدور حول رأسه، لتشهق بِذعر:
_يا للمصيبة!
"مرحبًا تميم!"
التفت تميم إلى الخلف لتتسع عيناه بدهشة واراها سريعًا وهو يُصافح الرجل بترحيب قائلًا:
_مرحبًا حاج خليل، كيف حالك؟
ضغط الرجل عليه بكفه الضخمة وهو يرد بصوته القوي:
_أنا بخير، علِمت من أم فيروز بما حدث لابن عمك، شفاه الله وعافاه.
حمحم تميم ثم ابتسم بمَودة قائلًا:
_لم يكن هناك داعِ كي تتكلف عناء السفر يا حاج، هو سيكون بخير إن شاء الله.
عقد الرجل حاجبيه بضيق واضح قائلًا بنبرة لائمة:
_أنا بالأصل غاضب لأنني علِمت بالأمر مُصادفة، ألسنا أهل يا ولدي؟
ابتسم تميم بحرج وهو يرد عليه قائلًا:
_بالطبع حاج خليل، أشكرك كثيرًا.
تجاوزه الرجل وهو يتجه إلى تلك التي تقف بالخلف شاحِبة الوجه قليلًا صائحًا بخشونة:
_كيف حالِك فيروز؟
تمتمت فيروز بِصوت اتضح به الخوف:
_بـ..بخير عمي.
رمقها عمها بنظرة عاتبة قائلًا:
_ألا تأتين لتزورين عائلتك في البلد؟
تهربت بعينيها منه وهي تنظر إلى تميم الواقف خلفه تبحث عن دعم تحتاجه بِشدة هذه اللحظة ثم رددت بارتباك:
_أنا.. أنا لا أحصل على إجازات كثيرة، كما أنني لا أستطيع ترك أمي بمفردها في المنزل.
ولم يكن الرجل لينتظر أكثر وهو يهتف بها بنبرة صارمة:
_أريد التحدث معِك فيروز، تعالي معي!
اتسعت عيناها بِذعر شاركتها به صديقتها بينما ارتسم القلق على وجه تميم، إلا أن نظرة عمها الحاسِمة قبل أن يُوليها ظهره صوب الدرجات الرخامية لم تمنحها وقتًا إضافيًا للتفكير فتبعته بساقين مُرتجِفَتين إلى الأسفل.
...
وفي الأسفل:
اجتذبت فيروز ابتسامة منقوصة لم تستطع الحصول على سِواها وهي تتهرَّب من العينين الصارمتين..المُخيفتين، متسائلة:
_هل.. هل حدث شيئ ما عمي؟
صدح صوته _الذي برغم هدوئه_ آلم أسماعها مُتسائلًا:
_كم مر على خطبتك يا فيروز؟
تعالى مستوى القلق بخلجاتها وهي ترد بتقرير:
_ما يقرب من عام.
أتبعه سؤاله بآخر جعل قلبها يدق بوجل:
_وما الذي يؤخر زواجكما حتى الآن؟
كانت تضغط بأصابع يدها بداخل باطن كفها الأخرى حينما أكمل هو بنفس الصوت الهادىء، ذي النبرة المُخيفة:
_أنا أعلم أن خطيبك حالته المادية جيدة للغاية ولا يوجد ما يمنع من إتمام الزواج، لِمَ الانتظار كل هذا الوقت؟
أرجعت طرف وشاحها إلى الخلف وهي تحاول التغلب على اهتزاز صوتها مُجيبة إياه:
_نحن لا نريد التعجُّل، يجب علينا التأكد من تفاهُمنا سويًا كي لا تحدث مشاكل بيننا مُستقبلًا عمي.
صاح خليل فجأة غاضبًا فارتد جسدها إلى الخلف بِضعة خطوات:
_ما هذا الهراء يا ابنة مختار؟ أهذا ما تعلمتِه هنا؟ أهذا جزاء موافقتي على معيشتك بالحضر؟
صمت لا ينتظر إجابة ثم تابع بتحذير واضح:
_أم هل يفكر أحدكما في التراجع؟
وتوترها بدأ يُرسِل الغثيان إلى أمعائها وهي تُحدِّق أرضًا بإصرار مُعلِّقة:
_عمي نحن....
بترت عبارتها التي لا تدري لها تكملة وهو يقترب تلك الخطوات قائلًا بهدوء خطِر كعادته:
_لأنني لا أمانع مُطلقًا إن رغِب أحدكما في إنهاء الخِطبة، فحينها ستتزوجين من حمدي ابني على الفور.
أجفلت وهي ترفع رأسها بِحِدة والذعر يكتنف ملامحها هاتفة باعتراض:
_حمدي.. لكن حمدي....
هز الرجل كتفيه بلا اكتراث وهو يُقاطِعها:
_ أنتِ ابنة عمه وهو أولى بكِ من ذلك الغريب على أي حال.
وحينما ظلَّت على وضع نظراتها المُرتعِبة أردف بتدقيق:
_إذن، هل هناك أي تراجع؟
هنا وجدت نفسها تهز رأسها نفيًا رغمًا عنها وأنفاسها تعلو بتوتر، فشدد هو من نظراته الحادة لها قائلًا بخفوت:
_اسمعي فيروز جيدًا لأن كلامي التالي لن يتكرر.
صمت للحظات يُدرِس تأثير كلماته الواضح على وجهها الشاحِب ثم استأنف بنفس الخفوت:
_بعد أن يخرج ابن عم خطيبك من المشفى سأحدد موعد زواجكما، وسيتم في أقرب وقت، أنا مريض ولستُ مُتفرغًا كي أسافر كل شهر إلى هنا طالما أنتِ ترفضين السكن بِدار أعمامك حتى يحين موعد زواجك.
ثم أعطاها ابتسامة تمقُتها كثيرًا وهو يُتابِع:
_بلِّغي أهل خطيبك تمنياتي للمريض بالشفاء العاجل، وأرسلي تحياتي إلى والدتك!
ثم لملم عباءته مُتجهًا إلى سيارته الضخمة التي تنتظره أمام باب المشفى.
أما هي فقد ظلَّت مكانها مُتيبسة لا تقوى على التحرك أو الإتيان بأي ردة فعل لدقائق.
"فيروز!"
والهتاف باسمها جعلها تنطلق إلى أحضان صديقتها رأسا وهي تشهَق ببكاء مرير صارخة:
_إنه يدري بكل شيء يُسْر!
ربتت عليها يُسْر بحنان مُتسائلة:
_بِمَ يدري فيروز؟
رَفَعَت فيروز رأسها إلى صديقتها صائحة بِقَهر:
_يدري بأن خطبتي لتميم زائفة، يدري وسيزوجني من حمدي ابنه الذي يكبرني بثلاثة عشر عامًا ولديه زوجة و أطفال!
**********
بعد يومين:
وقفت يُسْر في غرفة استراحة السيدات بالمشفى تُحدِّق في صورتها المُنعكِسة بالمرآة ولا تراها..
تستعيد بِذهنها كل ما حدث هذه الفترة بهدوء كي تصل إلى حل..
بالأحرى حُلول!
سُهيلة عانت مع زوج مُدمِن عنيف لعام كامل دون أن يعلم أحد بذلك ثم  طُلِّقَت والآن تحاول إظهار صُمودًا مُفاجئًا أمام الجميع؛
تميم وفيروز علِقا في خِطبة مُزيفة من أجل إنقاذ صديقتها لكن الأمر الآن اتجه إلى مرحلة خطِرة لم تكن في حسبان أحدهما بِتدخُّل عمها القاسي مجددًا؛
تخلَّصت هي من زواجها برمزي باللحظة الأخيرة لكن بأكثر الطُرق إهانة وبعد أن سلَّمت به كأمر واقع بحياتها فتركها هو من أجل أخرى؛
رمزي الذي ظنَّت أنها تعرفه حق المعرفة فَصَدَمها ببشاعة، ليسرق ويخون من آمنوه؛
وعمها الذي أكد الأطباء على ضرورة الحفاظ على راحته النفسية وعدم تعرضه إلى ما يُزعجه كي لا تحدث له أية مُضاعفات، بينما الشرطة على وشك الظهور بأية لحظة كي تُلقي القبض على وحيده مُكلَّلًا بعار مدى الحياة ومُكلِّلًا الجميع معه بالمثل؛
ثم ذلك الــ.. ثائر!
الثائر الذي ظهر بحياتها منذ بضعة أيام فقط ليقلب كل سلامها النفسي رأسًا على عقِب؛
يبتزها بكل برود ويُساومها على فضائح مُقبلة إن لم.. تتزوجه!
هي، يُسْر الأبية القوية التي لم تخضع مُطلقًا لأيٍ كان تضطر للزواج من مُتعجرِف لامُبالِ مثله؟!
والآن الميزان تم نصبُه وهي من ستضع به المكاييل بيديها..
عائلتها مُقابِل زواجها منه؛
كرامة كل فرد يهُمها مقابل الانتساب لرجل مثله!
لقد فعلتها من قبل ووافقت على الزواج من رمزي الذي اعتبرته شقيقًا لها إرضاءًا لِعمها؛
ألا تفعلها الآن وتتزوج من رجل يثير بها التحفز لأقصى الدرجات حِفاظًا على عائلتها كلها؟!
**********
صرف سكرتيرته إلى قسم آخر مُتعللًا بإحدى الحجج قاصدًا إخلاء المكتب قبل هبوب العاصفة، ثم اضطجع في مقعده نافثًا دخان سيجارته ومُحدقًا بشاشة حاسوبه التي تعرض له صورتها وهي تستقل المِصعد مُتجهة إلى طابقه والغضب يتراقص على وجهها..
كان يعلم أنها ستأتي؛
بل لقد راهن على ذلك!
وبترقُّب وهدوء انتقلت نظراته إلى باب مكتبه المُغلَق ما إن خرجت من المصعد..
بالمرة السابقة تعمد تركها تنتظر كثيرًا حتى يحرقها التوتر وترجوه من أجل ابن عمها، ولم تفعل!
لكن هذه المرة..
ثانية؛
اثنتان؛
و...
انفتح الباب بعُنف أشعل الحماس بخلاياه جميعها دَفعَة واحدة قبل أن ينطلق صياحها الغاضب وهي تتجه إليه خلف مكتبه رأسًا:
"ماذا تريد منا؟!"
وبعينين نصف مُغمضتين أجابها ببطء:
_أريد حقي!
اقتربت منه حتى التصق جسدها بحافة مكتبه وهي تُكتِّف ذراعيها فوق صدرها ثم هتفت به بغيظ:
_وما هو حقك ذلك؟ أنا أخبرتك لو تعلَّق الأمر برمزي وحده لكنتُ أبلغت الشرطة عنه بنفسي، لكن عمي ليس له ذنب، لتوه خرج من غرفة العمليات وحالته الصحية حرجة، ألا تُشفِق عليه؟ إنه رجل بعمر والدك!
زم شِفتيه ثم سحب نفسًا عميقًا من سيجارته قائلًا:
_ليس ذنبي أنه قد قصَّر في تربية ابنه! لو كان أدَّى واجبه كاملًا لِمَا تعرضت أنا للضرر.
سعلت مرتين ثم قالت بسُرعة:
_ولِمَ الزواج؟ أستطيع أن أعمل لديك بدون راتب إن أحببت! أستطيع سداد دَينَه كما تريد.
رَمَقها بسُخرية قبل أن يردد ببطء:
_ألا تُدركين حجم المناقصة التي تسبب ابن عمك في خسارتي لها؟ لو أخبرتك بالرقم لفقدتِ وعيك!
ثم هزَّ رأسه رفضًا متابعًا بلا اكتراث:
_كما أنني لا أريد موظفة، أريد زوجة وبأسرع وقت، وأنتِ تبدين مناسِبة لتسديد دَين ابن عمك بالطريقة التي تُلائمني أنا.
اتسعت عيناها على أقصاهما فاجتاحه هو شعور بالـ.. حياة!
وكأنه لتوه اشترك بسباق ما؛
سباق أيقظ تخبطات كثيرة لا يدري ماهيتها؛
لكنه متيقن من أن الأمر لا يثير قلقه..
بل يثير اندفاعًا لم يمتلكه يومًا!
اندفاع إلى الفوز بِجولة أولى ضد كُتلة القوة هذه..
أو..
اندفاع إلى الفوز بِكُتلة القوة هذه!
ولم تلتفت هي إلى هذه اللمعة التي احتلت عينيه عندما صاحت بحنق:
_لكنني لا أريد الزواج!
ليرد هو مُسرِعًا_ولدهشته_ مُغتاظًا:
_كنتِ ستتزوجين منه بعد فترة قليلة!
زفرت بتعب تتلمس صبرًا، ثم قالت بمهادنة:
_ولكن الله أنقذني قبل أن يتم الأمر، والآن لم أعد أريد ذلك، لقد عزفت عن الفكرة بأكملها!
ليمُط شِفتيه بلا اكتراث قائلًا:
_كما تشائين.
بدأت تهز إحدى قدميها في توتر وسعالها المتقطع يُزيد في إنزعاجها بينما أشاح هو بوجهه بعيدًا مانِحًا إياها وقتًا للتفكير، فجأة استعادت عبارة قالها للتو فسألته بتوجس:
_ما معنى أنك تريد زوجة بأسرع وقت؟
هنا أعاد نظراته إليها في صمت، ولا تعلم لِمَ شعرت في هذه اللحظة بأنه يُخفي شيئًا آخر وراء قسوته، شيئ آخر.. يؤلِمه!
وهذا ما أثار استهجانها مُتسائلة بلا صوت:
"أيتألم جبل الجليد هذا مُطلقًا؟!"
_لديّ طفلة، وتحتاج إلى أم!
فغرت شفتيها بدهشة وهي ترمق أصابعه الفارِغة من أي حلقات زواج ثم سألته باهتمام حقيقي:
_وأين أمها؟
عادت النظرة القاسية الجامدة إلى عينيه على الفور وهو يرد بخفوت تخللته راحة غريبة بالرغم من أهمية الأمر:
_انفصلنا، لكن طفلتي ستبقى معي!
وسؤال تلقائي انطلق منها:
_ومن يعتني بها إذن؟!
سؤال بسيط كان..
لكنه هبط على سمعه كأعذب الألحان؛
وعلى قلبه كنيران بركان!
أمعن النظر بالاهتمام الصادق بعينيها، ليجيبها مدققًا:
_والدتي تفعل، لكنها صارت مُتعبة ولا تقوى على تحمل مسئوليتها وحدها، و.. وطفلتي تحتاج إلى وجود أم.
وحان دور تشققها هي!
لا تتحمل فكرة الفقد.. من بين كل المصائب التي يتعرض لها الجميع تعتقد هي أن فقد أحد أفراد الأسرة هو أشدها وأكثرها قسوة!
مهما حل على الفرد من كروب سينطلق إلى أسرته طالبًا المؤازرة والمساندة؛
ودومًا ما استعاذت من كابوس يتمثل في هيئة فقدان أحد أفراد عائلتها.
حانت منها نظرة سريعة إليه تحاول تخمين عمره.. يبدو أنه في الثلاثينات، لذا فإنها لازالت طفلة!
وتزايد التشقق؛
واكتنفها التوتر؛
عَم يعاني، وأسرة ستعاني، وطفلة.. تحتاج وتفتقد وأكثر من الجميع _بالتأكيد_ تعاني!
ظل الصمت يسود المكان وكلاهما منتظرًا استئنافًا للحديث من الآخر، ثم ما لبثت أن سعلت مرة أخرى  وهي تهتف به بِحِقد:
_أنت تريد الانتقام من رمزي لأنه سَرَقَك عن طريق الزواج بي أنا بالذات لأنني كنت خطيبته، أليس كذلك؟!
وبروده بدأ يُثير بها روح تحدي لطالما أخفتها كي لا تُظهِر جانِبها السيء، فرد بلا اكتراث وكأنها سألته عن حالة الطقس مثلًا:
_ربما! لا تستبعدي شيئًا على الإطلاق.
والنظرات المُشتعلة بعتمة عينيها بدأت تُصهِر جليدًا دومًا ما تحصًّن به، وما يستغرِبه هذا الحماس المُصاحب له، الأمر أصبح مُريب حقًا!
لِذا بهدوئه المُعتاد والذي أتقن هو التظاهر به سألها:
_والآن آنسة يُسْر، أستاذ سامي ينتظر كي يقوم بإبلاغ الشرطة لتلقي القبض على ابن عمك بالمشفى، هل أطلب منه أن يفعل أم يتراجع؟
ضغطها على أسنانها لم يفُته؛
كما ترقُبه لإجابتها لم يفُتها..
حتى..
مالت مُقترِبة منه لتستند بإحدى كفيها على مكتبه؛
ثم بكل هدوء؛
وبكل جرأة؛
مدَّت يدها لتجذب السيجارة المُشتعِلة من بين شفتيه وضغطتها في المنفضة الزجاجية بقوة!
ودون أن يحِيد أحدهما بعينيه عن عيني الآخر..
توقفت أنفاسه هو؛
وابتسمت هي بتحدي؛
لتتسارع دقات قلبه هو؛
وتهبط عيناه تلقائيًا إلى هذا الشِق الذي بدأ يُغيظه!
وشيء بداخله يتساءل بفضول:
"تُرى كيف يكون الشعور بلـمسه...!"
نَفَض رأسه مُسرِعًا وهو يعود إلى عينيها مرة أخرى..
نظرتها أثارت نيرانًا غريبة بداخله؛
نيرانًا من نوع مُختلف؛
نيران تأكل جُمودًا لطالما منحه راحة ظاهرية؛
نيران سَبَبَت اشتعالًا في هدوء تسلَّح به بمهارة!
ثم بكل هدوء؛
وبكل جرأة؛
اتسعت الابتسامة المتحدية بشكل راق له حقًا، لِتهمس بوعيد:
_سأتزوجك ثائر بِك، سأتزوجك وستندم كل يوم أنني فعلت، سأتزوجك وستدعو الله دومًا أن يُخلصك مني بأية طريقة.
وكلمات عباراتها _بالرغم من معانيها المبطنة_ نُثِرت كقطرات نديَّة على قشرة قلبه؛
تغلغلت، وتوغلت، و..استعمرت!
والاستعمار في حالة نادرة لم يحمل راية ظُلم؛
والظلم إن فكر بالتراجع الآن.. أو منحها الفرصة بالمثل!
ولمَّا أخذ يتشبع بكل ملامحها دون تخطيط ضاقت عيناها بتحفز، ولِدهشتها ابتسم!
ابتسامة حقيقية لم تظهر على وجهه منذ سنوات؛
ابتسامة لم يشعر هو نفسه أنه رسمها إلا حينما تراجعت هي إلى الخلف وهي ترمقه بتوجس..
فحمحم بخشونة وهو يستعيد صرامته وقسوة ملامحه قائلًا بهدوء:
_عندما يخرج عمك من المشفى سآتِ مع أهلي لِخِطبتك.
ونظرتها الساخرة كانت ردًا صامتًا ثم انصرفت إلى الخارج دونما كلمة أخرى!
***** نهاية الفصل السابع*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 😍😍

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن