٢٠_الفصل العشرون(ظماء على شط الجوى)

5.8K 170 20
                                    

ولا تحرميني جذوة بعد جذوة
فما اخضلَّ هذا القلب حتى تَلَهَّبَا
بدوي الجبل
...
تلألأت الأضواء البراقة في القاعة رفيعة المستوى التي تضم المدعوين من رجال الأعمال وبعض الأقارب والأصدقاء المشتركين لِعائلتي العروسين، وبالرغم من سعادة باسل الجَمَّة من أجل أقرب شخصين إليه فإنه كان يدور بِعينيه بحثًا عنها باهتمام حتى كاد أن يُتَّهم بالتحرش لِكثرة تحديقه في الفتيات!
زَفَر بِضيق ثم اتجه إلى الأريكة الفخمة التي يتجاور عليها العروسان بينما يتهامسان بفرحة واضحة..
"مُبارك لكما، أين هي فيروز؟"
رَفَع كلاهما رأسيهما بِحِدة ثم هتف به زيدان بِغيظ:
_ألا تُنبهنا بِقدومك يا رجل؟! ما بِك تهجم كضُباط الشُرطة هكذا؟!
ثم تابع بسخرية:
_إنها المرة الأولى التي لا تسأل بها عن المائدة المفتوحة خلال زفاف!
لم يستجب باسل لمزاحه وهو ينفخ بِنفاد صبر ثم يقول بهدوء:
_أعتذر سيد زيدان، أخبرني من فضلك أين هي فيروز؟
ارتفع حاجبا زيدان لأعلى قبل أن يهز كتفيه قائلًا بِدهشة:
_وكيف سأعلم أنا؟ إن لم تلاحظ فهذا زفافي، أي أن شؤونك هي آخر ما قد يهمني على الإطلاق.
عَضَّ باسل على شفته بِغيظ وهَمَّ بالانصراف فعاجلته رَغَد مبتسمة:
_لقد كانت تقف مع تميم منذ قليل يا باسل، ابحث عنه واسأله عنها!
وبالرغم من الضيق الذي شعر به لِوهلة إلا أنه أومأ برأسه لها شاكرًا ثم استدار مُنصرفًا يبحث عن تميم بعينه.
لقد لاحظ تقاربه معها حينما اجتمعوا جميعًا بحفل ميلاد سيلا، ثم بالدعوة التي تمت بعد ذلك، وقد بات ذاك الأمر يُثير ضيقه..
لن يتظاهر بعدم الاهتمام بينما هو بالفعل يدرك أنه يغار، كما أنه يعتبر ذلك حقه نوعًا ما باعتبار العلاقة التي ستنشأ بينهما في القريب العاجل.
فقد اتخذ قراره، هو لا يريد التكاسل أو الانتظار، والتردد لم يكن يومًا من طباعه، لِذا اليوم سيتحدث معها بِصراحة، وحتى إن كانت لا تشعر تجاهه مثلما يشعر هو لن يُشكِّل ذلك فارقًا لقراره..
سيُصاب بالإحباط بكل تأكيد، لكنه صبور..
ولِمَ اخترعوا فترة الخطبة إذن؟!
سيعمل على جعلها تُبادِله مشاعره في أقرب وقت؛
من بعيد لَمَحها تقف مع تميم بالفعل ويبدو أن الحديث بينهما هام بِشدة، فها هو يقترب منهما ولا ينتبه أحدهما إليه...
"ماذا تعنين أنكِ ستتصرفين فيروز؟ لقد حذرتك ألا تفعلي، الآن حان دوري ولقد أطعتك ولم أشأ إثارة قلقك، لكنني لن ألتزم الصمت أكثر، بِنهاية هذا الأسبوع ستكون هذه المشكلة قد انتهت تمامًا."
والعبارة سمعها بِكل وضوح لكنه لم يفهم ما وراءها..
أية مشكلة تتعرض لها؟
وما علاقة تميم بالأمر؟
ولِمَ هذا الخوف الواضح على وجهها؟
_كيف حالك تميم؟
ألقى تحيته بلهجة رسمية فالتفت كلاهما إليه لِيرد تميم ببشاشة:
_أهلا باسل، العُقبى لك.
أومأ باسل برأسه إيجابًا شاكرًا بينما تَهَرَّبت هي بعينيها بعيدًا لكنه لم يدعها وسألها مُتفحِّصًا:
_هل أنتِ بخير فيروز؟
هزت رأسها في جميع الاتجاهات بلا معنى وبارتباك واضح ثم أجابته:
_نعم.. أنا بخير، أعاني بعض الصداع فقط.
لاحظ تميم أن كمال يُشير إليه طالبًا حضوره فابتسم لهما قائلًا:
_أعتذر منكما، سأذهب إلى كمال.
ثم خصها بِنظراته المُحذِّرة وهو يُشدد:
_كما اتفقنا فيروز!
والغيظ زاد أكثر بداخله، الأمر فعلا أصبح يُثير غضبه واعتراضه، التفت إليها وهَم بالتعبير عن هذا الاعتراض إلا أنه وجد وجهها قد أصبح شاحبًا، دقق النظر بها باهتمام ثم سألها بِقلق:
_أحقًا مُجرد صداع؟
ومجددًا أومأت برأسها بِضعة مرات بِسرعة فتابع:
_لِمَ لا تُجيبين مُكالماتي إذن؟ لقد هاتفتك كثيرًا طوال هذا الأسبوع.
دارت بِعينيها في كل مكان بعيدًا عنه ثم ردت بعد ثوان:
_كنت مُنشغلة قليلًا، أستأذنك.
وما إن تجاوزته حتى هتف بحنق:
_فيروز!
التفتت إليه واضطرابها يزداد حتى شعر بِشفقة غريبة عليها فتجاهل كل انزعاجه ليسألها باهتمام:
_ما هي المشكلة التي تواجهك هذه الفترة؟
حدقت به بِدهشة ثم سألته بحروف متلجلجة:
_أية مشكلة؟
اقترب منها ودقق النظر بها ثم قال بِهدوء:
_فيروز، لقد رأيتك بحفل سيلا، ورأيتك يوم الدعوة، كنتِ مُنطلقة سعيدة مُشرِقة، والآن عيناك تحملان رُعبًا غريبًا، وتتحدثين مع قريب صديقتك عن مُشكلة تواجهينها وهو يُحذرك من شيء ما ويعدك بالتدخل.
اتسعت عيناها بذهول تخلله بعض التوتر فتابع موضحًا:
_لم أتلصص على حديثكما، لكن صوته كان واضحًا حينما اقتربت.
أغمضت عينيها ثم حَكَّت جبهتها ورددت بِخفوت:
_لاشيء، لا توجد مشكلات من أي نوع، شكرًا لاهتمامك باسل.
اعتقدت أنه سينصرف بعد عبارتها المقتضبة، لكنه سألها بِصوت مُنخفِض قليلًا:
_ألا تثقين بي؟
رَفَعَت نظراتها إليه ليتضح الضياع بهما، كانت عيناها تصرخان بشيء لم يدر ِكُنهه، كانت تستنجد به كي يُنقِذها من خطر لا يُدركه..
لكنه يشعر به؛
يشعر بهذا الاحتياج، وبهذا الضعف..
ولا يعلم كيف يراها بداخل ذهنه تمد يدها المرتجفة إليه طالبة.. مساعدة!
ولو تفعلها حقًا لقبض على يدها ولم يتركها إلى الأبد!
وترجم لسانه أفكاره بطريقته ليستغل صمتها ويتابع بِخفوت:
_ألا تثقين أنني كفء لأشاركك ما يؤرقك وأساعدك على حله؟ ألا تثقين أنني سأحافظ على أية أسرار تخشين انتشارها؟ ألا تثقين أنني سأدعمك في كل ما ترغبين به؟
وبدون تردد أجابته بِخفوت مماثل:
_أثق بك باسل.
ابتسم بالتدريج وقد فاجأته بِسُرعة ردها فيما تابعت هي بألم لم يفهم سببه:
_أثق بك جدًا ولا أعلم كيف أفعل بالرغم من أنني لم أحظ بمعرفتك سوى منذ أسابيع.
سألها بإلحاح كان الاهتمام به جليًا.. لأعصابها مُرهقًا:
_ما الذي يُزعجك إذن؟
هزت رأسها نفيًا ثم ابتعدت بعينيها عنه قائلة:
_لا تقلق، أنا بخير تمامًا.
لم يستطع الصمت أكثر فَهَتف بها بِحنق واضح:
_إذن ماذا بينك وبين تميم؟
استطاع جذب نظراتها إليه ثانية لكنها ضيقت عينيها بِعدم فهم فأردف هو بِنفاد صبر:
_أنا أعلم أنه قريب يُسْر، لكن ما علاقتك أنتِ به؟ لقد رأيته أكثر من مرة يتحدث معك بمفردكما ويبدو أنكما مُقربان بِشدة.
تعالت دقات قلبها وما بين سطور كلماته تفهمه هي بِكل وضوح، فأجابته بِصدق:
_تميم.. تميم بِمثابة أخي، وأحيانًا أبي.
زَفَر براحة ثم ابتسم بِمكر قائلًا:
_ألا أستطيع أنا أيضًا احتلال مكانة مختلفة بعض الشيء؟! لم يسبقني إليها أحد.. ولن يخلفني بها أحد؟!
كلماته الموحية، ونظراته الواضحة، وقلبها الذي وافق على كل ما تفوه به عاثوا إرباكًا في كيانها بأكمله..
لقد بات كل ما يحدث جليًا ظاهرًا؛
هو ليس بِعابِث وتعلم ذلك؛
هو لا يُهدر وقته ويتخذ من الصراحة مسلكًا وتشعر بذلك؛
لكن...
_أين كنت منذ عام باسل؟!
والسؤال أطلقته بأسف لم يدر سببه، لكنه اقترب أكثر مُتمعِنًا بِعينيها بعد أن أدرك أن كل ما يجتاحه وصلها، ثم قال بنبرة صادقة:
_كنت أهرب من الجميع سائرًا بِطريقي المُحدد منذ مولدي كي أسقط مُستسلمًا لِطوفان الفيروز.
رغمًا عنها توردت وجنتاها واكتنفها التوتر فأردف هو مُستغلًا حالتها:
_فيروز! هل تـ..
فغِرت شِفتيها بِذهول وحدَّقت به ببلاهة للحظات ثم انتفضت إلى الخلف مقاطعة إياه بِصوت مُرتجِف:
_سأذهب إلى أمي، أستأذن منك.
ظل مكانه مُتابِعًا إياها بِنظراته حتى وصلت إلى أمها وجلست مُلتصِقة بها، لكنها عادت إليه بعينيها فأعطاها ابتسامة يُخبرها بها أنه يستوعِب خجلها جيدًا..
كما استوعب أنها بالفعل أدركت الطلب الذي كان على وشك التفوه به، وأدرك هو أنها.. توافق!
**********
يتراقص قلبها سعادةً ويختض جسدها بِتفاعُل وهي تتلمس الحلقة الذهبية التي نقلها لِتوه إلى خِنصرها الأيسر..
لقد أصبحت زوجة زيدان!
حبيبها الوحيد والحُلم الذي ظل لِسنوات بعيد المنال!
تشعر أنها لن تتحمل كل هذا المقدار من الفرحة، وتشعر أنها تُريد الصِراخ بأعلى صوتها مُعلِنة للجميع أنها أخيرًا اقتنصت فُرصتها الوحيدة للرضا والهناء..
التفتت إليه لتتابع تأملُّه مثلما تفعل منذ دقائق بعدما انصرف الشيخ، لكنها وجدته يتأملها بِعِشق صريح فتوردت وجنتيها ثم سألته:
_لِمَ تنظر إليّ هكذا؟
تخلل أصابع كفها بأصابعه ثم مال على أذنها هامسًا:
_هل أُخبرك سرًا؟
أومأت برأسها بابتسامة مُترقبة فَتابع:
_لقد وقعت في غرام ابتسامتك منذ سنوات، كلما كنت أراها انتابتني سعادة غير مُبررة، وأحيانًا كنت أتعمَّد أن أقوم بإضحاكك كي أستمتع بها، حتى بعد الحادث كانت ابتسامتك هي الشيء الوحيد الذي كان ينتشلني من حُزني وضياعي، وبِمجرد غيابك عني أسقط بهما مُجددًا.
ترقرقت عيناها بدمعات ونظرة الدهشة تعلو وجهها فأردف هو بأسف:
_ويظل السؤال لا ينفك يتردد على عقلي: كيف لم أدرك كل هذا مُبكرًا؟!
وحينما أغمضت عينيها مُستمتعة ومُتقبلة لِكل ما يرمي على سمعها قال بِصوت خافت، صادق:
_لا أصدق ما يحدث رَغَد، لا أصدق أنكِ أصبحتِ زوجتي حقًا، لقد شعرت لِفترة أنني قد فقدتك تمامًا، واعتقدت أنكِ لن تُسامحينني مُطلقًا، كلما أُفكر أنكِ كنتِ معي دومًا منذ سنوات ولم أنتبه أكاد أنفجر غيظًا وقهرًا.
فتحت عينيها وهي تضغط بأصابعها على كفه ثم قالت:
_أنا لا أستطيع الغضب منك في الأصل زيدان، لم أستطع يومًا، ولن أفعلها إلى الأبد.
صمتت للحظات ثم تابعت برِقة ممتزجة بالمرح:
_أنت.. أنت كنت أول من يتمناه قلبي، لِذا ستجدني أتغاضى عن حماقاتك كثيرًا وأتظاهر أنني لم ألاحظها.
ورَسَمت عُبوس مُفتعل قبل أن تُضيف:
_لكن لا تعتمد على ذلك!
ثم دققت النظر بِعينيه وتابعت:
_لا تُفكر بالماضي زيدان، لقد أصبحنا معًا أخيرًا وهذا ما يهُم الآن.
زَفَر بِضيق وهو يدور بعينيه حولهما قبل أن يهتف بِغيظ:
_ألن ينتهي هذا الحفل؟!
اتسعت عيناها بدهشة ثم سألته باستنكار:
_هل مللت من حفل زفافنا بهذه السرعة؟
وعلى الفور عادت ابتسامته الماكرة إلى وجهه وهو يقول هامسًا:
_لم أمل حبيبتي، لكن لديّ بعضًا من الحديث الشيق الذي لن أستطسع قوله هنا.
انتزعت عينيها من عينيه انتزاعًا قبل أن تهتف بِخجل:
_تأدَّب زيـــــ...
فقاطعها باعتراض:
_اصمتي رَغَد ولا تُثيري حنقي، أي أدب اليوم يا فتاة؟! لقد وَلَّى عهده إلى الأبد!
وضحكته العالية اجتذبت أنظار  بعض الموجودين بالقُرب فأشاحت بِوجهها بعيدًا  عنه بِتوتر مُخفية ابتسامتها الحيية.
**********
"نعم أمي لقد حصلت على كل الأوراق، لكنني لست متأكدًا أنني سأستطيع السفر الآن، ربما تحاولي أنتِ وأبي التعجيل والحضور حتى نذهب لخطبة الفتاة التي حدثتكما عنها!"
وزغرودة أخرى اقتحمت أذنه لا يعلم إن كانت من أمه أم من إحدى المدعوات المتحمسات بالقرب منه، لكنها أذت سمعه على أي حال!
"بخلاف جمالها وأخلاقها اللذين ما تنفك تُلقي الأشعار حولهم، أتجيد الطهي؟!"
وسُقِطَ في يده!
وولت الكلمات بعيدًا!
وبمحاولة فاشلة لأن يتظاهر بالتفاؤل أجابها:
_أستطيع أن أؤكد لكِ أنني سأجرب كل الأطعمة التراثية التقليدية بطرق معاصِرة، ومُبتكرة!
وأنهى المكالمة على الفور قبل أن تطلب مزيدًا من الاستفسارات حول فيروز، تلك التي تهربت منه بطريقة واضحة، لكنها لا تتوقف عن النظرات إليه من مكانها..
لِيُبادلها النظر؛
ويمنحها الوعود.. ويطالبها بإشباع حنينه وظمأه إلى شيء لم يكن يومًا بحُسبانه!
"أستبقى واقفًا هكذا إلى الأبد؟!"
والسؤال مر بجوار أذنه من ثائر الذي كان يستقبل بعض معارفه ببشاشة مُبالَغ بها، ليجيبه بسأم:
_ألا تساعدني أنت وتسأل زوجتك عما تعاني فيروز دون أن أضطر أنا لفعل ذلك فتطلب مني حَرَمك المصون أن أحمل العروسين فوق رأسي أو أقوم بتنظيف القاعة في المقابل!
والبشاشة رحلت على الفور وهو يعبس قائلًا بلهجة تحذيرية:
_إياك والتحدث عن زوجتي بطريقة ساخرة!
وقبل أن يستأنف تحذيره لمحها نفسها تصافح إحدى قريبات رَغَد بطريقة وِدية، وتهتم بها وتحيي أطفالها..
وعادت الابتسامة؛
هائمة.. شاردة، ممتنة؛
يراقبها متفحصًا ولا يسمح لأية شاردة بها أو واردة تخفى عليه؛
بثوب أسود لامع بعض الشيء كما تحب، وكما صار يحب؛
فتنة طبيعية دون أية مبالغة؛
ورِقة بات يعلم أنها وُجدت خصيصًا لها!
وذكريات دافئة بِعُمر عدة ساعات تقتحم عقله فلا يُبعدها.. بل يُحاول استجلاب المزيد!
ظمآن.. ولم يرتوِ إلا بها!
وعندما التفتت ولمحته اكتسبت وجنتاها لونًا ورديًا قانيًا، وهَمَّ هو بالذهاب إليها لكن هذا الرفيق ذكره بوجوده قائلًا:
_"قَيْس" بك! ألك أن تعيرني انتباهك بعض الشيء ثم تعاود مراهقتك المتأخرة؟!
"لا تضرب صديقك مُطلقًا!"
هكذا نبه نفسه سرًا وهو يلتفت إلى باسل الذي ينظر له مبتسمًا بسخرية، ثم ارتسم الملل على وجهه ليقول باقتضاب:
_إن كنت تبحث عن فيروز فلقد رأيتها منذ قليل تهنيء زيدان ورَغَد، إذهب إليهما ودعني وشأني!
_لقد تحدثت معها بالفعل، لكنني أريد أن أعلم ما هي المشكلة التي تثير ذعرها.
وانتبه له ثائر ومنحه اهتمامه كاملًا، ليتذكر أن يُسْر قد تحدثت حول شيء مماثل من قبل..
_كل ما أعلمه عنها أنها وحيدة ويتيمة، لديها بعض التعقيدات التي تتعلق بعمها بحسْب ما ذكر زيدان ذات مرة، لكنه يعيش بمحافظة أخرى.
واكتنف القلق ملامح باسل على الفور ليتابع ثائر ناصحًا:
_اسمع باسل! أنت لم تهتم بالزواج قبل أن تقابلها، وأنا أؤكد لك أن فيروز فتاة جيدة بالفعل وأخلاقها مستقيمة، لِذا لا تهدر وقتك وكُن جادًا..
ولما بقى باسل على صمته أضاف ثائر بنبرة مُشددة:
_لو كنت أنا في نفس وضعك لذهبت إلى أهلها طالبًا الزواج على الفور، لِذا حدد موعدًا وسنسافر سويًا إلى عمها ذاك، ما رأيك؟
تنهد باسل براحة واضحة ثم ما لبث أن ارتمى بين ذراعيّ ثائر مُربتًا على ظهره بحرارة وهو يتمتم بامتنان:
_ليس الآن، أعتقد أنني سأتحدث مع والدتها أولًا، أشكرك ثائر!
فما كان منه إلا أن أبعده بحرج وهو يهتف به عابسًا:
_ماذا تفعل يا أبله؟! الناس حولنا سيسخرون منا! إذا كنت أنت أخرق ويعلم الجميع بأنك أخرق فأنا أهتم بالحفاظ على صورتي وهيبتي!
ثم أعطاه نظرة ممتعضة لم يهتم باسل بها في حين تعالت ضحكاته المتفائلة.. المستبشرة.
**********
"أنت تمزح معي، أليس كذلك؟!"
قالها كمال بِدهشة لِتميم الذي كان يُصارع حرجه هذه اللحظة فيما تابع الأول باستنكار:
_أتريد مني تصديق هذا الهراء؟
حافظ تميم على هدوئه وهو يرد مشيحًا بوجهه عنه:
_ليس هراء، إنها الحقيقة كمال.
ازدادت دهشة كمال وهو يعي الصِدق الصادر من ابن عمه ثم هتف:
_أية حقيقة؟! ما معنى أن خطبتك من فيروز مُزيفة؟ وكيف تفعل ذلك بالفتاة؟
رد تميم بِسُرعة:
_اسمع كمال...
لكنه قاطعه بِغضب شديد:
_ماذا أسمع؟! إنها صديقة يُسْر يا تميم، ليس لديها أب أو أخ وعمها رجل قاسِ متجبر ينتظر أية فرصة ليؤذيها هي ووالدتها، لقد اعتقدت أنك ستكون تعويضًا للفتاة عن الفترة العصيبة التي قضتها ببيته، فتُخبرني الآن بأنك أيضاَ كنت تتلاعب بها لِعام كامل؟!
التفت تميم برأسه يتطلع حوله لئلا يسمعه أحدهما فرأى أن عبلة مُنشغِلة بِحديث مع يُسْر ولم تلاحظ شيئًا، ثم عاد مرة أخرى إليه قائلًا:
_الأمر ليس بهذه الصورة، أنا لم أخدعها، لم أحبها يومًا وهي لا تعتبرني أكثر من أخ.
والتخبط على وجه كمال كان هائلًا فاستدرك تميم بِتشديد:
_لقد.. لقد تدخلت لِحل المُشكلة بينها وبين عمها بالعام الماضي عندما أصر على إعادتها معه مرة أخرى، وحينما وجدته مُصممًا على تزويجها من ابنه الذي ترفضه كليًا توصلنا سويًا إلى التظاهر بالخطبة حتى يدعها عمها وشأنها.
لم يسهم توضيحه في الحد من ذهول ابن عمه فتابع مؤكِدًا:
_لكن أقسم لك أنني لم أعاملها يومًا سِوى كأخت صغرى لي، أمها أيضًا تعلم بحقيقة الوضع وتعلم أنه كان الحل الوحيد ذلك الوقت.
أطرق كمال لحظات مُفكرًا ثم رَفَع رأسه إليه وسأله بيأس:
_ولِمَ تريد إنهاء الخطبة الآن؟ ما الذي استحدث تميم؟
ازدرد تميم لُعابه ثم ردد باستسلام:
_لأنني أود الزواج من أخرى، من امرأة لم أحب سِواها يومًا.
اتسعت عينا كمال وهو يقول بِحذر:
_أنت لا تعني...
لكن تميم قاطعه على الفور بتشديد:
_أعني ذلك بكل تأكيد، أنا أريد الزواج من سُهَيلة يا كمال، ولن أتراجع هذه المرة ، ومن الصالح لنا جميعًا أن نتوقف عن الإدعاء، لقد طال هذا الأمر أكثر من اللازم.
زَفَر كمال وصمت لِثوانِ ليُتمتم بعدها بِهدوء:
_تميم، اسمعني جيدًا، لطالما اعتبرتك الإبن الذي لم أُرزق به، وعندما يتعرض أي منا لأية مُشكلة أُهرع إليك طالبًا مُساعدتك لأنني أثق بِك وبِحكمك على الأمور.
ثم أضاف بانزعاج لم يستطع إخفاءه:
_لكن قصتك مع سُهَيلة انتهت تميم، وأنا لم أسمح لها بالعمل معك إلا لأنني اعتقدت أنكما تخطيتما ما حدث بالماضي، لكن الآن...
مرة أخرى قاطعه تميم باعتراض:
_الآن ماذا سيحدث كمال؟ الآن سترفض زواجها بي، الآن ستمنعها من العمل معي أيضًا، الآن ستقطع صِلتك بي من أجل ألا أراها مُجددًا؟
وقبل أن يُجيبه تابع بِقهر:
_لقد تسببت أنا في فراقنا منذ عشرة أعوام بِضعفي وخذلاني لها، ثم تسببت أمي رحمها الله في رفضها لي منذ أربعة أعوام لأراقبها مُتحسِّرًا تبتعد عني وأموت كمدًا كل يوم وأنا أعلم أنها لم تعد لي مُطلقًا وأن مُجرد تفكيري بها خطيئة لا تُغتفر.
ثم كزَّ على أسنانه بِغيظ واستدرك بألم وهو يلهث بعنف:
_واليوم ستتسبب أنت في فراقنا للمرة الثالثة؟
تخلل كمال شعره بأصابعه ثم قال بيأس:
_تميم، أنا لا أريد لأي شيء أن يُفسِد علاقتنا، لا أريد أن أرى أحدكما يتعذب بِحُبه للآخر كما حدث من قبل، أنت ابني وأخي والحائط الذي اعتمد عليه أن يحمي أسرتي إذا ما حدث شيئ لي، وهي ابنتي التي شاهدت تعلقها الهائل بك منذ مُراهقتها حتى تفرقتما وكادت تموت ألمًا وقهرًا عندما خاب أملها مرتين، حتى عندما حاولت نفض عذابها والبدء من جديد تزوجت ممن لا يستحق لِترى عذابًا أشد وإهانة أ....
ارتسم الغضب على وجه تميم فَبَتر كمال عِبارته بِتوجُّس ليُردد الأول ببطء مُقلِق:
_كفى كمال! لا أريد أن أسمع شيئًا عن ذلك الموضوع، لقد اعتبرت أن سُهَيلة لم تتزوج بذلك القذر مُطلقًا، اعتبرت أنها لم تكن لِسواي يومًا، لا أرغب بأن أسمع هذا الكلام مُجددًا.
حدَّق كمال بِوجهه بِوجل ثم توصَّل إليه الإدراك بالتدريج؛
هو أفضل من يفهم تميم فقد ساهم في تربيته بعد وفاة أبيه في عُمر مُبكر؛
وعندما علِم بوجود مشاعر منه تجاه ابنته شعر بالفرح والاطمئنان عليها، فهو خير  من يتمنى لها؛
لكن فراقهما منذ أعوام وضع نهاية لأحلامه واطمئنانه؛
وقد حاول إثناء سُهَيلة عن زواجها من باهر خوفًا من أن تتخذه مهربًا من فشلها في قصتها الأولى، وهذا كان السبب الظاهري لاعتراضه؛
أما السبب الحقيقي فإنه كان يتمنى أن يتمكن تميم ذلك الوقت من إصلاح ما فسد بينهما؛
وعندما تَزَوَجت ابنته أدرك أنها النهاية، حتى عندما انفصلت لم يأمل يومًا بأن يجتمعا مُجددًا، لأنه يثق أن تميم لن يتحمل كونها كانت لِغيره، ولِذا لم يجد ما يمنع من عملها معه أو تقاربهما، بل لقد حَبَّذ ذلك رغبة منه في إنهاء حالة الحرب التي أعلنها كلاهما على الآخر منذ أربعة سنوات؛
والآن وهو يُطالِع ذلك العِشق بِعينيه أدرك أنه لايزال على عهده بِحبها، ولقد ظل دومًا!
لكن... لحظة!
لو يصح له القول أنه يخاف الآن.. فقد فعل!
تميم النبيل، الشهم، الطيب بإمكانه أن يثير الذعر في قلب ابنته إن استسلم.. لِغيرته!
_وهل اعتقادك يُغير من الحقيقة شيئًا تميم؟ لقد تزوجت سُهَيلة من باهر لِمدة عام كامل، لا تستطيع تجاوز تلك النقطة.
قالها مُدققًا النظر بِعينيه فَتهرَّب تميم مُحاولًا إخفاء حُرقة تفضح حِقدًا وغضبًا يقتاتان كالسرطان على أعماقه.. وقلبه، لِيُتابع كمال بإدراك:
_أرأيت تميم؟ أنت لم تتجاوز ذلك، إن سمحت أنا لكما بالمحاولة للمرة الثالثة أنت من ستخيِّب ظنَّها هذه المرة.
هز تميم رأسه نفيًا وبات الضعف مُقترِنًا بالإصرار داخل عينيه ثم قال بإلحاح:
_لن أفعل كمال، لن أفرط في سُهَيلة أبدًا، ستوافق لأنك تعلم أنها تنتمي إليّ، ستوافق لأنك تدرك أن وجودها مع غيري لامنطقي، وستوافق لأنك مُتأكد من أنني لن أسمح بتكرار ضياعها مني مُجددًا.
تبادل كلاهما النظر في صمت لِثوان ثم قال تميم:
_سأسافر  إلى عم فيروز بعد بضعة أيام وأنهي معه هذا الموضوع بطريقة أضمن بها أنه سيتوقف عن أذيتها.
وأردف بِتصميم:
_وعندما أعود سـتُزوجني ابنتك كمال، لأنك تعلم أن هذه هي النهاية الطبيعية لي ولها.
لم يرد كمال عليه وهو يُشيح بِوجهه بعيدًا مُستسلِمًا لِحيرة شديدة مُتسائلًا بداخله عن القرار الصائب الذي يجب عليه اتخاذه دون إعادة إشعال حربًا لن يهدأ تميم حتى يفوز بها..
والأسئلة الأهم تطرح نفسها ساخِرة:
هل سيرفض تزويج ابنته بمن أرادته منذ صِغرها؟
وهل سيُجازِف بِتعريضها لِجرح أكثر إيلامًا إن مَنحه موافقة؟
وهل سيستطيع كلاهما تحقيق سعادتهما بعد سنوات من المُعاناة؟
**********
خرجت إلى الحديقة المُلحقة بالقاعة خفية قبل أن يلاحظ أبوها تهربها، وحتى تتوقف أمها عن توجيه نظراتها اللائمة لها بعد حدوث ذلك الموقف منذ دقائق..
لقد كانت تجلس إلى جوار والدتها وصديقتها تحارب مرور الوقت في ملل حتى قفزت فجأة ابنتها إلى أمها تقبلها وتخبرها باشتياقها إليها.. فيما لم تعرها أدنى اهتمام!
استغلت هي انشغال الطفلة في الحديث مع جدتها وتأملتها بصمت..
تبحث عن أية عاطفة بداخلها توجهها إليها.. فلم تجد!
تبحث عن أي شعور بالاشتياق _فهي لم ترها منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر_.. فلم تجد!
تحفر عن رغبة بالقرب، بالاحتضان، بالحنو.. وللغرابة لم تجد!
لولا الشبه الواضح بين الطفلة وبين والدها، ولولا أنها متأكدة من حرص أهلها وعائلة طليقها لاعتقدت أن الطفلة تم تبديلها يوم الوضع وأن هذه الطفلة ليست طفلتها الحقيقية!
لكن.. هي بالفعل نشأت أمام عينيها، كبرت معها بنفس المكان، راقبت_رغمًا عنها_ كل مراحل نموها.. لماذا لا تشعر تجاهها كأية أم إذن؟!
أدارت عينيها بفضول في بعض المدعوات بصحبة أطفالهن..
هذه تحتضن طفلها وتقبله بلا سبب واضح؛
وتلك تخرج من القاعة بأكملها حاملة رضيعها واضعة يدها على أذنه كيلا توقظه الأصوات العالية؛
وتلك ترفع طفلتها فوق الطاولة لتؤدي الصغيرة حركات ظريفة لا ينتبه لها أحد إلا أمها التي تتطلع إليها بفخر، وبحب، وبحنان وهي تصفق بحرارة، ثم تدور بعينيها في الموجودين خشية أن يضر أحدهما فلذة كبدها بنظرة حسد!
وتلك.. تلك هي غريمتها، والتي تستقبل طفلتها هي بين ذراعيها الآن؛
وطفلتها تفرغ قبلات متفرقة على وجهها؛
وغريمتها تفعل المثل، ولا تتركها إلا عند الطاولة القريبة من العروسين لتبدأ بإطعامها!
لو أنها لا تعرفهما، لو أنها غريبة كليًا عن هؤلاء الأشخاص.. لم تكن لينتابها شك في أنهما أم وطفلتها!
ألا تشعر بالغيظ؟! ألا تشعر بالغيرة؟!
ألا تتساءل بداخلها كيف أن الطفلة لم تمنحها حتى نظرة وهي على بُعد سنتيمترات قليلة منها بينما تغدق بكل هذا الحب على امرأة لم تكن تعرفها قبل شهور؟!!
لا..!
ربما حملت بها؛
ربما أنجبتها؛
ربما هي والدتها بيولوجيًا؛
لكن تلك الصغيرة بالنسبة لها هي مجرد ثمن..
ولا شيء أكثر كراهة بالنسبة لها من دفع الثمن!
...
في جُنح الظلام بين أشجار الحديقة وقفت واضِعة هاتفها على أذنها بِصمت مُستقبِلة الصياح الغاضب من رمزي الذي هاتفها ثلاث مرات خلال ساعتين فقط كي يتأكد أن ثائر لم يحتك بها!
"أخبرتك أنني لم أتحدث معه بِكلمة رمزي، ما رأيك بأن تأتي وتتأكد من صدق كلماتي بنفسك؟"
هتفت بها بِملل فصاح بها غاضبًا:
_هل تعنين أنه يُدير رأسه بعيدًا كلما رآك؟ أتخدعينني رِهام؟!
زَفَرت بيأس ثم قالت بِهدوء:
_يا حبيبي افهم، القاعة مُكتظة بالمدعوين من رجال الأعمال، أتعتقد حقًا أنه سيتركهم جميعًا ويُدقق بي أنا؟!
فجاءها ردُّه ساخِرًا بإيحاء أصبحت تسأمه جدًا:
_أعلم أن القاعة مُكتظة بالمدعوين رفيعي المستوى سليلي النسب العظيم، أعلم أن الزفاف تكلَف مبلغًا لن أستطيع الحصول على نصفه لو ظللت أعمل يوميًا طوال حياتي، فلستُ في حاجة لِتُذكريني بذلك.
ما إن أنهى عِبارته الساخرة حتى صاحت به بِنفاد صبر:
_لِمَ أنت غاضب بهذا الشكل رمزي؟ ماذا قلت أنا؟
وصلتها أنفاسه الغاضبة فأخفضت من نبرتها قليلًا ثم قالت:
_هناك ما حدث وأثار أعصابك إلى تلك الدرجة وقد اخترت التنفيس عن غضبك بي، أليس كذلك؟!
أغمض عينيه مُذعنًا ومحاولًا تهدئة نفسه، وبعد لحظات أجابها باستسلام:
_لقد تشاجرت مع أبي.
عَقدت حاجبيها بِدهشة ثم سألته باستهجان:
_وما المهم في ذلك؟! أنت تتشاجر معه دائمًا منذ أنهيت خطبتك.
لكن كلماته التي ظهر التوتر بها جليًا جعلتها تنتفض:
_لقد.. لقد طردني من المنزل.
وبلا أي تفكير صرخت به بِصدمة:
_ماذا تقول؟ هل جُن أبوك؟ هل صار خرِفًا؟!
ليصرُخ بها بِدوره:
_رِهام! لا تتحدثي عن أبي بهذه الطريقة!
عَضَّت شِفتها بعد أن استدركت ما انزلق إليه لِسانها دون انتباه فخاطبته بِلهجة لَيِّنة:
_أعتذر حبيبي لم أقصد، لكن.. لكن كيف يفعل أبوك ذلك؟! أنت ابنه الوحيد، كيف يتركك بالشارع؟!
بعد ثوان هدأ بها قليلًا فقال:
_لست بالشارع، أنا بالشقة التي سنتزوج بها، وسوف أبقى بها يومين ثم أعود لأعتذر له عله يسامحني.
حاولت إظهار بعض الاهتمام فسألته:
_وما سبب الشجار بالأساس؟
لِوهلة كان سيعترف..
كان سيُخبرها بأنه ضبطه يسرق؛
بأنه سرق أموال أبيه التي يعرف أنه يدَّخرها من أجل الإنفاق على علاجه وفحوصاته الدورية؛
كان يريد إخبارها بِشدة؛
ليس رغبة منه بإشراكها في أدق خُصوصياته، ولا رغبة في الشعور بدعمها له في أحلك أوقاته، ولا رغبة في اكتشاف ماذا ستكون ردة فِعلها حينما تعلم أنه احترف السرقة..
بل من أجل إطلاعها إلى أي حد أثَّر ظهورها بِحياته مُجددًا به؛
"انظري رِهام لقد أرشدتِني إلى السرقة، لقد وضعتِ اللبنة الأولى في تحولي من مُحاسب مُحترم إلى لِص يسرق من أصحاب المال الذين يعمل لديهم ثم من أبيه الذي فعل لأجله الكثير!"
كان يريد قولها حقًا، ألم تُخبره دومًا أنهما شركاء وأنه يجب عليه الشعور بمعاناتها مع زوجها السابق؟
أليس من حقه هو أن تشعر بما آل إليه أمره؟
_رمزي! ألا تسمعني؟!
سؤالها القلِق أخرجه من دورة انفعالاته فأجابها باضطراب _كاذبًا_:
_بشأن.. بشأن زواجنا كالعادة، لايزال يرفض، لكنني سأحاول إقناعه.
وقبل أن تُناقِشه ثانية عاجلها بِنزق:
_أخبريني متى سينتهي هذا الزفاف اللعين؟
أجابته بنبرة حذِرَة:
_ربما ساعتين أخرتين.
وبالفعل صاح بها مرة أخرى والغيظ يعلن عن نفسه بكل حرف يتفوه به:
_يا إلهي! ساعتين كاملتين؟! رِهام! ابتعدي عن أي مكان يتواجد به، لا أريد أن تقع عيناه عليكِ مُطلقًا.
شَرَدت قليلًا ثم ردت بِنبرة هادئة لم تخل من التهكم:
_اطمئن رمزي، حتى إن كنت أقف أمامه الآن فلن يراني، يبدو أن ابنة عمك هذه بارعة بشدة.
وكان دوره لِيسألها مُستغرِبًا:
_ماذا تعنين؟ ما بها يُسْر؟
والسُخرية كانت واضحة في إجابتها التي اتضحت فيها دهشة عظيمة:
_لقد أطاحت بصواب ثائر الجوهري تمامًا، عيناه تتحركان خلفها بلا إرادة منه، إنه يُحدِّق بها طوال الوقت وكأنه يراها للمرة الأولى، بالرغم من مرور ما يقرب من شهرين على زواجهما.
والتحفز كان جليًا في تعليقه البسيط:
_أراكِ مُهتمة بأمرهما.
لكنها أسرعت بالنفي على الرغم من الحِقد الذي تسلل إلى كلماتها في غفلة منها:
_لستُ مهتمة بالطبع، لكنني مُندهِشة لا أكثر، لم يكن يومًا ممن تفضحهم مشاعرهم، دومًا ما كان متحفظًا أكثر من اللازم كجلمود الصخر، ومن أراه أمامي اليوم هو رجل مُختلف تمامًا وكأنه مُراهِق يُراقب حبيبته دون ملاحظتها بالرغم من محاولته الواضحة للتحكم بنفسه، أخبرني إذن هل تعمل ابنة عمك بالسحر أم ماذا؟
ولم تدري أنها استرسلت أكثر من اللازم في خواطرها الحائرة إلا حينما وصلها منه ردًا حازِمًا:
_رِهام، لا أحب أن تتحدثي عن ابنة عمي أيضًا، أرجو ألا يؤذيها هذا الحقير، ولا أحب أيضًا أن تتحدثي عنه مُجددًا بِخير أو بِشر، هل تفهمينني جيدًا؟
ازدردت لُعابها ثم قالت بِسُرعة وارتباك:
_أفهمك رمزي، سأنهي المكالمة قبل أن ينتبه أبي إلى غيابي، إلى اللقاء.
وعندما هَمَّت بالعودة إلى الداخل لاحظت اثنان من الظلال لِشخصين تبينت أحدهما على الفور؛
وبينما العقل والمنطق يصرخان بها أن تُسرِع بالمُغادرة فقد انتصر فضولها بِلحظة..
وخلف إحدى الشجرات الضخمة..اختبأت وأرهفت السمع مُحدِّقة فيهما!
**********
لم تستطع سُهَيلة التظاهر باللامُبالاة أكثر من ذلك خاصة وهو يجلس إلى جوارها منذ دقائق ويُحدِّق بها بهذه الجرأة مُستغِلًا انشغال أبيها مع والد ثائر فالتفتت له هاتفة بِنزق:
_ماذا تريد تميم؟
سألها بِصوت خافت:
_ألازلتِ غاضبة مني؟
أشاحت بِوجهها مُتمسكة بآخر قدر من حفاظها على جفائها فتابع هو بأسف:
_أعتذر، أعتذر إن أحببت إثارة غيرتك لأتأكد قبل الخطوة التي سأُقدم عليها.
التفتت إليه بِحدة هاتفة بِغيظ شديد:
_ومن أخبرك أنني أغار؟! أنا فقط أردت بعض الاحترام لوجودي، وما دون ذلك فلا أهتم به، فلتقضي وقتك كله عبثًا مع الفتيات ليس لي شأن بك.
وبدلًا من أن يُبادِل هتافها بِمثيله ابتسم ثم سألها:
_أتحبينني سُهَيلة؟
توترت ملامحها فورًا ثم تظاهرت بتعديل وِشاحها وقالت باعتراض:
_تميم! ما الذي...
قاطعها مُتسائلًا بإصرار:
_ألازلتِ تحبينني؟ ألايزال قلبك يريدني؟ ألازالت مكانتي لديكِ كما هي؟
وأمام حاجته المُلِحة للإجابة والتي ظهرت على وجهه واضحة أجابته بضعف:
_أنت مُرشدي ومعلمي وصديقي تميم، تعلم ذلك جيدًا.
لكن إجابتها لم تُشبِع رغبته فسألها للمرة الثالثة:
_وهل لازلت حبيبك أيضًا؟
تَهَدَّلت كتفاها ثم رددت باستسلام:
_إلى الأبد ستظل.
اتسعت ابتسامته وتجولت عيناه على ملامحها بِصمت ثم قال بِتصميم:
_سنتزوج سهيلة، سنتزوج في أقرب فرصة.
ارتفع حاجباها في دهشة وهي تهتف به باعتراض:
_من سيتزوج بمن؟ هل تمزح؟!
هز رأسه نفيًا ثم قال بهدوء شديد لم يخل من الصرامة:
_أنا لا أمزح، لقد كنت أحسب أيام عِدتك بالساعات، لكنني خشيت من التسرع بمجرد انقضائها، خشيت أن تكوني قد كرهتِني بالفعل، خشيت أن أكون قد خسرت كل فرصة لي معك، فآثرت الصبر والانتظار مُجددًا حتى أحصل على أية إشارة تُعطيني الضوء الأخضر كي أستعيدك لي مرة ثانية.
وبينما هي تحاول التعامل مع كل ما يقوله تابع بصوت مُنخفِض:
_أعني.. مرة أخيرة، فلا فراق بيننا مجددًا.
والقلق شاب تعليقها الحائر:
_تميم..
لكنه تمعن بِعينيها أكثر ثم عَبَّر بِوَلَه عَمَّ يشعُر:
_لكم أحبك! ولَكَم طال انتظاري لاختطاف حقي بِحُبك! ويا لَعذاب قلبي بِظمأه لِقُربِك!
أسدلت جفنيها للحظات مُستسلِمة للإحساس الأروع على الإطلاق، وصدى كلماته القليلة يتردد داخل عقلها متزامنًا مع انفعالات قلبها بلا سأم أو ملل..
ثم فتحت عينيها مرة أخرى قائلة باعتراض واه:
_اسمعني تميم، لن نستطيع أن...
هز رأسه نفيًا فَبَترت كلماتها بينما شدد هو هاتفًا:
_لن أستمع لأي هراء منكِ ثانية سُهَيلة، ولن أنتظر أكثر، ستُصبحين زوجتي حتى لو اضطررت لعقد قراني عليك وأنتِ مُخدرة، حتى لو اضطررت لِقتلك و لِحملك إلى بيتي جُثة هامدة، ما الحجة التي سترفضينني بها هذه المرة؟ أخبريني!
سكت لِوهلة يستقبل أنفاسًا هائجة ثم تابع بِصياح دون اهتمام بالذهول الذي احتل وجهها:
_افهمي جيدًا واعتبري نفسك قد أصبحتِ ملكي لأنني أقسمت أنني لن أتركك، ولا تراجع الآن فقد نفد صبري معك إلى الأبد.
تلفتت حولها وهي تحمد ربها سرًا أن لم ينتبه إلى صوته أحد، ثم عادت تنظر إليه بِغضب قبل أن تهمس بغيظ:
_يا رجل توقف عن الصراخ لحظة واسمعني! أنا لا أرفض الزواج بك، يبدو أننا أصبحنا كاللعنة لِبعضنا، وقد آمنت بضرورة اجتماعنا معًا كي لا يُصاب غيرنا في معركتنا، أيها الهمجي!
هدأت نظراته قليلًا وأصبحت مُتوجسة بعض الشيء عندما استدركت هي:
_ما عنيته هو أننا نواجه مُشكلة أخرى لابد من حلها أولًا قبل أي شيء آخر.
عقد حاجبيه بدهشة ثم قال مُستفهِمًا:
_أي مُشكلة؟
مطت شفتيها ثم رددت بِخفوت:
_فيروز، ألا تلاحظ حالتها المتدهورة؟ الفتاة مرتعبة وتكاد أن تفقد عقلها ذعرًا من عمها، تخيل أنه بالأصل يشك في حقيقة خطبتكما لتخبره أنت أنك بالفعل ستتركها له لقمة سائغة، إنه مجنون وظالم ولن يرحمها، لذا لا زواج إلا بعدما نطمئن عليها هي أولًا.
نفخ بتأفف ثم قال بلامُبالاة:
_سأسافر إليه وأحاول استدرار عطفه و...
قاطعته هي باستهجان واضح:
_عطف من؟! هل لو كان يمتلك ذرة من العطف سيُخيف المسكينة بهذه الصورة؟! يجب أن يكون لدينا خطة احتياطية لِننقذ الفتاة إذا ما رفض حل الأمر دون إثارة المشاكل.
والسخرية بِنظراته سَبَقَت قوله:
_ماذا تقترحين أن نفعل يا عبقرية؟
حمحمت سُهَيلة ثم اكتسبت نظراتها جدية واضحة _له مُخيفة_ قبل أن تسأله بِهدوء:
_الفتاة راشِدة، أليس كذلك؟!
رَحَلَت السُخرية وحل الحذر وهو يشعُر أنه سيستمع الآن إلى إحدى دُررها المعروفة فأجابها باقتضاب:
_نعم.
زاد الاهتمام في نظراتها ثم قالت ببساطة:
_تستطيع الزواج بِمفردها دون الحاجة إلى موافقة عمها.
فغِر فاه دهشة ثم صاح باستنكار:
_أتعتقدين أن عليّ أن أتزوجها؟ أنا أرغب في إنهاء خطبة فتقترحين الزواج؟!
والامتعاض ارتسم بأقوى صِوَرهُ على ملامحها وهي تتمتم بسؤال مُستهجن:
_كيف تُدير محلاتك بهذا العقل الفذ؟!
كز على أسنانه بِغيظ وهو يقول بتحذير:
_احفظي لسانك سُهَيلة! صدقيني بمجرد زواجنا سأعمل على قص بِضع سنتيمترات منه.
كَتَّفت ذراعيها والتزمت الصمت فأمرها بِحنق:
_حسنًا، تابعي!
عاد الاهتمام إليها على الفور ثم نظرت له بِعينين مُتسعتين مُرددة:
_أقول أن...
بَترت عبارتها وهي تبحث عن كلمات مناسبة ثم تابعت بِتردد:
_أنا أعلم أن ابن عمها نفسه لا يريد الزواج منها، وأن أخاه الأصغر يدين لزوجه أخيه لأنها قامت بتربيته بعد وفاة أمه وإهمال زوجة أبيه له لِذا لم يُبلغ أبيه بما علِم.
لم ينبس ببنت شفة بترقب فأضافت:
_ما رأيك لو تواصلنا مع ابني عمها لِنطلب دعمهما في تزويجها بآخر؟
بِمجرد أن أنهت اقتراحها ونظرت له بترقب مُتوقعة ردة فعله حتى ابتسم وهو يصفق لها قبل أن يقول ساخرًا:
_فكرة لامعة سُهَيلة، أحييكِ!
ثم شَبَّك أصابعه معًا وتظاهر بالتفكير قبل أن يقول بِشرود مُفتعل:
_لكن هناك سؤالًا هامشيًا قد يبدو غير ضروريًا: أين ذلك الآخر؟ أترين أن إعلاننا عن رجل بالغ يتطوع بالزواج منها أمر شائع؟!
وبالرغم من أنها شردت حقًا في صورتها وهي تلف أصابع يديها حول عنقه لتخنقه عِقابًا له على سُخريته منها، فإنها كظمت غيظها ورَدَّت وهي تُشير برأسها إلى باسل الذي يقف مع ثائر ووالد رَغَد:
_ولِمَ البحث؟ العريس موجود بالفعل، انظر تميم! لا يحاول حتى إخفاء لهفته عليها.
أدار رأسه لِينظر إلى حيث إشارتها فاتسعت عيناه وهو يهتف بلا تصديق:
_أنتِ تعنين باسل؟!
وعندما نظر إليها ليجدها تبتسم بِفخر سألها باستنكار:
_من أخبرك بِهذا؟ إنه لم يرها سِوى مرتين تقريبًا.
هزت كتفيها بلا اكتراث ثم قالت باقتناع:
_الحب لا يتعلَّق بالوقت تميم، يستطيع إنسان أن يحب في لحظة، بينما لا يستطيع آخر أن يحب في عام كامل.
"من تقصد بذلك الذي لا يستطيع أن يحب في عام كامل؟"
"هل تفكر به؟"
"هل تستعيد ذكرياتها الآن في هذه اللحظة بينما هو يجلس معها؟"
نفض رأسه بِعنف طاردًا أسئلة يعلم أنها لن تجلب له إلا العذاب، لكنه رغمًا عنه صاح بِغضب مُبالغ به:
_وإن يكن، هل أذهب إليه وأعرض عليه الزواج منها؟!
ارتفع حاجباها إلى جبهتها ثم هتفت بِذهول:
_يا إلهي! ماذا أحببتُ بك؟!
لكنها عادت لتميل أقرب إليه وهي تقول من بين أسنانها:
_أستحلفك بالله اسمعني دون أن تتسبب في إثارة غيظي أكثر، تخيل معي أنني في وضع فيروز، وأنت علِمت أنني سأُرغَم على الزواج من شخص لا أحبه في نفس الوقت الذي تُكِن أنت لي به بعض المشاعر لكنك لم تتخذ خطوة رسمية بشأنها، ماذا ستفعل؟
وبدون تردد هتف:
_سأتزوجك على الفور!
ثم أدرك مقصدها فكان حظه من الدهشة وهو يقول بِتوجُّس:
_لقد بدأت أخاف منكِ حقًا!
تابعت هي بِخفوت جاد فأنصت لها بكامل انتباهه:
_إذن ستسافر أنت إلى عمها وستحاول إقناعه أولًا كما تريد، وإن حدثت مُعجزة ما وتسامح ستكون القصة انتهت، وإن أصرَّ على ما يرغب حينها ننفذ خطتنا، نستطيع إشراك يُسْر معنا، تُخبر هي زوجها والذي هو صديق باسل فتتوالى الأمور وتتخلص فيروز من سطوة عمها وتتزوج بمن تريده ويريدها والذي_بالمناسبة_ تأكدت من يُسْر أنه شخص جيد للغاية، وعلى الجانب الآخر لن نشعر أيضًا بالندم يومًا لأننا خذلناها أو تقاعسنا عن مساعدتها واهتممنا بسعادتنا فقط.
أنهت حديثها ونظرت له بترقب فسألها بانبهار:
_متى وضعتِ هذا المُخطط؟
اتسعت ابتسامتها ثم أجابت ببساطة:
_وأنا أتناول الكعك الآن، هل أعجبك؟
اقترب منها مُتفحصًا إياها بِنظرة أخجلتها ثم هَمَس:
_الكعك الذي تصنعينه بيديك أكثر لذة بِمراحل!
انتشر التورد على وجنتيها فقالت بِحرج:
_أنا عنيت المخطط تميم.
لكنه تَعَمَّق بنظراته أكثر وعَلَّق بِهيام:
_أي ما يصدر عنكِ لذيذ حبيبتي!
**********
"قبل دقائق"
كانت تقف بجوار والدة زوجها التي حرصت على تقديمها إلى إحدى معارفها حينما شعرت بذراع تُحيط بِخصرها فالتفتت بِحِدة لتجده ينظر إليها بِعينين مُبتسمِتين بِعِتاب لم تُخطئه، توردت وجنتاها على الفور وهي تتهرَّب بعينيها منه فمال على أذنها قائلًا:
_لِمَ وَليتِ هربًا منذ الصباح الباكر؟ لم أشعر باستيقاظك ولا بانصرافك.
أخفت ابتسامتها بصعوبة ثم نظرت له قائلة:
_لم أهرب، لكنني كنت منشغلة مع والدتك في التجهيزات.
دقق النظر بِعينيها وذراعه تتشبث بِخصرها أكثر ثم تساءل بِعبث:
_ولِمَ لم توقظيني؟
توردت وجنتاها أكثر  ثم ردت بِخفوت:
_لقد.. لقد اعتقدت أنك تريد النوم فلم أشأ إزعاجك.
لاحظت والدته ما يحدث فابتعدت مع مرافقتها وهي تبتسم بِفرحة، أما هو فقد بدا وكأنه يتردد بعض الشيء، ثم ما لبث أن أنهى تردده ليمسك بِكفها ويتجه إلى الخارج بحزم.
هتفت به مُتسائلة وهي تتطلع إلى المحيطين في طريقهما إلى خارج القاعة:
_ثائر! ماذا تفعل؟ إلى أين سنذهب؟
لكنها لم تتلقى أية إجابة حتى وصلا إلى الحديقة التابعة للفندق ثم أسندها على أحد جذوع الأشجار وهو يُحدِّق بها بِعينين مُشتعلِتين لم يتركاها في أحلامها بالليلة الماضية.
ازدردت لُعابها ثم سألته بخفوت:
_ماذا حدث ثائر؟
مَر بِسبابته على ذقنها ثم شِفتيها وهو يقول بِحرارة تخللتها بعض الحيرة:
_اشتقت يُسْر، اشتقت مُجددًا ولا أفهم كيف أشعر هكذا بهذه السُرعة وطوال الوقت.
تلفتت حولها بِقلق ثم قالت:
_سيرانا أحدهم و...
لكنه قاطعها بِهمس:
_لا أهتم، ألستُ عريسًا أيضًا ويُتاح لي بعض الدلال؟
نظرت له باستسلام فَزَفر أنفاسًا نافدة الصبر واقترب منها لِيُغيبها معه في قُبلة أودعها كل عِشقه واشتياقه بِكرم فائق، ولم تكن هي بأقل منه اشتياقًا على الإطلاق!
_ابتعد ثائر، لم أعهدك بهذا التهور، كيف سيكون الوضع إن رآنا أحد معارفك؟
همست بها بعد ثوان بِضعف وهي تبتعد برأسها جانبًا باحثة عن بعض الهواء، ليُجيبها بِصوت مبحوح:
_أهذا ما يُشغِل بالك الآن؟ أنا أُفكر جِديًا بأن نترك هذا الزفاف على الفور، لا أقوى على الانتظار أكثر.
تخللت نظراتها بعض الدهشة وهي تسأله:
_ماذا هناك ثائر؟
أسند كفه على جذع الشجرة بِجوار رأسها ثم أجابها بِحرارة:
_هناك نيران يُسْر، نيران تشتعل داخلي بِمجرد رؤيتك أمامي، ألا تستطيعين إخمادها قليلًا كي لا أخرج عن سيطرتي في زفاف أخي؟
ابتسمت بِرِقة فتابع مُتسائلًا بِحيرة وهو يتلمس وجنتيها بيده الأخرى:
_ماذا تفعلين بي يُسْر؟ كيف أظل طوال الوقت أفكر بكِ؟! كيف لا أود الاكتفاء منك؟! ولِماذا لا أريد شفاءًا من حالتي هذه؟!
حدَّقت في وجهه ثم ارتفعت أناملها تتلمس أصابعه على وجهها وقالت:
_لأنها ليست مرضًا ثائر، ما بيننا ليس مرضًا، بالنسبة لي هو أفضل ما حدث بحياتي، لم أشعر بهذا مُطلقًا، ولا أتصور أنني كنت لأفعل مع سِواك.
اتسعت عيناه بدهشة ثم هتف بلا تصديق:
_يُسْر!
زَفَرت باستسلام وهي تبتسم ثم رددت:
_أنا.. أنا تشبثت بقوتي واستقلالي طوال سنوات عمري، كنت دومًا ما أسخر من المشاعر وممن يُسلمون قلوبهم للغير، كنت أقسم أنني سأظل مُحتفظة بِتعقُّلي ولن أسمح لأي رجل بالاستيلاء على قلبي، ولن أمنح أي شخص الفرصة لِلتحكم بِسعادتي أو بِحزني.
تسارعت دقات قلبه وهو ينظر إليها مُترقبًا فقالت بِحُب واضح:
_يومًا ما قال لي تميم أنني أستحق رجلًا قويًا يُعلمني أبجدية العِشق ويستخرج الأنثى المُتعطشة للحنان بداخلي، أستحق رجلا يستعمر قلبي وأخضع له فورًا ويكون هو الأول والأخير.
لم يستطع التزام الصمت أكثر وهو يقول:
_يُسْر...
لكنها قاطعته وابتسامتها تختفي ليحل محلها ألمًا:
_ويومًا آخر غضبت منك ورغبت بالثأر لِكرامتي فوصفت قُربًا ساميًا كان بيننا بأنه هوة لا قيمة لها.
والذكرى المؤلمة أعادت إليه ندمًا وأسفًا، لكنها لم تتوقف وهي تُحدِّق في عينيه بتصميم قائلة:
_ ما حدث يومها، وما حدث بالأمس منحاني معك تواصُلًا رائعًا لن أستطيع إيفاءه حقه لسنوات قادمة.
فغِر فاه بدهشة وقبل أن يُعلِّق تابعت بابتسامة رائعة:
_كنت أكذب ثائر، بينما صدقت نبوءة تميم، فأنت استعمرت قلبي وكنت الأول وستظل دومًا الأخير.
للحظات غرِقا في نظرات عاشِقة منها ذاهلة منه، حتى أمسكت هي كَفُّه ووضعتها على موضع قلبها قائلة:
_هذا القلب يا ثائر لم يدق يومًا لِسواك، لم يشعر بأنه حي ويرغب بالكثير إلا معك أنت فقط.
تسمَّر مكانه يشعر بِنبضاتها المُتسارعة ويخشى حتى التقاط أنفاسه كيلا يستيقظ من أروع حُلم على الإطلاق فيما استأنفت هي بِشجاعة:
_أُحبك ثائر، أحبك وأعدك أن أفعل كل ما بِوسعي كي تُبادلني حُبي، حتى لو لم أكن الأولى، فأنا سأكون الأخيرة بِقلبك، لن يتملكني اليأس ولن تعشق سِواي، هذا عهدي لك.
لقد اعترفت بها ليلة الأمس في غياهب لاوعيها؛
لكنها الآن مُتيقظة مُدركة لكل حرف تتفوه به!
تُحبه، تُريده، ولن تتخلَّى عنه!
يستطيع أن يعترف لها الآن بمنتهى الصدق والبساطة بأنه غارِق في عشقها حتى أُذنيه؛
يستطيع أن يُبشرها بأنها لا تحتاج إلى بذل أي مجهود كي تُنفذ وعدها؛
لكن.. لكنه لا يستطيع أيضًا؛
ليس الآن على الأقل؛
ربما عندما يتأكد يومًا ما بأنها لن ينتابها النفور أو السأم تجاه تعبيرات منه عما يشعر؛
قلبها بالذات لا يجرؤ على المُقامرة به ولا يتخيل فُقدانه!
رَفَع يدها الأخرى لِيُقبِّل باطن كفها بِكل العشق الذي يمنع نفسه من التفوه به بِصعوبة بالغة، ثم قال بِتصميم:
_لن أخذلك يومًا يُسْر، أعدك أنا أيضًا ألا تندمي على هذا الحُب، أعدك أنني سأكون جديرًا بِقلبك ما حييت، وعهدك هذا لن أسمح لكِ بِنكثه.
وابتسامتها الراضية جعلته يزفر بنفاد صبر وهو يقول بإلحاح:
_هيا بنا نهرب يُسْر، أريد أن أبقى معك وحدنا الآن، أريد أن أتحدث معك بمفردنا حتى الصباح، أريد أن أضمك بين ذراعي، أرجوكِ.
عقدت حاجبيها بِضيق مُفتَعل ثم قالت بهدوء لم يخل من بعض الصرامة:
_ثائر الجوهري لا يرجو أحدًا ولا حتى أنا، فلا تكررها!
ثم ابتسمت بِمكر اكتسبته منه مؤخرًا وقالت بِنبرة خطِرة:
_وبالرغم من أن فكرة الهرب الآن تروقني للغاية فإنني للأسف مُضطرة ألا أُغامر بِغضب العروسين.
هبطت نظراته إلى شِفَتيها وهو يضع كفيه الاثنتين على جذع الشجرة بجوار رأسها ثم قال بِهمس:
_أنتِ تتعمدين اللعب على أعصابي أليس كذلك؟! وتعرفين كيف بدأ تأثيرك بي يشتد وتستغلين هذه النقطة بِمهارة.
ضحكت بِرِقة أشعلته أكثر وهي تومئ إيجابًا، فتابع مُهددًا:
_وهل تعلمين أيضًا أنني لا أهتم بِكل هذا وأستطيع ضرب جميع التوقعات بِعرض الحائط وأختطفك الآن لتُدركي نتيجة أفعالك؟!
لكن تهديده الواهي لم يكن لِيُخيفها فَعَبثت بِرابطة عُنُقه وقالت بِنبرة مُغوية جريئة لا تعلم متى اكتسبتها:
_أعلم، لكن.. أعدك أنك لن تندم على الانتظار.
والنظرة الواعدة الصريحة التي ختمت بها عبارتها قبل أن تفر هاربة جعلته يتخشب مكانه لِثوانِ قبل أن تتسع ابتسامته الذاهلة..المُترقبة...المُتشوقة!
ولم تكن تلك المُختبئة بعيدًا بأقل ذهولًا منه؛
أهذا هو زوجها السابق؟!
لقد أخبرها عدة مرات بأنه يحبها؛
وحاول كثيرًا جذبها إليه ففشل؛
وحينما حلَّت الفاجعة وانقلبت أحواله معها رأت الجانب السيء منه بِكل قسوة؛
كيف يكون هو نفسه هذا العاشق المُتيم الذي يختبىء بين الأشجار في الظلام وأثناء حفل زفاف أخيه دون اهتمام بِرؤية أحد له لِيُقبِّل زوجته ويتبادل معها حديثًا هامسًا تُقسم أنه شاعريًا؟!
وأين ذلك الآخر البارد المُتحفظ الذي لا يملُك أهم من مظهره لِيُغامر به بِتلك الرعونة؟!
**********
انصرف موظف خدمة الغُرف بعد أن ترك الطاولة التي وُضع عليها عشاء العروسين فأغلق زيدان الباب وعاد إلى الداخل..
إلى عروسه؛
الجميلة؛
الرقيقة؛
التي تجلس على إحدى الأرائك تحاول إظهار تماسُكًا وهميًا حياها عليه بداخله..
صور عديدة تتدافع إلى عقلها..
فرحة والدها المبالَغ بها حتى أنها لم تكن لتندهش لو رقص كاليافعين هذه الليلة؛
وصاياه الحازمة بأن تطيع زوجها ولا تزعجه.. ليس منبع تلك الوصايا رغبته في سعادتها واستقرارها بالطبع، إنما تحذيرها من تهديد هذا الرابط الجديد الذي سيساعده على إعادة خططه لتحقيق حلمه!
والدتها التي ودعتها ببكاء كالكثير من الأمهات بنفس الوضع؛
لكن.. ليس الاشتياق وحده من كان سبب بكائها، بل لأنها ستتركها وحيدة بين والدها وشقيقتها حيث يغرق كلاهما في حياته دون اعتبار لوجودها معهما!
وشقيقتها.. لم تخفِ نظراتها الحاقدة لأنها خالفت رغبتها وأتمت زواجها من زيدان، لكنها لم تأبه في الواقع، ربما بعد بعض الوقت ستتأكد رهام أن لا ضرر سيقع عليها بسبب هذا الزواج!
والدا زوجها وشقيقه و.. تلك الأخت الجديدة، ودعوها جميعًا أمام الفندق بتهنئات صادقة، فَرِحة، تدعو لهما بالسعادة!
يفقد المرء عائلة.. ويكتسب عائلة أخرى؛
يشعر الإنسان بالخسارة.. ويفوز على الفور بمكسب لم يكن من الجرأة ليتخيله!
وزيدان.. زيدان الذي ضحد كل شكوكها حول حبه لها طوال الأيام الفائتة، مع وعد قوي بمستقبل دافئ يستحقانه سويًا.
اقترب منها ببطء فسقط قناعها والاضطراب يتمكن منها بسهولة، حتى عندما أمسك بيدها وجدها باردة كالثلج، أدار وجهها الهارب منه إليه ثم سألها باهتمام:
_ماذا بك رَغَد؟ لِمَ كل هذا التوتر؟ أنا زيدان حبيبتي.
نظرت له مُفتعِلة ابتسامة مُرتبكة ثم أجابته بصوت متقطع:
_أعلم زيدان، لكن.. لا أدري ماذا بي.
دقق النظر بها ثم سألها بِخفوت:
_أتخافين مني؟
رمقته بِقلق ثم رددت بِهدوء:
_لا أخافك زيدان، لكنني أتساءل ماذا إن.. ماذا إن تعارض هذا الحب مع رغبة أبي غير السرية بالنسبة لك، أو إن شَب خلاف بيني وبينك فتعيرني بأن أبي كان مُستعدًا دومًا لِبيعي لك بأبخس الأثمان، ثم تنفصل عني على الفور!
اتسعت عيناه بذهول ثم هتف بها بِغضب:
_ما هذا الهراء رَغَد؟ لقد سمعت كثيرًا عن توتر الفتاة ليلة زفافها، لكنني لم أكن مُتخيلًا أن يجنح خيالك إلى ذلك الحد!
وعندما لاحظ وجلها صمت للحظات ثم أردف بِضيق:
_ألم أُحذرك من التفكير بهذه الطريقة من قبل؟
حاولت السيطرة على حالتها الضائعة فقالت بأسف:
_أعتذر زيدان، سأُبدل ملابسي لنتناول طعام العشاء.
وعندما هَمَّت بالتحرك وقف أمامها ثم تمسك بكلتا ذراعيها قائلًا بِنبرة صادقة:
_أنا أحبك رَغَد، حُبِّك بِقلبي كزهرة ظلت مُتخفية طويلًا  تحت أوراقها ثم أينعت فجأة ليُشرِق جمالها وينتشر عبيرها بداخلي فيصير علاجًا مُنهيًا كل عذاباتي وآلامي.
تمعنت به بنظرة راجية فسألها بِعتاب:
_كيف تفكرين أنني أستطيع التفريط بكِ مُجددًا؟
لكنها ردت ببساطة:
_لأنني أحبك زيدان، لِذا يتمكن مني الخوف، والخزي.. والضعف.
ابتسم لها بِحب ثم ردد بهدوء:
_لكن حبي لكِ منحني قوة وصفاء ورغبة بالحياة، أترين الفارق؟ لا تستسلمي لتلك الأفكار حبيبتي، فأنا لا أطيق صبرًا للحصول على سعادتنا سويًا.
التزمت الصمت فابتسم هو مُتابعًا:
_كما أنني سأطالبك بتأكيد حبك لي دومًا وبِغزارة، وربما سأبدأ على الفور.
واحتل المكر ابتسامته وهو يُخفِض من صوته قائلًا:
_كنتِ تتحدثين عن طعام العشاء، لكنني لا أرغب بتناوله الآن، فهل أنتِ جائعة؟
نظرت له بِخجل فـأردف بِرجاء:
_قولي لا رَغَد، أتوسل إليك قولي لا!
ولم تجد بُدًا من انصياعها لِرغبته، فهو سيظل كما كانت تشعر دومًا.. طفلها المُدلل!
لِذا هزَّت رأسها ببطء هامسة:
_لا!
وعادت الابتسامة؛
وزاد الاقتراب؛
ليحلَّ حجاب رأسها؛
فيقوم بإرواء ظمأه؛
ولِيُتَوَّج حبهما أخيرًا!
**********
أنهت القصة التي تُلقيها على الطفلة لِتجدها قد نامت بالفعل فتطلعت إليها بِحنان لِتُمسد على شعرها بِرقة وظلت إلى جوارها للحظات، لكنها رَفَعَت رأسها مُجفلة عندما سمعت سؤاله:
_ألا ترين أنكِ تُدللينها كثيرًا؟
وقفت وهي تُدثرها جيدًا لتجيبة ببساطة:
_سيلا تحتاج إلى الحنان كثيرًا، أتعتقد أنه يجب عليّ ألا أحاول تعويضها؟
نظر إليها قادمة تجاهه فَرَد بِهدوء:
_أنا لم اتعمد أن أبتعد عنها، لكنني..
بتر عبارته بِحيرة فاستحثته وهي تتأبط ذراعه إلى الخارج قائلة:
_لكنك ماذا؟
تمسك بِذراعها وردد بِحرج:
_أحيانًا لا أعرف كيف أتعامل معها، لقد.. لقد مرَّت ثلاثة أعوام أو أكثر منذ أن..
بتر عبارته ثانية ثم تابع:
_بالتأكيد هي لا تتذكر أي شيء جيد عني.
حدَقت به بدهشة ثم هتفت:
_أتمزح ثائر؟ ابنتك لا تحب أحدًا بِقدرك، إنها تُنادي الجميع بأسمائهم إلا أنت، إنها تُراعي ردود أفعالك على كل ما تقوم به أمامك وتحاول جذب انتباهك وإثارة إعجابك بِشتى الطرق.
ظل صامتًا حتى وصلا إلى الغرفة وجلس على الفراش شاردًا  فاحترمت هي رغبته، وبعد أن بدَّلت ملابسها بداخل الحمَّام خرجت لِتجده لايزال على وضعه، لكنه عاجلها بهدوء دون أن ينظر لها:
_لقد.. لقد كِدت أفقدها يومًا يُسْر.
اتجهت إليه وجلست إلى جواره ثم ضغطت على كفه قائلة:
_ثائر، ليس معنى أنك أهملتها لِفترة أنك ستفقدها و...
قاطعها وهو ينظر إليه ليهالها الألم المُرتسِم بِعينيه:
_أعني أنني كنت سأفقدها حقًا، كانت ستغرق في المسبح.
فغِرت شِفتيها بِصدمة فتابع:
_وهي بعمر العامين أوشكت على الموت، كُنت سأُعاقَب بأقسى الطرق على...
بَتَر عبارته فجأة والشرود يحتل نظراته عائدًا إلى ماضٍ قميء، وإلى أسوأ يوم مر بِحياته...
"لكنني لن أتحمل وجودِك أمامي دقيقة واحدة، فلترحلي وتتركينا!"
"إذا رحلت سآخذها معي!"
"ارحلي إذن!"
"حاذري سيلا!"
"هل تتنفس؟"
"لقد ابتلعت كمًا كبيرًا من المياه."
"يا إلهي! ابنتي! سيلا أرجوكِ أنا آسف، لن أتركك!"
"ابنتك كانت ستموت بسبب شجارك معي ثائر، كنت ستقتلها!"
وقبضة أصابعه على كفها جعلتها تهتف به بِقلق:
_حبيبي! اهدأ! حمدًا لله هي بخير الآن وصحتها جيدة، الأطفال تقع لهم الحوادث دومًا.
نظر لها بِضياع ثم حدَّق في يدها التي احمرَّت بأسف فرَبَّت عليها متمتمًا باعتذار، لكنها تابعت بِمرح:
_لقد كدت أن أدفع سُهَيلة من الشُرفة ذات مرة أثناء طفولتنا وكان رد فعل أبي حينها أن قال لي بلا اهتمام: كنتِ ستُكلفيننا الكثير من مصاريف العلاج!
وابتسامته الواهية طمأنتها قليلًا فأردفت بِصدق:
_ما أرغب في قوله أنك تقوم بدورك تجاهها جيدًا، أنت الأب الأروع على الإطلاق، وحتى إن اهتممت أنا بها أو اهتم بها الجميع ستظل تريدك أنت، ما ينقصك فقط أن تعبر لها بِتلقائية عن حبك لها واهتمامك الشديد بها.
دقق النظر بها ثم سألها بِخفوت:
_أيضًا كما تفعلين أنتِ معي؟
ابتسمت بحنان ورَدَّت ببساطة:
_كما أفعل أنا معك.
تخلص من أفكاره السلبية ليتأمل هيئتها الناعمة مَليًا وهو يلاحظ لِتوه المنامة البنفسجية الحريرية التي ترتديها، مَرَّ بإصبعه على بشرة ذراعها قائلًا:
_أتعلمين كيف أرانا معًا؟
أغمضت عينيها مُحاولة التحكم بالرجفة التي تتسلل إليها تفاعُلًا مع لمسته ونبرته فتابع هو بخفوت:
_أراني لوحة بيضاء تمامًا تم طلائها كلها باللون الأسود وتُركَت لِتجف، ثم أُهمِلت لِسنوات حتى اقتنعت أنها سوداء حقًا وأن هذا هو اللون الذي صُنِعَت به.
فتحت عينيها تنظر له بِقلق، فاستأنف بابتسامة اتسعت ببطء:
_ثم تظهرين أنتِ في هيئة عُلبة رائعة من الألوان، تُحاولين طلائي فلا تستطيعين، لِتبدأي بِتقشيري بِصبر وعزيمة حتى تظهر الطبقة البيضاء مُجددًا، وكلما اتسعت الرقعة البيضاء تُضيفين الألوان عليها بالتدريج ثم تتابعين التقشير مرة ثانية، فأصبح أنا لوحة سوداء تحمل بعض الألوان الشاذة، لكنها جميلة!
رَفَعت يدها لتحُط على وجنته مُتسائلة بِهمس:
_أخبرني إذن متى سأستطيع تقشير كل ذلك الأسود ثائر؟
هز رأسه بلا معنى، ثم أجابها بخفوت:
_لا أعلم، ربما لايزال هناك بعض الوقت، لكنكِ تنجحين بسرعة مُثيرة للارتياب، وبقوة مثيرة للإعجاب، ولا أملك معك سوى الترقب.. والشغف.
ابتسمت هي بخجل ثم قالت بصوت خفيض تخلله مكر مُحبب له بشدة:
_لا يكفي، أعتقد أنه عليّ تكثيف جهودي بعض الشيء!
فاقترب منها لِيدفعها إلى الخلف بِرِقة ناظرًا لها بِعينين مُعبرتين ثم همس بِنبرة خطِرة:
_أنتِ مُذهلة، إنه بالتحديد ما كنت أفكر به لِتوي!
وارتفعت ضحكتها العابثة المستسلمة، فَبترها هو بطريقته الفعَّالة!
**********
"بعد ثلاثة أيام"
مُعتمرًا قُبعة، مُتخفيَّا خلف نظارات شمسية وبنية جسدية صارت هزيلة ضعيفة.. تظاهر بأنه يبتاع بعض الشطائر من المحل المُقابل لِبيتها ووقف منتظرًا يقضم اللقيمات ببطء حتى ظهرت هي أخيرًا..
نظر إليها بِندم شديد بينما هي تستطلع وصول سيارة الأجرة بِتركيز ولا تنتبه لوجوده على الإطلاق..
لقد خرج من المشفى منذ أسبوع وبحث عن آخر معلومات عنه لتنتابه الراحة عندما علِم أنها لم تتزوج؛
هذا يعني أنه لم يفقد الفرصة كاملة وربما لايزال لديه بعض الأمل في استرجاعها؛
لكن ما أثار قلقه حقًا اكتشافه أنها تُدير محلًا لِصناعة الحلوى!
ليس المجال بالطبع ما يعترض عليه فهو يعلم أنه هوايتها المفضلة التي تتقنها، لكن معرفته أن صاحب المحل هو نفسه قريبها الذي رآه بِضعة مرات ولم يُخفِ كراهيته له هو ما يجعله يتردد في التحدث معها.
هو رجل ويعلم أن الآخر يغار منه؛
ربما كان يحبها فَصَدته؛
أو ربما هو نفسه الحبيب الذي عانت في افتراقها عنه.. وهذا الاحتمال وحده كارثة مُحققة!
لم يدر يومًا بهويته ولا يريد الآن؛
كل ما عليه الاهتمام بشأنه هو إعادة سُهَيلة إليه بأية وسيلة ممكنة!
***** نهاية الفصل العشرين*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 😍😍

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن