الفصل الثانى

213 11 0
                                    

الفصل الثاني................................
السماء غائمة والثلج يغطي الطرقات والأرصفة ..كانت متجهةً إلى المتجر لشراء بعض الأشياء الضرورية عندما لمحته من بعيد يحمل بيده كيساً صغيراً وكلبه يسير جانبه وهو يهز ذيله بنشاط رغم عرجة الواضح للعيان إلا أن جسده كان ضخماً عضلياً يدل على بنية قوية ومتناسقة .. يرتدي بنطالاً من الجينز الأسود مع معطف جلدي يماثله باللون يضع قبعه عريضه على رأسه بينما يلف وشاحاً بنياً حول رقبته.... قطبت بفضول .. إلى أين يذهب ياترى ؟!
لاتعرف لِمَ سارت خلفه تتبعه كالمنومة ؟!.. بقي يسير مسافة إلى أن وصل إلى البحيرة ووقف أمامها لبعض الوقت ... كان يتمتم ببعض الكلمات وهو ينظر لكلبه ...المسافة لم تكن كافية لترى ملامحه جيداً كما أن القبعة كانت تحجب نصف وجهه .. فتح الكيس الورقي وأخذ يقطع الخبز ويرميها إلى مجموعة من سرب الأوز الذين كانوا يتسابقون بالتقاط مايرميه بنهم ... جلس على المقعد الإسمنتي وهو ينظر أمامه يراقب الأوز وهم يستعدون للطيران مهاجرين إلى موطنهم الدافئ .. بينما عاد بذاكرته إلى :
تلك الأشهر التي قضاها في المشفى كانت أيام تعيسة جداً .. إثني عشر شهراً وهو ينتقل من عملية جراحية لأخرى .. إثني عشر شهراً من العذاب المستمر والآلام المبرحة .. قدمة من جهة .. وحروق جسده من جهة أخرى ... أغمض عينه وأصدر صوت تأوه وكأنه حيوان جريح ... عند خروجه من المشفى انزوى بشقته جالساً في الظلام احتاج إلى وقت طويل ليعتاد على بشاعة جسده و جروحه .. عندما نظر لانعكاس وجهه للمرة الأولى علم وتأكد من أن حياته من المستحيل أن تعود كما كانت أبداً ...وأن روسيندرو المرح ذو الشعبية الواسعة والروح الجذابة قد ولى بعيداً بغير رجعة !!!!!!!
بقي فترة من الزمن متصلب مكانه ينظر إلى اللاشيء كان يبدو عليه التفكير العميق ... نفثت الزفير الدافئ براحة يديها وحركت قدميها بمحاولة منها لبث الدفئ بهما ... الآن لمَ هي واقفة هنا في هذا البرد ؟!مالذي يجبرها لمراقبته ؟!! تباً لفضولها المقيت ... تمتمت بملل :
" أوف الظاهر أنه سيبقى لفترة طويلة "
استدارت لتسلك طريق العودة إلى القرية بعد أن يأست من معرفة ما يفعله ذلك الغريب إلا أنها فوجئت بأصابع قوية تسحبها لتستدير اختل توازنها وكادت أن تسقط أرضاً غير أنه أمسك خصرها بيده الأخرى أرادت الابتعاد بينما ضربات قلبها صمت أذنيها .. لكنه لم يدعها إذ غرس أصابعه بذراعها بقوة أكبر رغم معطفها السميك إلا أنها شعرت بالألم الشديد رفعت نظراتها لتصطدم بعسل عينه كان مقطب الجبين يتفحصها بحدة ... قال لها هامساً بشراسة :
" من أنت يا فتاة ولمَ تلاحقيني ؟! من بعثك ورائي ؟ "
لجم لسانها وانعقد كانت قريبة منه جداً لم ترَ إلا نصف وجهه لأنه كان يغطيه بالوشاح ... لأول مرة تلتقي به عن قرب ....عينه كانت متألمة رغم قسوتها ...... لهجته وذبذبات صوته كانت مثيرة ذو لكنة جذابة دغدغت مسامعها رغم رعبها منه إلا أن الدفئ تسلل إلى قلبها ....... إذن هو ليس من سويسرا ربما من أمريكا أوبريطانيا ..
" تكلمي تباً لك !"
تعلثمت قائلة وقد عادت إلى رشدها :
" أنا ... أنا ..."
همس بوحشية وهو يقرب وجهه المحجوب عنها أكثر وأكثر :
" أنت ماذا ؟! ها ؟ ماذا إعترفي من دفعك لمراقبتي ؟!"
قالت بخوف حقيقي هذه المرة لا يقبل الشك يا إلهي هو يعتقد أن أحداً ما بعثها لتراقبه لقد خرجت الأمور عن السيطرة فكرت بهذا قبل أن تجيب :
" سيدي ...أنا ....لم أكن أتبعك ...أنت... تتوهم !!"
ضيق عينه يراقب بانتباه تعابير وجهها المذعورة.. هو يعرف لا بل متأكد من أنه الفضول لكنه تعمد إخافتها قال بقوة وهو يحفر أصابعه القوية بذراعها :
" إعترفي يا فتاة لست ساذجاً لأصدق أكاذيبك !!"
قالت بشفاه مرتجفة وعينان دامعتان وهي تجاهد لتخليص ذراعها من قبضته :
" صدقني سيدي إنها مجرد صدفة !!"
تنهد بعمق أراد أن يمارس رعبه عليها لكن وجهها المذعور جعلته يشعر بالشفقة ... المسكينة سيغمى عليها من الخوف همسها ساخراً ... ثم تركها ببطء مغمغماً بحدة :
" إذهبي من أمامي قبل أن أغير رأيي وأريك شيئاً لم تريه بحياتك كلها !!"
تجمدت مكانها ليهدر بقسوة :
" هيييييااااا"
أطلقت ساقيها للريح لتهرب من أمامه بلمح البصر بينما ابتسامة ميتة ظهرت على وجهه وهو ينظر لأثرها شارداً :
" فتاة ساذجة وتافهة لا تعرف مع من تتعامل !!"
......................
ما إن ابتعدت عنه حتى تنفست الصعداء قطبت تفكر به وهي تفرك ذراعها همست بغل :
" المختل لقد كاد أن يكسر ذراعي "
برقت عيناها الخضراء بتحدي وعناد
" حتى لو فعلت أكثر من ذلك لن تتخلص مني بسهولة سأكتشف سرك مهما كان الثمن !"
قسوته وشراسته لم تزدها إلا فضولاً هي بطبيعتها تعشق القصص الغامضة وغموض هذا الرجل يكاد يفقدها صوابها يجب أن تجد طريقة لكشف أمره !!!!
................................
كانت تجلس مع جيسي في صالة منزلهم تحتسي القهوة قالت جيسي وهي تهز رأسها بيأس :
" حقيقةً لا أعرف لِمَ أنت مهتمة بتتبع أمر ذلك المدعو روسيندرو ؟!"
ارتشفت القليل من القهوة ثم أجابت بهدوء :
" لا أعرف جيسي ..هناك لغز أريد أن أكتشفه .."
قالت جيسي بدهشة :
" وما شأنك أنت بحل لغزه لارا ؟! يجب أن تحذري فلربما تكون الشائعات التي يطلقها عليه القرويين صحيحة "
كانت لارا تنظر لها بصمت لتكمل جيسي مواعظها .. فهي تحب لارا كشقيقة حقيقية لها فلارا رغم قوتها التي تبديها ظاهرياً إلا أنها داخلياً شديدة الهشاشة ... تتأثر بكلمة واحدة لكنها لاتبين ذلك .
" صدقيني لارا الدخول لمنزله مجازفة كبيرة كمن يدخل عرين الأسد بقدمه ثم ماذا بشأن جدتك ؟! إذا لم تعدلي عن رأيك سأضطر لإخبارها بنفسي فهمتي ما أقول ؟!"
زمت لارا شفتيها باستياء وهي تبادلها النظرات بوجوم ثم قالت :
" ليس الأمر بهذا السوء الذي ذكرتيه "
قاطعتها جيسي بغضب :
" عديني أنك لن تذهبي لمنزله .."
صمتت لارا وهي تقطب بطفولية لتهتف جيسي بإصرار :
-عديني وإلا أخبرت جدتك بكل شيء !"
تنهدت بخفوت وهي تدعي الاستسلام :
" حسناً "
رفعت جيسي حاجبها :
" حسناً ماذا ؟!"
أجابت لارا بغيظ :
" حسناً لن أذهب "
هزت رأسها بعدم اقتناع بدت وكأنها معلمة تعاقب تلميذاً مشاكساً :
" لا ... قولي حسناً أعدك أني لن أذهب !"
ابتسمت لارا رغماً عنها وقالت :
" حسناً أعدك أني لن أذهب .."
تنهدت جيسي بعمق وكأن عبئاً ثقيلاً انزاح عن كاهلها .. ثم قالت لها بجدية :
" الآن أنا أشعر بالراحة .. والآن أخبريني .."
أجابتها لارا بتساؤل :
" أخبرك ماذا ؟"
قالت لها وهي تغمز بعينها :
" ألا يوجد شيء ما في الأفق "
رمشت بعينيها تجيبها بسذاجة :
" لا أعرف مالذي تقصدينه ؟؟!!"
لوت شفتها بامتعاض :
" حب جديد ؟؟"
ابتسمت بحزن بينما عيناها الخضراء أصبحت قاتمة :
" وهل كان هناك قديم ليكون هناك جديد ... من سينظر إلى دب الباندا جيسي ؟!"
هزت جيسي رأسها بثقة وهي تخبرها بقوة :
" لا تتفوهي بهذه الحماقات لارا ..أنت رائعة الجمال عزيزتي ..محظوظ هو من امتلك جوهرة نادرة الوجود مثلك "
وضعت لارا خصلة من شعرها وراء أذنها بيدٍ مرتجفة :
" ربما لأنك صديقتي تريني هكذا ... لكن الحقيقة هي ... أنني ... أنني ... فاشلة بكل شيء .. كل شيء.."
قالتها بضعف وهي تسبل أهدابها وتلعب بأصابعها بتوتر ... جعل قلب جيسي يتمزق ألماً لأجلها تلك اللارا ماهي إلا طفلة في جسد امرأة ... طفلة تتوق إلى الاهتمام ... لِمَ أصبح البشر يتفننون بالتجريح ؟!لِمَ أصبحنا نعيش بغابة مفترسة موحشة ؟!... لِمَ أصبح الاستهزاء والسخرية هي مصدر سعادة للبعض ؟!...لارا تحتاج إلى دافع قوي ليعزز ثقتها بنفسها ويجعلها أكثر صلابة ... ابتسمت جسي بلطف :
" أنت لست فاشلة لارا أنت امرأة مستقلة وقوية .. ثم يكفي أنك تملكين قلباً معطاءا حنوناً أبداً لم يعرف الحقد يوماً .."
نظرت لها لارا وهي تبتسم بامتنان صادق لتكمل جيسي بثقة :
" سترين عزيزتي كيف ستحظين برجل يحبك بجنون رجل يعاملك كما يجب أن تعاملي ... أميرة على عرش قلبه وعندما يحصل ذلك تذكري قولي هذا والآن سأذهب لأعد القهوة من جديد لقد بردت دقائق وأعود إليك .."
اتجهت إلى المطبخ بينما امتدت يد لارا تتحسس جسدها ومنحنياتها الممتلئة وهي تتمتم بعينان حزينتان :
" يعاملني كأميرة ؟!!! من سينظر إلى لارا دب الباندا ليعاملها كأميرة ؟!"

رواية رياح الذكريات لكاتبة رقية سعيد القيسىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن