الجزء الأوّل: بداية الرحلة

3.1K 76 31
                                    

لاحت تباشير الصباح تعلن ولادة يوم جديد على سيواس القابعة تحت عباءة الثلج الأبيض منذ أسابيع مع بداية موسم الشتاء القارس. في أحد أحياء البؤس حيث أكبر طموح السكّان الظفر بوجبة طعام كاملة، وفي بيتٍ متصدّع جار عليه الزمن واستبدّت به الفاقة، صدح صوت عزيزة وهي تنادي ابنتها عديد المرّات. خرجت سحر إلى المصطبة مهرولةً مُبربرةً: "أرحني يا ألله، أرحني من هذا الشقاء، أنت القادر على كلّ شيء" وما إن أطلّت أمام والدتها المنهمكة بفرك الغسيل في القبو المُلحق بالمنزل حتّى تلقّفتها الأخيرة ناهرة:

-أين كنت؟ ألم تسمعيني أناديك؟

-أمّي، تُرى، أين عساني أكون؟ منكبّة على تنظيف البيت

-أتركي التنظيف وأسرعي إلى تحضير الطعام، أو... إسمعي، أنت أنشري الثياب، الشمس ساطعة هذا الصباح، وأنا أتولّى تحضير الطعام

-وتسمّين هذه ثيابًا!!! حتّى الخرق البالية أحسن منها

-سحر، لا تبدئي بموشّحك عند الصبج، لا مزاج لي على تحمّل تأفّفك الدائم

-مزاجك لا يحلو إلّا في حضرة ابنك المدلّل

نهضت نادرة من مكانها متأوّهة من ألم ظهرها المعتاد، حملت سلّة غسيل ضعضعها الزمن وناولتها إلى ابنتها آمرةً بحزم:

-كفّي عن كلامك السخيف وقومي بعملك فورًا

كان هذا الصباح كغيره من أصباح سحر كريم أوغلو بعدما أنهت دراستها في ثانويّة القرية بدرجة الامتياز. آمالها في دخول الجامعة هذا العام اندثرت مع العديد من الأحلام الورديّة التي نمت في مخيّلتها منذ نعومة أظافرها. كم حلمت بفستان جديد ترتديه يوم العيد! كم تاقت إلى هديّة تتلقّاها بمناسبة مولدها! كم تمنّت أن ترافق صبايا الحيّ في نزهاتهنّ المسائيّة إلى الميدان، تشتري غزل البنات والسمسميّة! وكيف لها أن تحقّق أمانيها وهي ابنة عائلة معدومة الإمكانيّات تعيش من القليل الذي يجنيه أخوها سليم لقاء أجر زهيد في أحد دكاكين السمانة؟ فقدت والدها منذ خمس سنوات إثر تعرّضه لسكتة قلبيّة. كان كريم، رحمه الله، رجلًا محبًّا صادقًا طويل الأناة غير أنّ الحياة لم تنصفه، رمته على هامشها فلّاحًا فقيرًا يعيل عائلته الصغيرة ممّا تيسّر. أخوه الأكبر إحسان هاجر إلى فرنسا يوم ولادة سحر هربًا من البؤس وانقطعت أخباره بعد أشهر قليلة من غربته فلم يتبقَّ له غير أخته شفيقة زوجة موظّف في سكك الحديد في عنتاب، لا تزور سيواس إلّا في المناسبات. موته المفاجئ أفقد سحر صدرًا حنونًا تلتجئ إليه في أوقات الضيق وضاعف هموم الأسرة المعيشيّة ليجعلها تجابه قساوة الحياة عزلاءَ مجرّدة من الحيل والحماية.

عند الظهر، حملت سحر الغداء لأخيها حذو كلّ يوم، وهي مصمّمة على إقناعه بذهابها إلى اسطنبول، لن تيأس من رفضه السابق، خالتها وعدتها بالمساعدة فكيف ترفض النعمة وهي بأمسّ الحاجة إليها؟ لن تقف مكتوفة اليدين تتأمّل الفرج من بضع ليرات تتبقّى للعائلة في نهاية النهار، أتتها فرصة ذهبيّة لتخلّص أسرتها من شبح الفقر، لكنّ تعنّت أخيها يرمي بهذه الفرصة إلى قاع البحر، لا يريدها أن تبتعد عن كنف العائلة بحجج واهمة، يخاف عليها من حياة اسطنبول الصاخبة التي يمكن أن تجرف بتيّارها فتاة جميلة في ربيع العمر تنقصها الخبرة في التعامل مع البشر، يخشى عليها من الغربة القاسية تنهش وحدتها، هواجس أخ حوّله اليُتم إلى ربّ عائلة رغم سنواته الإحدى والعشرين القليلة وسلّمه الدفّة يتحكّم بزمام الأمور. لم يُكمل سليم تعليمه الدراسيّ بعد تعرّضه لإعاقة دائمة في يده اليمنى إثر وقوعه عن سطح المنزل قبل موت والده بسنة.

خادمة القصرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن