وصلت العائلة مساء إلى باريس في جوّ من الدهشة والاستغراب، كلّ من كان في تلك الشقّة الفخمة استعدّ للاستقبال، خدم وحشم ومساعدون ينثرون على الضيوف ابتسامات المودّة وعبارات الترحيب باللغة التركيّة. إنبهرت سحر بالأجواء الأرستقراطيّة التي نسجت رقيّها من جدران منحوتة تعلوها إطارات مذهّبة تحمل رسومًا أصليّة لأشهر الفنّانين العالميّين، ومن تحف نادرة تزيّن مناضد رخاميّة تتوزّع بين أثاث فرنسيّ من طراز لويس الخامس عشر. تراءى للشابّة أنّها في قصر أحد الملوك فاكتنفها ذهول لم تستفق منه إلّا بعدما طلب منها وجيه أن تلحق بأمّها وأخيها لمقابلة السيّد إحسان في جناحه.
تهالك على الأريكة في جناحه المظلم مستسلمًا لنيران الحزن التي اشتعلت في روحه، حزن الفراق يمتزج بنار الغيرة، رحلت حبيبته الصغيرة كما ترحل طيور أيلول في مطلع الخريف تبحث عن الدفء في مكان ترعى فيه الشمس، غير أنّ الطيور تعود مع تباشير الربيع فيا ليتها تحاكي طقوس الطيور. أغمض عينيه يحبس في مجريهما دموعًا لاهبة ثائرة تأبى الانحباس، ألقى بذراعه على أسفل جبهته يخفي حتّى عن نفسه فيض الدمع، من أنكر على الرجال البكاء؟ هم، في الحقيقة، يبكون غير أنّ بكاءهم يضاهي انهيار الجبال.
ما أفظع اللقاءات التي تحفر لحظاتها في تاريخ الذاكرة! إحسان مازال، رغم وطأة المرض والغربة، يتذكّر آخر لقاء جمعه بأخيه في المستشفى، يوم ولادة سحر. أتى لاهثًا وراء ثمن التذكرة، همّه الوحيد الهروب من البؤس، لم ينتظر حتّى رؤية المولود بعد حصوله على مدّخرات كريم لمصاريف الاستشفاء، وعده بالتعويض ومدّ يد العون بعد أن يلقى فرصة ملائمة في بلاد الغربة لكن بعد وصوله إلى باريس تورّط بحادث مع زمرة من المتسكّعين أدخله السجن لخمس سنوات فسُجنت معه كلّ الوعود. بعد إطلاق سراحه، وفي أحد الملاهي الليليّة، تعرّف صدفة على بريجيت سيّدة أعمال في الأربعين من عمرها تكبره بعشر سنوات، من الطبقة الأرستقراطيّة، فكان التعارف بداية لعلاقة توّجت بالزواج رغم فارق السنّ والمستوى الاجتماعيّ.
إقتربت عزيزة من السرير تطلب من سلفها عدم إجهاد نفسه، بعدما ذرف الدموع عند رؤية سليم وسحر فهزّ رأسه رافضًا ثمّ قال بصوت أنهكه المرض:
-الآن أستطيع أن أموت مرتاح الضمير، طال تأخّري عليكم يا عزيزة، تناسيت أخي عندما ضحكت الحياة بوجهي، مات أخي ولم أحرّك ساكنًا، تناسيت ظروف عائلته القاسية بعد موته، كنت أتابع أخباركم طيلة الوقت... الغربة جاحدة يا عزيزة، تتغلغل إلى القلب فتخدّره... عزيزة... إسمحي لي أن أكفّر عن أخطائي
-سيّد إحسان...
-إحسان يا عزيزة، فقط إحسان...
سخّر العمّ كلّ طاقاته ليعوّض عائلة أخيه عن الحرمان الذي عاشته بسبب تقاعسه وإهماله فانتظمت حياة الأسرة في نمطها الجديد بعد فترة قياسيّة لم تتعدّ الشهر. تابعت سحر دراستها في جامعة خاصّة مع بداية شهر أيلول والتحق سليم بمعهد يتلقّى دروسًا مكثّفة في اللغة الفرنسيّة إلى جانب تواجده في الشركة الأمّ كي يتدرّب على العمل في مجال الاستيراد والتصدير يواكبه وجيه بكلّ عناية ويطلعه على الكبيرة والصغيرة. لم يُكتب لإحسان أن يعيش إلّا ثلاثة أشهر بعد جمع شمل العائلة فأسلم الروح فجر الثاني من تشرين الأوّل تاركًا وراءه عائلة ثريّة محاطة بوجوه أمينة مخلصة لكرم السيّد الراحل. إنقلبت حياة عزيزة رأسًا على عقب، هي التي كانت تحرم نفسها من لقمة الخبز لتوفّرها لفلذتي كبدها باتت سيّدة غنيّة محصّنة من غدر الزمن، تشكر الربّ على نعمه المُغدقة وتوزّع سخاءها على المحتاجين. بقيت على تواصل مع أختها في اسطنبول وخصّصت لها شهريًّا مبلغًا كافيًا من المال أعفاها من العمل في القصر.