إنتقلت عزيزة مع ابنها إلى اسطنبول بعد تسلّمه العمل في مخازن آل كريملي. فرحةُ سحر بالخبر فاقت كلّ تصوّر، سيجتمع شمل العائلة من جديد في جوّ من الطمأنينة وراحة البال، غير أنّ السيّدة مريم أصرّت على بقائها في القصر كضيفة عزيزة بعدما عرفت أنّها تحتاج إلى مساعدة يمان كي تتمكّن من سدّ الثغرات التي سبّبها انتسابها المتأخّر، فما كان على سحر إلّا الامتنان لهذه المبادرة اللطيفة. بداية، لم يستسغ سليم الفكرة، وجود أخته في القصر بهذا الشكل ربّما يعرّض سمعتها للقيل والقال، لكنّ والدته تمكّنت من إقناعه وقد ساعدتها في المهّة ليلى شارحة له مدى اهتمام السيّدة مريم بسحر وبتعليمها، وهو في قرارة نفسه كان يُدرك أنّ أخته أمام رهان صعب، صحيح أنّ الظروف وقفت إلى جانبها لكنّ المطلوب منها يحتاج إلى مواكبة جدّيّة، وهو لن يكون حجر عثرة يعرقل أحلامها، ألا يكفي أنّ الأيّام حرمته من تكملة تعليمه؟ وهكذا وكّل أمر أخته إلى الله يحميها من كلّ ضغينة ويرزقها على قدر نواياها الصافية.
بدأت مرحلةٌ مختلفةٌ في حياة سحر تدين بحلّتها الجديدة لعائلة الكريملي التي غمرتها بالعطف والكرم. لن تنسى يومًا هذا المعروف طالما تنبض عروقها بالحياة وستسعى جاهدة إلى أن تكون عند حسن ظنّ السيّد يمان الذي آمن بطموحها الواعد. وبالمقابل، إنطلق الأمير في رحلته الخرافيّة، وُجهته الفوز بقلب الأميرة، توقفه أحيانًا محطّات تؤخّر وصوله لكنّه لن يتخلّى يومًا عن بلوغ الهدف.
مرّ على التحاق سحر بالجامعة شهر قضته في الدرس المتواصل، تنكبّ على الكتب تنهل من غنى معارفها وتتدرّب على رسم عديد الخرائط. خصّص لها يمان وقتًا يوميًّا بعد دوام الشركة، كرّسه لشرح النظريّات الأساسيّة التي تمكّنها من استيعاب ما وصلت إليه المحاضرات. كانت لهذه الجلسات نكهة خاصّة في قلب الأستاذ، ينتظرها بفارغ الصبر، تأذن له بتأمّل روح طالبته الطيّبة ومثابرتها الرصينة. كم كان صعبًا عليه أن يتمالك مشاعره الجيّاشة خلال الحصص! يراها على مقربة منه تتكلّم تسكت تبتسم، تركّز على المعلومات وتتفاعل مع المواضيع برحابة العفويّة. ذات مساء، وبينما كانت سحر تجيب عن بعض الأسئلة التي تتعلّق بأهمّيّة انعكاس الصورة في مفهوم الهندسة توقّف يمان سائلًا:
-كيف تحدّدين الانعكاس لرسم معيّن؟
فركت سحر جبهتها بأطراف أناملها تسترجع النظريّات التي انكبّت على اكتسابها منذ أيّام، ثمّ هتفت متحمّسة بعد لحظات وجيزة كمن لقي كنزًا ثمينًا:
-وجدتها... يجب تحديد انعكاسات كلّ النقاط المؤلّفة لهذا الرسم انطلاقًا من المحور للحصول على الصورة الافتراضيّة التي تطابق الأصليّة
مال يمان برأسه وهو يضغط على شفتيه وكأنّه كان ينتظر إجابة أخرى فانتفضت قائلة:
-أنا متأكّدة من معلوماتي سيّد يمان