فراشة قاع الوجود | | 2

7 1 0
                                    


~


في نور الفجر هذا العكر , من قمر و شمس , انحنى ينظر إلى أوراق الخريف التي اتخذت نفسها بساطاً على الأرض . . و ما كان منه الا دهسها بهدوء , كان يشعر ببعض الإرهاق فالجسم ما زال نائماً في كسل ؟ و تثاءب صامتاً . . .
نظر خلال سيره في حديقة المشفى الخلفية إلى تلك النافذة , رآها و كأول لقاء له بها كانت تدون شيئاً على دفترها . .

~

فتح الباب الخشبي تزامناً مع صريره المزعج و يبدو أن ذاك الصرير أثار إنزعاج الفاتنة , تقدم بثبات خطواته متخذاً طريقه تجاه ذلك الكرسي الذي استقر أمام سريرها , لكنها لم تعره اهتمامها البتة
جلس على الكرسي لترفع الأخرى ببصرها تجاهه , و يا ليتها لم تفعل ! عيناها و لسبب ما كانا يربكانه , يبعثران حصيلته اللغوية , ابتسم لها بخفة لكنها لم تبادله . . . ليس بعد !
_ " كيف حالك اليوم آنستي ؟ " سأل محافظاً على ابتسامته الوديعة . . لم تجبه إنما دققت و رسمت ابتسامة هادئة
_ " ما الذي القى بشاب عشريني مثلك , في متقبل العمر و أمامه طريق مهني و عاطفي عليه بلوغه مع فتاة سرمدية , سيد ماثيو ؟ " نطقت بإبتسامة لم يستطع الآخر معرفة إن كانت ساخرة أم مستنكرة

دقيقة الملاحظة هي !

أدركت من افتاحيته أنه لا زال في بداية طريقه ناهيك عن قلمه الذي حوى اسمه
_ " ربما الملائكة آنستي . . من يدري ؟! "  قهقه ! هي حقاً شيء ما , شخص بهذا التركيز يصعب التعامل معه . . لم يدرك خطوته التالية
كانت الأجواء خريفية , حركت الأشجار ريح عنيفة كصوت ماء مضطرب , صفاء النهر الذي استقر أمام تلك النافذة بمسافات كان يناقض نزق الريح
_ " ما رأيك في هذه الأجواء آنسة إيلانور ؟ "  استقل الطقس ليبدأ جلسته العلاجية مراقباً إبتسامتها تتسع بينما كانت تفتح النافذة
_ " طقسي المفضل ! " إجابة مختصرة للغاية , حدق بذلك المنظر لوهلة
فراشات بيضاء ثقيلة و رطبة تسعى إلى مأوى الجدار و السقف و قد غللتهما الشمس
_ " أجنحة بيضاء في جنازة امتلأت بالعقارب . . . " دندنت بعدما حطت إحداهن على رسغها
_ " أتمانعين التوضيح آنستي ؟ " 
. . . ابتسمت بيأس
_ " كان بوسعي أن أمشي هناك , معهم , صامتة , أراقبهم يدعون الحزن و البكاء الكاذب و قد حازوا على جائزة الأوسكار لأسوء ممثلين للسنة , أصغي إلى الماء بين النينوفر , ذات الورق الأخضر , السمينة و الأزهار الكبيرة النهدية , و البيضاء كفراشات مائية . كنت أطفو هناك و أفكر في الغرفة ! الغرفة التي غدت خالية . . وحيدة . . موحشة ! و لكن ما زالت رائحة الخزامى و العسل عالقة فيها . . . . كنت مشغولة بالتفكير .

ذلك كان صدعاً لا يستطيع رأبه غير الفكر , ما دمت قادرة على أن أكون هنا , و أفكر بأنني هناك . . على حافة الماء التي تلطمها الريح , مياه لها رائحة المعدن و مذاق تيرب . . . "

جحظ بزرقاوتيه يحاول ترتيب تلك الأحداث في عقله , يحاول فك لغز كلماتها المبهمة , يحاول بلوغ جواب يشبع رغباته الفضولية تجاه قصتها . .

_ " لا فراشات و لا دفن , بعض نمال ضالة , بقيت وحدي حاضرة . . نعم ! لكن كان يجب أن أكون غائبة عن أمكنة كثيرة أخرى , كي أكون حاضرة عند تلك المقبرة . . . و تلك الجثة التي أعتقد أنها غدت زهور بنفسج . . "

أخفضت رأسها بينما بدأت بمداعبة أجنحة الفراشة برقة بالغة . . . الحقائق الخفية ! الماضي الذي تلمسه في ما لا يلمس , و هو حاضر في كل ما يمكن أن تمس , في الهواء الذي تتنفس , في الماء الذي تشرب , في جذور الأشجار العملاقة , في هياكل المقبرة العظمية المغمورة . . . في نوم حلو قريب من الموت .

هو ؟ كان يحس بما يشبه الرعدة في جسده , كانت ترتجف أجزاء من جسمه تحت ثيابه , كأنهار تدغدغ و تجري في كيانه , أنهار خفية ! تغذي ما يخفي . . .
السر العظيم !

عمّ الصمت و لم يبقى سوى ارتعاش أجنحة الفراشات وحده في الهواء الفاتر الذي تند عنه رائحة زهرة سنديان رطبة . . مبتلة . . غريقة !









♧ ♧ ♧ ♧ ♧ ♧







_ " أنا أهرب من هروبي . . . أين النهاية ؟! "


_ إيلانور وينستن

دواخل الأمور دائماً داكنة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن