٣_ المغادرة

8 1 0
                                    

اخترعت أشعة الشمس لتضيء وجه المراهق النائم ،
فتحركت جفونه اثر الضوء الساطع ، مد أنامله ليحجبها ،
إلا أنّ ضوءها عَمّ المكان ، وكأنها مصرة على ايقاظه ،
لم يكن عليه سوى أن يفتح عينيه ، وينهض رغما عنه
وتطلع إلى الساعة على الجدار، وهي تشير إلى الثامنة والنصف عندها أدرك مدى تأخره، فقد اعتاد أن يقوم مبكرا .

وكيف لا ، بعد أن سهر الليل مفكرا ، بما قاله والداه ، عن انفصالهما ، أو اختيار من سيعش معه ،
فلو كان أحدا غيره لاختار العيش مع والده أياما ومع أمه كذلك ، لكن هو لا يستطيع فهو لم يكن قريبا منها ، وهي كذلك ،سواء في أفراحه ، أو أحزانه ، ومرضه....
نهض واقترب من النافذة واستند إلى إلى الجدار بجنبه ، ناظرا إلى الحديقة التي تُطِل عليها نافذته .
إلا ظل فروع شجرة السنط التي تمتد إلى غرفته .

ليبتسم ابتسامة ضعيفة ، ثم يهز رأسه ويطرد الأفكار التي أوشكت أن تبتلعه .
تمنى أنه لم يحصل كل هذا فمهما كانوا بعيدين عن بعض إلا أنهم قريبون في نفس الوقت، فيجمعهم سقف واحد ، أما الآن سينتهي أيضا  .
هو يعرف أنه واقع، لا مفر منه  وكل ما استوعبه ،وتأقلم معه بسرعة  كان أفضل له .

بالرغم من الضعف الذي يغطي عضلاته بسب قلة النوم .إلا أن عليه الإستعداد للروحة إلى المدرسة.

عندما حضر كانت حصة الصباح قد انتهت والطلاب
في الاستراحة .
توجه إلى مقعده ورمى حقيبته على الطاولة، وسحب  كرسيه،  وضع رأسه على الطاولة وأغلق عيناة ،  غير آبه بأحد.
انتبه زملاء فصله  لوصوله ، عندما رأوا أنه هو الحاضر ، تجاهلوه  فقد تعودوا على أفعاله .
سمع طرقا على مقعد ،رفع رأسه ناظرا إلى الواقف أمامه ، أحد زملائه في الفصل .
- انتظرتك لفترة ، أردت أن أعرف ، ماذا فكرت أن تفعل اليوم ، أنا حائر قليلا ،هل يمكنك مساعدتي ببعض الإقتراحات فلديك أفكار غريبة أحيانا .
- أهناك ما يجعل هذا اليوم مختلفا ، أم مميزا ؟
أو هو آخر يوم في حياتك وتحاول أن تنجزا أمرا ما ،
عندما رآه عاجزا عن الكلام ، أردف .
- إذا لم يكن هذا أو ذاك ، فلم عليك أن تزعجني بكيفية قضاء يومك .
كان يعرف أنه سيلقى نصيبه من رائد ، إذا طلب مساعدته ، لكن أليس هذا أكثر من اللازم !
لقد جنى على نفسه . إلا أنَّ عليه التحمل لِما جاء من أجله .
- تتحدث وكأنك لا تعرف ، مهلا ..
توقف عندما لاحظ تعبيره .
- أيعقل أنك لا تعرف شيئا عن هذا اليوم ، يوم الأمهات ؟
تنهد بحسرة .
- يبدو أنه لا فائدة من التحدث معك .
خفض رأسه في أسى ،وأردف :
-  أمي ستقلب البيت فوق رأسي ، وستعاتبني بأني  مهمل، وعديم القلب  ، على كل حال سأكتب بطاقة لها عن مشاعر ابنها العزيز .. 
بقي رائد في عالم آخر  مفصول عنهم.
انقضت الإسترحة ودخل المدرس الفصل، ودَرّس حصته ، ومرت ساعات ، إلا أن رائد لم يكن مركزا على شيء ، جرفته دوامة الأفكار، لتعيد به إلى الماضي ، ويتساءل ما مشاعره اتجاه والدته؟
كيف كانت علاقته بأمه في صغره؟ كأي أم يمكن أن يتمناه الإنسان ، وثم بدأ ما بينهما في التغير ،
يتذكر عندما بدأت علاقتها بوالده تزداد سوءا ،
وبدأت تنفر من أبيه ، نال أيضا نصيبا من ذلك ،
ثم ماهو خطأه لِيُأثّر ما بينهما به ، من حزن إلى خيبة أمل ولم يعد يهتم كثيرا .
دق الجرس معلنا عن انتهاء الدوام  ، ليعيد ذلك  انتباهه ، حمل حقيبة وسلك طريق المنزل .
دلف إلى البيت ، إلا أن البيت كان مختلفا عكس المعتاد
فهناك ضجيج صادر ، وعندما دخل ، استقبلته حقائب كبيرة ، ذكرته بما حاول تجاهله، أن والدته سترحل.

عندها سمع خطوات تقترب ، رفع بصره ليقابلها نازلة
عل السلالم ترتدي فستان بنفسجي طويل يغطي جسده مع خمار بلون أبيض ، يبدو عادي ولا مميز به ، لكنه لاحظ اختلافا .

نعم ، فقد نظرت في عينيه مطولة، بدون أن تظهر ترددا، أو تزح بصرها عنه، فعيناها تحملان إصرارا ،
هل تحاول إظهار مودة له وهي سترحل ، هل تريد أن تعلقه بها في يوم مغادرتها ، قبض راحته بشدة ،عندها حسم أمره ،لا يريد شيئا منها .
اقتربت منها ، وهي تتطلع إليه ، تحدثت بصوت رخيم :
- رائد أردت التحدث إليك صباحا ، إلا أنك كنت نائما .
- ولِمَ لا أغط في النوم فبعد كل شيء ، لم يكن البيت هادما فوق رأسي . قالها ساخرا .
- المشاغب الصغير هنا ، لا تعلم كم أنت محظوظ لأني قد وافقت على انتظارك .
التفت ليرى المتحدث ، فإذا به يقابل امرأة ، تلبس فستان طويل ذا لون أحمر غامق  وخمار بلون أسود،
واقفة مطوية يديها إلى صدرها تطالعه بعينيها اللوزية ، شخصيتها ترهبك قبل أن تنطق حتى ،
كما يقول والده : صاحبة المزاج الناري ، خالته خلود .

أمسكت والدته بكتفه ،فاستدار ليقابلها ، لتكمل :
- سأكون في منزل والدي ، سأنتظر مجيئك في نهاية الأسبوع .
- لماذا علي الذهاب إلى مكان آخر ، فهذا هو بيتي ، وليس لي شيء أفعله في بيت الغرباء  .
قالها بصوت مرتفع  .
رأى الصدمة بادية على وجهها ، انتظر ليرى ما ستفعل ، إلا أن صوتا آخر وصل إليه ، فإذا بخالته خلود تنظر إليه بعيون جاحظة و تشتعل غضبا .
- كيف تتجرأ وتحدث أمك بنبرة كهذه ، ألم يعلمك والدك الأدب ، فلا عجب أن تكون ابن عديم الإحساس ذلك .
- لا تشتمي والدي ، فأنت لا تعرفين شيئا ، أنت تدعمين أختك وتغضين عن أفعالها السيئة .
عندها رفعت يدها لصفعه ، وأدرك أنه لم يكن عليه أن يدفعها كثيرا ، ولا وقت للمرواغة ، فزع حقا .

أوقفتها يد آخر ، والدته رغم كل ما قال سرعان ما أشاح بصره عنها . لتواصل خلود قولها .
- دعيني يا منيرة أعيده إلى صوابه ، كيف تسمحي له أن ينطق بهذه التراهات ، كيف عشت مع هذين كلاهما ليس أسوء من الآخر ، كان علي أن أقنعك فى تركهما لوقت طويل ، ولم تكوني ستعاني .

عجز عن الكلام أي نوع من الأشخاص سينصح أخته بالطلاق ، غير خلود غير المنطقية ، فَهِمَ لماذا يقول لها والده ،صاحبة المزاج الناري .

سَامِحِيْنِي يَا أُمِّيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن