"راح القلب الطيب راح"
يقف بجسدٍ خالٍ من الروح، فـروحه لحقت بمن غادرته، لحقت بمن امتلكت روحه بحق، يقف يستقبل تعزية الوافدين، هو لا يرى أحد ولا يعرف أحد، هو ليس في ذلك العالم من الأساس، طالما رحلت هي فلا يوجد حياة، لا يوجد فرح، ولا أي مشاعر، فقط إنقباضة القلب، و الدموع التي تسيل على وجنتيه، الإحساس الفقدان...لا يوجد سواه، و لا يوجد اقسى منه.
"الحضن اللي انا فيه برتاح، سابلي حبيبي آلام و جِراح...راح"
يتذكر كل شئ، كل إحساس ذو مذاقٍ حلو شعر به بين أحضانها، كل دفىءٍ غمره بقربها، إحساس لا يُضاهى، لكنه قد حُرم منه الآن، كيف يفقده!...كيف يمكنه أن يُكمل بدونها.
يتذكر عندما عاد لها في أحد الأيام يبكي و يقول:
أنا تعبت، تعبت أوي، كل حاجة ماشية عكس ما أنا عايز، حاسس اني عمري ما هحقق اللي نفسي فيه، حاسس اني عمري ما هوصل.فاحتضنته سريعًا قائلة:
أوعي يا حبيبي تيأس، أنا متعودتش عليك كده، أنتَ أقوى من إنك تستسلم، و صدقني كل ما صبرت كل ما هيبقى اللي نفسك فيه احلى." راح القلب اللي مقويني، طعم حياتي و أحلى سنيني، مفاضليش غير دمعة عيني...راح"
مشاهد عديدة تلمع في ذهنه الآن، يتذكر عندما توفيَ والده و بقيت هي تدعمه و تحاول إخراجه من الحزن الذي طغى عليه لمدة طويلة، يرى نفسه و هو جالس بين أحضانها و يسمع صوتها في أذنه و هي تقول:
إنتَ عارف إننا لازم نرضي بقضاء ربنا و قدره، و على فكرة هو مش هيبقى مبسوط وهو شايفك كده بالعكس إنتَ كده بتدايقه عليك، عيش و إنجح و حقق كل الحاجات اللي تخليه فرحان بيك و فخور بتربيته ليك طول السنين دي، و خليك ولده الصالح الذي يدعو له، بدل ما تفضل حابس نفسك في نقطة مش هتاخد منها غير وجع القلب.لحظة أخرى مرت أمام عينيه عندما كان عائدًا إلى المنزل في يومٍ من الأيام ووجد المنزل مزين بالـ"البلالين" و الزينة متعددة الألوان و تخرج هي من إحدى الزوايا و معها كعكة عليها صورتهما معًا و تقول بإبتسامتها القادرة على تطيب أي جروح داخله:
كل سنة و حبيبي طيب، عارفة إنك كنت تعبان و مضغوط الفترة اللي فاتت دي و أكيد نسيت عيد ميلادك فقولت أحتفل بيك أنا على طريقتي، كل سنة و إنتَ معايا و منور حياتي يا حياتي."متسيبنيش...قولي إزاي من غيرك أعيش، متسيبنيش...خليك جمبي متكسرنيش، متسيبنيش...خليك جمبي متكسرنيش"
دلف إلى منزلهما ، منزلهما الذي حَوَى جميع ذكرياتهما معًا حُلْوِهَا و مُرِّها، كانا معًا على السرَّاء و الضَرَّاء، مازال المنزل يحوي رائحتها العطرة، رائحتها التي كانت تبعث الإطمئنان في نفسه كلما شعر بها حوله، جلس على أحد الكراسي أمام صورة أُلتِقطت لهما سويًا في زفافهما، كانت عيناهما تشعان حب، حولهما هالة من الفرح، شعور من السعادة لا مثيل له، عادت الدموع لمجراها على وجنتيّهِ و قال بصوتٍ إختنق إثر بكاءه:
خلاص مشيتي، يعني أنا بقيت لوحدي، هعمل ايه!
هعيش ليه!...هلاقي مين جمبي لما أتعب، و لما الدنيا تضيق بيا أروح لمين، خلاص مبقاش ليا حد، الدنيا بعدك بقت فاقدة قيمتها عندي، مبقاش ليها لازمة، كنتِ إنتِ اللي بتصبريني على كل حاجة وحشة بعدي بيها، دلوقتي هعمل ايه؟
أنا اتكسرت خلاص،كان نفسي تفضلي جمبي...
يارب صبرني يارب علشان فراقها صعب أوي."مين هياخدني في حضنه يا غالي!...مين يتطمن على أحوالي!...مين هحكيله على اللي جرالي!...راح"
من جديد يعيد عقله أحد مشاهدهما سويًا، كان يقوم بفتح الباب بـإستخدام مفاتيحه الخاصة، و بـمجرد أن خطى بقدمه داخل المنزل، حتى وجدها أمامه، بـملامحها الوديعة، البريئة، و إبتسامتها العذبة، ترتدي ملابسها البيتية و من فوقها "مريول" المطبخ، كانت تقوم بـإعداد الطعام و ما أن سمعت صوت مفاتيحه حتى خرجت فاتحة له ذراعيها تستقبله بعناقٍ دافئ، ذلك العناق الذي لم يعد موجود هو الشئ الوحيد الذي كان يجعله يستمر في السعي، ليرى نظرة الفخر في عينيها، ذلك العناق هو الذي كان يعيد شحنه بالطاقة مرة أخرى، كان ينتظر تلك اللحظة التي يعود فيها إلى المنزل تشوقًا لتلك اللحظة البسيطة ذات التأثير الكبير.
و يرى نفسه أيضًا...يجلس منهمكًا في العمل و قد خارت قواه ليرى الهاتف ينير بـاسمها فيجيب ليسمع صوتها الناعم يعزف مقطوعته في أُذنه:
عامل ايه يا حبيبي؟أخبرها و هو يبتسم على سؤالها:
بعد المكالمة دي فـأنا بقيت كويس أوي.ردت عليه و هي تضحك:
علشان تعرف قد ايه أنا بدخل الراحة على قلبك، مش عارفة من غيري كنت عملت ايه بجد!و في مشهد آخر يجلسان سويًا يتناولا الغداء و هو يقص عليها كل ما حدث في يومه:
و بس كده ياستي كان معكم موجز أخبار حياتي اليوم، صدعتك أهو بما فيه الكفاية.قالها و هما يتبادلا الضحك و استقام هو يساعدها في حمل الأطباق، فـسمعها تقول و هي تُخرج رأسها من باب المطبخ و تغمز بعينيها:
يا أخي ياريت كل الصداع حلو كده."خدت الحلو اللي فـأيامي...خدت معاك أجمل أحلامي، ازاي مش هلاقيك قدامي!...راح"
دلف إلى غرفتهما طالعها بنظرات مليئة بالدموع، التقط أحد فساتينها الذي دائمًا ما كان يقول لها عليه:
الفستان ده هياكل منك حتة._لاء ده طالما عجبك يبقى مش هلبس غيره.
التقطه و توجه ناحية الفراش، استقلى عليه، ضم الفستان له يستنشق رائحتها التي تعبئه، و قال بصوتٍ هامس صدر من صميم قلبه:
هفضل أحبك يا أحلى حاجة فحياتي.قالها و ذهب في سباتٍ عميق، تمنى لو استيقظ منه على صوتها، و إن لم يحدث ذلك، فهو يتمنى ألا يستيقظ مرة أخرى.
*لا يمكن أن تدرك مدى حبك لشخص ما لم تتمثل محنة غيابة الأبدي*
★*★*★*★*★*★*★*★*★*★*★*★*★
بقلم/ جنى محمود
تاريخ: 17/12/2022متنسوش تقولوا رأيكوا يا كتاكيت❤️✨
أنت تقرأ
"عَشْوَائِيَات"
Sonstigesمجموعة من المشاهد العشوائية لا ندري ما هي بدايتها أو نهايتها، لكننا نتسلى بالتفكير في أصلها و آخرها. متاح لأي أحد المشاركة بكتاباته في المجمع، كل ما عليه التواصل معي❤️✨