كان يومًا شتويا مشرقًا، وكان صقيعٌ حاد، وكانت قطعٌ فضية منه تغطي الخصلات المتحدرة على جبين (نادينكا)، وأسفل شفتها العليا. كانت تتمسك بذراعي ونحن واقفان فوق تلةٍ عالية. ومن مكاننا حتى قاع الأرض امتد سهلٌ انعكستْ عليه الشمسُ بوضوحٍ وكأنه مرآة صافية. وإلى جانبنا كانت مزلجةٌ عليها قماشٌ أحمر اللون فاتحه.
رجوتها قائلا: "هيا بنا لنتزحلق للأسفل يا نادينكا. مرةً واحدة فقط. أؤكد لكِ أنه لن يحدث أي مكروه".
ولكن (نادينكا) كانت خائفة. فالمنحدر الذي يبدأ من تحت حذائها الطويل إلى أسفل التلة الثلجية بدا مريعًا لها كأنه هاوية سحيقة. خانتها شجاعتها وحبست أنفاسها وهي تنظر إلى الأسفل، بعد أن اكتفيتُ بأن اقترحتُ عليها امتطاء المزلجة، ولكن ماذا لوكانت هناك مخاطرة بالسقوط إلى الهاوية؟ كانت ستموت، كانت ستفقد صوابها.
قلتُ لها:" من أجلي أنا، لا تخافي. لا يجدر بك الخوف، فهو مرضٌ للنفس وجبنٌ عظيم".
استسلمت (نادينكا) أخيرًا، ومن ملامح وجهها أدركتُ أنها استسلمت وهي تختنق فزعًا. أجلستها على المزلجة، وهي شاحبة مرتعدة الأوصال، ثم طوّقتها بذراعي، ودفعتها وأنا معها إلى أسفل الهوة السحيقة.
انطلقت المزلجة كالرصاصة، والهواء المندفع بفعل تحليقنا ضرب في وجوهنا بكل قوته وهديره، ثم أطلق صفيره الحاد في آذاننا، وتمزّق على أجسادنا، ثم اشتدت قرصاته في وهج غضبه وحاول أن يقتلع رأسينا من على أكتافنا. كنا بالكاد نتنفس تحت ضغط الريح. بدا الأمر وكأن الشيطان نفسه أمسك بنا بمخلبيه وأخذ يسحبنا إلى الجحيم تتبعه زمجرته. كل ما كان يحيط بنا ذاب في خطٍ رفيع طويل طويل يتسارع بشدة. لحظة أخرى وبدا أننا لا بد هالكان.
قلتُ بصوتٍ خفيض: "أحبكِ يا ناديا".
بدأت المزلجة تتباطأ في حركتها أكثر فأكثر، وخَفتَ هدير الريح وطنين الهواء، وغدا التنفس أسهل، وأخيرًا وصلنا إلى الأسفل. كانت (نادينكا) أقرب للموت منها إلى الحياة. كانت شاحبة لا تكاد تتنفس، فساعدتها على النهوض.
قالت وهي تنظرُ إليّ بعينين ملؤهما الرعب: "لا شيء سيجعلني أكرر ذلك. لا شيء في هذا العالم كله. كدتُ أموت".
بعد دقائق استعادت اتزانها ونظرت إليّ بتساؤل، هل نطقتُ فعلا بتلك الكلمات الثلاث، أوأنها تخيلتْ ذلك في غمرة الإعصار؟ جلستُ بجانبها أدخّن وأنظر بإمعانٍ في قفازي.
تأبطتْ ذراعي وقضينا وقتا طويلا نمشي قرب التلة الثلجية. من الواضح أن اللغز أرهقها. هل سَمِعَتْ تلك الكلمات أم لا؟ نعم أم لا؟ نعم أم لا؟ كانت مسألة كبرياء أوشرف، مسألة حياة..كانت مسألة في غاية الأهمية، بل أهم مسألة في العالم. ظلت (نادينكا) تنظرُ في وجهي بنفاد صبرٍ وحزن نظرة حادة. كانت تجيبُ بعشوائية، تنتظر ما إذا كنت سأتكلم أم لا. ياه، يا لهذا اللعب بالمشاعر على هذا الوجه الجميل! لاحظتُ أنها كانت تصارع نفسها، وأنها كانت تريد قول شيء، تريد أن تسأل سؤالا، ولكنها لم تجد الكلام. شَعَرَتْ بأن الفرحة تسقيها حَيرةً وخوفًا وارتباكًا.