لم يقُل لي جيمين شيءً، لكن أرسلان حدثني عن الأمر كثيراً. سألني عنك، وعن أين كُنا، وأين ذهبنا ولما لم نخبرهُ بالأمر.
لم أكن أستطيع مجاراة ما أفكر فيه ذلك اليوم، كنت أريد أن أذهب للريف فقط. نسيت أمر أرسلان، وحتى بيليفور. لاحت على وجه مارلي إبتسامةٌ باردة أنت تعلم بأنك لا يجبُ أن تخفي عنه شيءً، صحيح؟ وجنيت على رأسي مشكلة. لكنّي حاولت تلافيها حين إستقمت بنيّة الذهاب.
لقد نسيتُ تماماً إخباره.
لم أقف للتفكير، بل تحركت سريعاً لأذهب ناحيته وكأن شيء من شأنه أن يترك إنطباعا غير ساراً البتّة. وبالتأكيد، لم أتخيل نفسي في مشكلة مع أرسلان تحديدا لأنني فكرت بكلينا معاً. فكّرت بقدرة التفاهم اللتي تأتي بوضوحٍ الى مواضيعنا. بلغت فناء الحديقة، ورحبّت بالخدم الجديد، وبحثت في غرفة العرش، ولم أجد له أثرا. أين يمكن أن يختبئ؟فيينّا، هل رأيتي أرسلان في أي مكان هنا؟
وجه فيينّا أشرق ببهجة حين ناديت عليها لتأتيني.سموحتك أعذرني، لم أرهُ في أي مكان منذ الأمس. كان يبدوا غاضباً جداً في غيابك.
كلّما فكرت بأنّ الظلال ستختفي، تعود. تعود اليّ كمشهدٍ قرميزي. فيينّا الجميلة كانت إحدى رائدات الفنْ في القصر. فحين ينتهي مرج الفصول في السنة، كانت الوحيدة من تهتم ببساتيني دون أن أءمرها بذلك. والوحيدة اللتي تهتم بأدقّ تفاصيل القصر.
لا بأس، عودي الى عملك. سأبحث عنه لدى بيليف- صحيح، هل رأيتي بيليفور إذاً؟
حدقت بعينيها ورأيت الضياع اللذي كانت فيه. كلا جلالتك .. حين تجدُ ارسلان ستجدُ بيليفور فوراً.لا بأس، سأذهب إذنْ.
وعدت الى البحث مجددا، وجائني لمحة عن الماضي. وعن حياتي، اللتي كنت أبحث فيها عن كل الأشياء ولا أجدها. مشهدٌ يتكرر من نافذة، كتكرر الأمواج. كان كل شخصٍ يقابلني ويأتي أمامي أساله عنه، ولا يعلم. حتى أنا كنت لا أعلم.جلست أخيرا لدى ساحة الجيش، ورأيت الصمت يلفُني كعادته. لم يكن أمامي سوى أن أجلس دون تحرك، وأنتظره الى أن يأتي إليَّ بنفسه هو. مرّني وزير الجيش، وسألته أيضا عنهما، ولم يكن يعلمُ شيءً. كما لو كانا قد تبخرا من المملكة. لا يستطيع أي أحد تحديد مكانهما.
بعد برهة، حين عدت الى حجرتي خائفا رأيت نفسي أشبه طفلا صغيرا مذعورا من الظلام. كنت أشعر بعدم الأمان لأنني وحدي هنا، ولأن المملكة شبه خالية. لم أستطع طرد ذلك الشعور اللذي كما لو إنّ أحدا يلاحقني، من حيث كنت، الى حيث أتيت. لا أفتح عيني الى العالم لأي سبب، بلْ أشدّ خوفي اليّ وأجلس وحيدا.
حاولت التفكير بجونقكوك عليّ أشعر بالإسترخاء قليلا، لكنه كان بعيدا جدا مثلهما. بعيداً جدا .. حيث لا أشعر بذراعه حولي، تطبطبان على كتفي. كنت أستطيع أن أحسّ بالألم، لأنني لا أحبُ أن أوصدَ داخل جدرانٍ وحيدا ويسودني الصمت.
غفوت للحظة واحدة، شعرت بأنها كأنها مرّت عليّ كثانية، لكنني حين أستيقظت مجددا وجدتُ بأنّها مرت ساعات بالفعل. كنت منهكاً من البحث، ومن كل ما فعلته وفكّرت فيه حتى هذه اللحظة. تجاوزت موعد العشاء الملكي، وتجاوزت ايضاً دروس الخيل، تجاوزت حتى مواعيدي مع الرؤوساء والملوك. أشعلت شمعةً بالقرب منّي وترجلت حتى أذهب، لأسمع طرق الباب. كنت أعلم بأنّه ليس أي أحدٍ منهما، لأنه لو كان أرسلان لدخل مباشرةً الى الحجرة، ولو كان بيليفور لأخبرني بأنه هو، ولو كان مارلي حتى لقال بأنّه مارلي.
ولو كان جونقكوك.
وكم تمنيتُ أن يكون جونقكوك.هنا، بجانبي، يقرّبني ويشدني ويمحو عني ذلك الثلّج اللذي يسقط على قلبي بغزارة.
هل تبحث عني جلالتك؟
ابطأت حركة أجفاني، ونظرت اليه بهدوء.أين كنت؟
سألته، وشعرت بأن ريقي قد جفّ كلياً. وبدني إقشعر من اللذي قد يأتي.أنا لطالما كنت هنا، كان بإمكانك أن تُنادي بإسمي لآتي بدلاً من أن تبحث طيلة هذا الوقت.
تغاضى يدي اللذي تمسك بالباب، ودخل مباشرةً الى الحجرة ليجلس على أقرب كرسي. وذهبت بنفسي أنا الى الشرفة، أنظر الى ملايين النجوم أعلاي وأتلذذ بشكلها الحُلو المنير.لم تركتني وحدي وذهبت؟
ثمّة شيءٌ غريب سرى في عقلي، لطالما ظلّ يلازمني كظلّي طوال الوقت، حتى إعتدت شعوره بجانبي. ومع هذا، مع أقرب إبتعاد له، ابدأ بالشعور بالفراغ اللذي ينمو، وبذلك الإحساس العميق والعجز.متى قد تركتك وذهبت؟ أنت من تركتنا وذهبت.
كنت أحتاج الى بعض المساحة، لم أكن أسعر بأنّي بخير.
هل تمانع لو سألتك سؤالاً جلالتك؟