البارت الأول

333 18 2
                                    

ها نحن ذا، في احد ليالي ديسمبر الباردة، الطقس شديد البرودة، الثلج يتساقط بتناغم من السماء، اشعر بأن اطرافي تجمدت و مع ذلك فأنا أحب ذلك الطقس كثيراً.
ربما لأنني شخصية عاطفية ؟ لا اعلم ما علاقة الشتاء بالمشاعر ولكن دوماً ما أشعر بذلك الهدوء المهيب في ليالي الشتاء الباردة، اشتاق الى ذلك الفصل كزوجة تشتاق الى زوجها المغترب! و على الرغم من خيبة الأمل التي تعرضت لها اليوم ككل يوم فالوقت ينفذ مني و لم أعثر على مكان مناسب بعد! الا انني لم انسى ان استمتع بملمس الثلج الناعم على بشرتي قبل ان ادخل الى المبنى حيث امكث مع شقيقتي و زوجها.
شعرت بالدفء فور دخولي المبنى و سرعان ما اغلقت الباب خلفي.
صعدت بخطى متثاقلة احمل خيبات املي حتى وصلت الى الطابق الذي نسكن به، فتحت حقيبتي بحثاً عن المفتاح و كم كان العثور عليه صعباً فكانت حقيبتي اقرب ما تكون الى مغارة علي بابا ولكن ليس لما تحتويها من ذهب، بل لما تحتويها من اكياس فارغة، مرطب شفاه منتهي الصلاحية، مرطب لبشرتي لا استخدمه، زجاجة مياه لم افتحها منذ عدة قرون، اوراق مناديل متناثرة،زجاجة عطر، تذاكر الحافلة ، المزيد من اكياس الحلوى الفارغة، هاتفي القديم ذا الشاشة المتهشمة، سحقاً انها اقرب الى ان تكون مكب نفايات!
و ما كانت لحظات حتى سمعت صوت خطى تقترب من الباب تلاها فتح احدهم للباب و من دون تفكير كانت شقيقتي الكبرى، اعين بنية تماما كأمي،. شعرها الاسود الناعم انسدل على طول ظهرها ولكنها غطت معظمه بالحجاب،. كانت ملامحه ناعمة كما قلت سابقاً، تشبه امي
ابتسمت فور رؤيتي و افسحت لي المجال لأدخل
  - تأخرتي كثيراً اليوم
  كان هذا أول ما قالته، دخلت الى الداخل و انا انزع حذائي متفحصة المكان بعيناي
  - هل رسلان هنا؟
  - لا لم يعد بعد
  تنهدت و انا اهم بنزع حجابي متناسية سؤالها فتابعت هي بفضول
  - كيف كان الأمر؟ هل عثرت على شيء؟
  مجدداً تجاهلت سؤالها بسؤال آخر فأنا أعلم، فورما اخبرها بأنني فشلت مجدداً،. سترتسم تلك الابتسامة على محياها بسعادة و هذا آخر ما ارغب في رؤيته
  - أين عائشة؟
  - نائمة،. اخبريني، هل وجدت مكان مناسب؟
   أخيراً أجبت عن سؤالها و انا في طريقي الى المطبخ بحثا عما اتناوله
  - لا، لم اتفق مع الرجل
تنهدت و كما اخبرتكم، السعادة تتراقص في عينيها! استطعت سماع خطوات نورسين تتبعني تلاها صوتها الذي ملأه الفضول
  - لماذا؟ ماذا حدث؟
  اخيرا وصلت الى وجهتي، ابتسمت حين رأيت تلك البيتزا تنتظر قدومي فالتقط قطعة من الصحن الموضوع على طاولة المطبخ و تحدثت بعدما وضعت نصفها في فمي
  -كان المكان باهظاً ، كما ان المنطقة لم تكن جيدة، أي..
ابتلعت الطعام في فمي و تابعت
  - خشيت علي نفسي و انا هناك، الجميع في حالة يرثى لها و يصعب العثور على أي نوع من انواع الخدمات هناك،. كانت كمنطقة مهجورة لم تنج من الحرب!
  استندت نورسين على الجدار خلفها مع نظرة الثقة المستفزة التي ترسمها على محياها قائلة
  - أخبرتك ان تنتظري رسلان حتى يذهب معك.. ألم أخبرك بذلك؟ ثم كل المناطق هكذا بهذا الشكل لا تتأملي كثيراً. لا اجد ضرورة لما تقومين به من الاساس.
سرعان ما تغيرت نبرتها الى القلق
  - ماذا ان كان مكروها قد أصابك؟ ماذا ان كان احدهم قد تعرض لك؟ كيف كنا سنصل اليك، بيان...
  قلبت عيناي و كم حاولت الا افعل ولكن كونها دائما على حق، يثير استفزازي، كثيراً
  - حسناً اعلم ولكن انتهى الأمر، انظري؟ ها انا امامك،. قطعة واحدة، لم يتم اختطافي،. لم يتم سرقتي، لم يحدث لي مكروه انا فقط هنا امامك
  اغلقت عينيها و اطلقت تنهيدة كادت تخترق جدران الغرفة، حالات التوتر و الهلع التي تنتابها لا يمكنني لومها عليها ولكن على الأقل، لا يجب أن اجعلها تؤثر بها الى الحد الذي يجعلها مريضة بحاجة الى علاج لتهدأ!
تناولت قطمة اخرى من البيتزا قبل ان اقترب منها، وضعت يدي على كتفها و أخبرتها
  - نورسين حبيبتي لم اعد صغيرة بعد الآن، انظري الي، أتتمت الثالث و العشرون من عمري استطيع تدبر امري كما فعلت وحدي سابقاً
  قبلت خدها و تركتها عائدة الى غرفتي قبل ان افتح مجالا لجدالا اخر  فكل ما انا بحاجة اليه الآن هو سريري الدافئ و بعض الهدوء كي استمد الطاقة اللازمة لمواجهة ذلك العالم البائس مجدداً.
                                     O. O. O
صوت ذبذبات هاتفي مزعج، يهتز مرارا و تكرار حتى أيقظني من نومي، فتحت عيناي بتعب، كانت الغرفة مظلمة بالكاد ارى من ضوء عامود الانارة المنبعث من النافذة، مسحت وجهي و مدت يدي لألتقط الهاتف فوجدتها صديقتي "ميرا" سحقاً ما بها تتصل في ذلك الوقت؟! انها الواحدة بعد منتصف الليل
وضعت الهاتف على أذني بسرعة بعدما ضغط على زر الاجابة منتظرة القادم بأعصاب تالفة
  - هل أيقظتك؟
  ما ان سمعت صوتها حتى هدأت قليلاً،. أغلقت عيناي و تنهدت
  - ما الأمر؟
  - انا حقاً أسفة لم.. اقصد... ظننتك مستيقظة لذا.. يا الهي
  قضبت حاجباي من نبرة صوتها و كلماتها المبعثرة
  - ماذا هناك، ميرا؟ هل انتي بخير؟
  - اجل اجل.. اتذكرين ذلك الرجل الذي راسلناه منذ عدة ايام؟
  - اي رجل؟
  - من (كيازم)، الم يكن هناك رجل ينوي تأجير بيته؟ ذلك المنزل الصغير، الذي يمتلك فناء خلفياً.
  ظللت على صمتي، أبذل كامل طاقتي كي أتذكر فمن كثرة بحثي لم اعد اتذكر أي شيء!
  - يا الهي يا بيان،. ذلك البيت الصغير، حين أخبرتني بأنه يبدو لطيفاً و قريبا من المدينة الطبية.
  قاطعتها فورما تذكرت قائلة
  - اها اجل اجل تذكرته.. ما به؟
  على الرغم من انني لا اراها الا انني استطعت الشعور بابتسامتها تخترق سماعة الهاتف حين قالت
  - لقد أرسل لي رسالة قبل لحظات بأن المنزل لم يتم تأجيره بعد و أنه سيسر بمقابلتنا
  نهضت عن مكاني فجأة كمن لدغته أفعى سائلة بعدم تصديق
  -حقاً؟! متى حدث ذلك؟ كيف؟ هل انتي متأكدة؟
  - أجل، وأنا أيضاً لم أصدق، لذا.. سأمر عليك في تمام السابعة صباحاً لنذهب
  - أجل يناسبني كثيراً
  - حسناً هذا جيد.. القاك غداً إذاً
  ما إن أغلقت الخط حتى نظرت الى الهاتف بعدم تصديق
ذلك المكان كان حلمي منذ بدأت البحث و على الرغم من الجدال الذي سأضطر الى دخوله مع نورسين بشأن ذهابي الا ان ذلك كان آخر ما فكرت به الآن فالمهم هو أن آخذ ذلك المكان مهما تطلب الأمر
                                    O. O. O
هناك العديد من المتناقضات في هذا الكون، الكثير من الأشياء المتناقضة،. المختلفة ، ألابيض و ألاسود، الشمس و القمر، الماء و النار، أنا والاستيقاظ باكراً لذا، فكوني استيقظت منذ السادسة صباحاً،. تجهزت،. ارتديت أفضل ما لدي، ابتسامتي عريضة تكاد تصل الى أذني، هذا يعني أن ذلك الأمر في غاية الأهمية بالنسبة لي.
نظرت الى نفسي في المرآة، عدلت حجابي، نظرت في ساعة يدي كانت لازالت السادسة والنصف.. اهخ الوقت يمر بصعوبة.
حملت حقيبتي و خرجت من الغرفة على صوت عائشة تركض يميناً و يساراً  باحثة عن أغراضها.
  - صباح الخير عيوش
  وقفت مكانها ناظرة الي، يا الهي اريد التهامها من لطافتها، انها نسخة مصغرة من نور و رسلان، تمتلك أعين بندقية واسعة و شعر بني قصير، بشرتها بيضاء و وجنتيها حمراء تماما كحبات التفاح، ركضت تجاهي بسرعة منادية بأسمي فنزلت الى متسواها و عانقتها بحب فلم أرها منذ يومان على الرغم من اننا في بيت واحد!
  - أين كنتي؟ لقد أشتقت اليك كثيراً
  نظرت اليها و أجبتها بحب يسعدني إظهاره كثيراً
  - انا اسفة صغيرتي كان لدي الكثير من الأمور علي القيام بها
  كادت ان تتحدث الا ان صوت نور قاطعها وهي تقول
  - هيا عيوش الحافلة تنتظر بالأسفل
  أعتدلت في وقفتي و راقبت نور تمسك كفها لتصطحبها الى الحافلة بالأسفل بعدما احضرت حقيبتها و ما ان خرجت حتى التفت الى ذلك الذي قال
  - صباح الخير ، بيان
  التفت مجيبة اياه
  - صباح الخير رسلان ، كيف حالك؟
  ابتسم و أجاب
  - بخير.. ماذا عنك؟
  - بخير  حمداً لله
  - هل انتي ذاهبة الى مكان ما؟
  امأت له من دون ان أعقب فتابع
  - اتريدين مني ايصالك؟
  - لا، لا اريد.. ستصطحبني ميرا
  من تعبيرات وجهه المتعجبة ادركت كيف ان "لا" خرجت مني كأنها " سحقاً لا اريد منك شيئاً" ولكن..يا الهي لم يكن هذا ما عنيته انا فقط أخجل منه لدرجة انني لا اريد توريطه بأي شيء آخر في حياتي
  - ل...لم اقصد ان اقولها بذلك الشكل
  - لا عليك
  اجابني بابتسامة لطيفة و... انه يزيد من شعوري بالذنب
  - لا، انا حقاً أعتذر لقد.. اقصد.. انت لديك اعمالك لهذا لا اريد تعطيلك عنها. ه.. هذا ما في الأمر صدقني
لم يبد رد فعل على قولي، انه شخصية رزينة، هادئ، صبور و هو حتماً أباً رائعاً و زوجاً لا مثيل له و بالنسبة لي،. فقد كان لي أخاً،. دوماً يدعمني و يساندني ولكن انا لا استطيع تحمل فكرة أن أكون عبئاً عليه أكثر من ذلك،يكفي تحمله لكافة تكاليف جامعتي طوال دراستي و رفضه لفكرة عدم اكمالي لما بعد الابتدائية كما هي الحال، ولكن العالم في حالة فوضى، الاقتصاد في القاع ، الحروب الأهلية و المجاعات و الحروب العالمية. الحرب النووية التي حدثت قبل 20 عاماً دمرت كل شيء ، كنا قد وصلنا الى قمة التقدم الى ان قامت الحرب النووية فعدنا الى نقطة الصفر،الشبكات بالكاد تعمل، الهواتف الخلوية ليست افضل شيء.
الدول المتقدمة كانت بحاجة الى 20 عاما لتكون بالكاد قادرة على التحرك.. بينما باقي الدول، يا الهي لا اعلم حتى ان كان هناك من لازال على قيد الحياة ام لا!
مناطق قليلة جدا هي التي لازال بها التعليم الجامعي.. بينما باقي الدول فكان الغالب بها هو حتى نهاية المرحلة الابتدائية و بعد ذلك الدخول في الحياة العملية.
كانت الدول في ذلك الوقت بحاجة الى ايدي عاملة.. الكثير من الايدي العاملة لتشغيل المصانع و الزراعة و التجارة ، ان اردت ان تنجو فاترك عقلك في البيت قبل ان تخرج،. لا تفكر،. لا تسأل لسنا بحاجة الى اطباء " الا لحالات خاصة" فمن الافضل ان تتقلص الطبقة الغير منتجة من كبار سن و مرضى!
الوضع اصبح كما كان في العصور المظلمة!
المرء بالكاد يتحمل تكاليف نفسه!
  - بيان ، ليس عليك الاعتذار صدقيني ولكن توقفي عن التفكير بذلك الشكل لأن هذا بات يزعجني، انتي اختي الصغيرة، انتي مسؤولة مني و لآخر يوم في عمري سأعمل جاهداً لكي تكون نور و عائشة و بالتأكيد انتي في افضل حال، هذا ما اقوم به ، هذا ما احيا لأجله.
  كلماته مؤثرة، هو دائماً هكذا، دائما يقوم بحمايتنا، لا اتخيل كيف كانت ستكون حياتي انا و نور من دونه، ولكن حقاً لا يمكنني الاثقال عليهم آكثر من ذلك، تكاليف دراستي كلفته الكثير، لهذا،. فقط لا يمكنني ان اكون عبئاً أكثر من هذا فابنتهم بحاجة الى تلك النقود اكثر مني
  - ما الأمر؟
  كان هذا صوت نور التي عادت للتو من الخارج، التفت اليها و أجبتها 
  - لا شيء
  ابتسمت ثم ذهبت "هربت" الى غرفتي بسرعة لأحضر هاتفي الذي سمعته يرن، لقد انقذني اقسم.
التقط الهاتف من على الفراش فكانت ميرا، ضغط على زر الاغلاق و خرجت من الغرفة لارتدي حذائي الرياضي و بينما انا افعل اذ بنور تسألني
  - الى اين؟
  رفعت رأسي لأنظر اليها و اجبتها
  - وجدت مكاناً يبدو جيداً لهذا سنذهب لرؤيته
  - في ذلك الوقت؟ انها السابعة صباحاً
  - اجل، فهو بعيد بعض الشيء
  سحقاً، ما كان يفترض بي قول ذلك
  - بعيد؟ اين؟ هل هو خارج المدينة؟ خارج المدينة اليس كذلك؟
  اعتدلت في وقفتي، نظرت الى رسلان الذي يراقب كل شيء بصمت طالبة منه اغاثتي فتدخل بسرعة
  - نور، يجب ان اذهب،. اين هاتفي؟
  التفتت اليه سائلة اياه
  - الم يكن معك قبل لحظات؟
  - لا استطيع ايجاده
  تنهدت ثم التفتت الي محذرة
  - لا ترحلي
  و ما ان ذهبت لتبحث عن الهاتف حتى هممت بفتح باب البيت فسألني رسلان بصوت منخفض
  - هل المكان خارج المدينة؟
  -(كيازم)
  - بيان ، ليس عليك فعل هذا،. حقاً
  - هذا أفضل للجميع
  ابتسمت له و غادرت قبل ان اعطه الفرصة ليقول شيئاً آخر فحقاً ذلك الأمر منتهي لدي ( ابحثي عن بيت بإيجار مؤجل - ابدأي العمل في المدينة الطبية - أعيدي الي رسلان ما انفقه عليك - ساعدي أكبر قدر من الناس)

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order حيث تعيش القصص. اكتشف الآن