الفصل الرابع

773 40 9
                                    

الصمت .. كل ما يحيط بها .. يخيم عليها .. وتغرق بداخله ، صمت يلف عقلها وصمت يمنع صوت خفقاتها ، هي التي استيقظت من نومها تظن أنها كانت ذائبة داخل حلمها لتكتشف أنها كانت ذائبه معه وغارقه فيه هو الذي تقرب منها في أوج لحظات ضعفها لتستجب بقلب أنثى عاشقة .. تائقة .. وراغبة في زوجها الذي أحبته ، قلبها الذي امتلك زمام أمرها فسلمت واستسلمت .. رفعت رايتها البيضاء وانغمست في هزيمتها التي شعرت وهما معًا أنها نصر ، نصر رفرف له قلبها حينما أسكب هو فوق مسامعها مدى شوقه .. وأشعرها بمدى لهفته .. وأغرقها في كلمات غزله .. وشكى إليها لوعة هجرانها وتوسل إليها غفرانها، اختنقت وهي جالسة فوق كرسي جانبي بعدما نهضت متسللة من جواره فلا يشعر بها ولا توقظه بحركتها ، لترتدي مئزرها الحريري تخفي عري جسدها من خلفه ، جسدها الذي نبض برضى وأتخم بعشق ولد كالعنقاء من رماد كراهية كانت تبثها لأوردتها طوال الليالي الماضية وهي وحيدة تغفو وهي تشعر بكونها ناقصة ، ولكنها الليلة لم تكن وحيدة وهو معها .. ولم تكن ناقصة بل اكتملت داخل صدره وبوجوده .
رفعت ساقيها تحتضنهما بذراعيها وتقبع في الكرسي تتطلع إليه من فوق ركبتيها وهو المستغرق في نومه.. يبتسم برضا كعادته حينما يكون سعيد ، ويحتل الفراش بأكمله ، دمعت عيناها وعقلها يعود بصخب سؤاله " ما الحل ؟! " ، تنفست بعمق واستندت بذقنها فوق ركبتيها وعيناها لا تغفلان عنه بل تراقبه باهتمام وعقلها يفكر في خطوتها القادمة .
***
صباح جميل مختلف مشرق .. ضوء الشمس يغمر وجهه المبتسم بتخمة لذيذة تحيط روحه .. تخمة أشبعته رغم شعوره بالجوع وهو الذي لم يتناول الطعام منذ فترة بطريقة جيدة ، فكل الأطعمة كان مذاقها يفتقد نكهتها .. تفتقد نَفَسها الذي تضعه بها فيصبح المذاق كما يقولون كالجنة  فهي له جنة الله في الأرض .. بورود روحها المزهرة .. وينبوع عطائها الفياض ، هي حبيبته .. زوجته .. وشريكة حياته التي دونها حياته كلها لا معنى لها .
رف بعينيه وهو يشعر بأنفسها القريبة تلامس وجهه فيبتسم بكسل ويفتح عيناه ببطء شديد لتقابله ابتسامتها الرقيقة وهمستها الحانية : صباح الخير يا حبيبي .
اختلجت أنفاسه وقلبه يخفق بقوة وهو يشعر بأن روحه عادت إليه من جديد ، بوجودها إلى جواره فيعتدل بجسده يرفع كفه ليلامس خصلاتها التي تهفهف من حول وجهها يتأكد من كونه لا يحلم بها ، بل هي هنا أمامه تحدثه وتبتسم له أيضًا فيهمس بصوت أجش أثر نومه : صباح الخير يا أحلى حاجة في حياتي .
اتسعت ابتسامتها لتشاكسه بأنفها : يلا قوم الفطار جاهز .
اتسعت عيناه ليشعر بالريبة تراوده ليسألها بعدم تصديق : إيه ده بجد  عملتي لي الفطار كمان ؟! عبست بتعجب فأكمل بتلعثم – يعني كنت فاهم إن ..
صمت فلم يكمل حديثه لتبتسم ساخرة : قوم يا سيف ، قوم خد دش ويلا عشان الفطار ميبردش .
رمش بعينيه كثيرًا ليستوقفها عندما همت بمغادرة الفراش يقبض على ساعدها يجذبها إليه بلطف سائلًا بجدية إنت كويسة يا هدى ؟!
اتسعت ابتسامتها بشكل أقلقه قبل أن تتخلص من قبضته برقة وتهتف بسعادة مفتعلة وهي تقفز واقفة من الفراش : بشكل متتخيلهوش ، ازدرد لعابه وهو يراقب انصرافها من الغرفة ليرفع حاجبيه بتعجب عندما أتبعت – يلا قوم أنا حضرتك لك الحمام وهستناك عشان نفطر سوا .
سكن للحظات لا يقوى على الحركة وهو ينظر في أثرها وعقله يردد عليه تساؤل لم يجد إجابته " هل هدى فقدت الذاكرة ؟! "
***
ابتسم بتوتر أثاره ترقبه الذي يحتل أوردته بسبب حركتها من حوله ، وهي التي تعتني به .. تدلله .. وتطعمه بحب ذكره بأيامهما الماضية ، جلست بجواره ثانيةً بعدما أتت له بقدح قهوته التركية التي أعدتها له وهي تهمس بخفوت : قهوتك يا سيف .
احتضن كفها ليرفعه ويقبله بحب كعادته : تسلم ايديكي يا حبيبتي .
ابتسمت بسعادة ومضت بعينيها لتسأله باهتمام : عجبك الأومليت ؟!
تمتم وهو يحتسي قهوته : يهبل كالعادة ، وأنا كنت جعان أوي بصراحة الأيام اللي فاتت دي مكنتش باكل خالص – ليكمل بثرثرة عفوية – مبعرفش آكل غير من ايديكي .
ابتسمت وعيناها تومض بنصر آخر أهداه إليها .. إلى كرامتها التي تنتعش بطريقة غريبة عليها .. طريقة لا تحبها ولكنها لا تقوى على التحكم بها لتهمس إليه بصدق : تعيش وتاكل يا حبيبي .
سأل متلهفًا : بجد يا هدى ؟!
تعجبت من تساؤله فأتبع برجاء تشبع به صوته : بجد أنا حبيبك ؟!
تنفست بعمق لتجيبه بصوت أبح : أنت كل حاجة في حياتي يا سيف ، أنا ملياش غيرك .
بهتت ملامحه ليسألها بلهفة : ياعني إيه ؟! خلاص مش هتسيبيني ؟!!
ابتسمت برقة لتجيب بإحباط كان صادقًا : أنا حاولت ومعرفتش يا سيف أعمل إيه بقى ؟!
اتسعت عيناه بعدم تصديق ليسأل بتردد : يعني مفيش طلاق ولا محاكم ولا بُعد تاني يا هدى ؟!
هزت رأسها نافية : لا يا حبيبي خلاص ، بس يا سيف ..
رفع عيناه إليها بترقب لتكمل باختناق – ياعني لازم نتفق ونتفاهم عشان أعرف مكاني هيبقى فين  وخصوصًا بعد الوضع الجديد .
ردد بدهشة : مكانك ؟!! انتي مستنية كلام واتفاق وتفاهم يقولك مكانك فين يا هدى ، أنت فوق راسي يا حبيبتي ، إنتي نصي التاني .. حبيبتي ومراتي ورفيقة حياتي وشريكتي ، كل ده مش محتاج كلام ولا إتفاق ولا أي حاجة ، المفروض تبقي عارفاه وفهماه كويس ومصدقاه كمان .
احتضنت كفه القريب لتجيبه برقة : طبعًا يا حبيبي ، أنا عارفه ومصدقه بس الناس يعني اللي حوالينا محتاجين كمان يعرفوا أنا عندك إيه ولا إيه ؟!
نظر لها بتساؤل مهتم فهزت كتفيها بعدم معرفة : يعني مش عارفه بس ، أنت مترضاليش إن حد يشمت فيا يا سيف ويعايرني .
اربد وجهه بغضب : لا طبعًا إيه الكلام الفارغ ده ؟!
ابتسمت بأنثوية لتهمس : شفت يبقى حقي بقى إنهم يصدقوا عملي يا سيف .
ضغط على كفها بلطف : اللي هتؤمري بيه هعمله .
ابتسمت برقة لتسأل بصوت مختنق خرج رغمًا عنها متألمًا : ومرات..
قاطعها سريعًا : متقلقيش خالص من الموضوع ده ولا هتحسي بيها ولا كأنها موجودة ، إنتي وبس اللي في حياتي يا هدى ، ومحدش غيرك .
اتسعت ابتسامتها لتقترب منه بجسدها ووجهها يدنو من وجهه لتقبل طرف ثغره وتهمس بصوت تدرك تأثيره عليه : ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا يا حبيبي .
***
بعد مرور شهرين ..
__ مبروك يا باشمهندسة ، مبروك يا سيف بيه .
ألقاها محاميها بغبطة وخاصة بعدما أنهت توقيع العقود المبرمة بينهما ، لتبتسم بوجهه وتجيب : الله يبارك فيك يا أستاذ .
ابتسم سيف بوجه الرجل الذي نهض لينصرف فنهض معه ليودعه بينما تحركت هي نحو الشرفة فيتحرك هو مع محاميها الذي أصبح محاميه هو الآخر والذي حدثه بجدية : بكرة هسجل كل حاجة في الشهر العقاري ، البيت والمصنع وأرض الموالح كمان من خلال التوكيل اللي معايا يا باشا .
أومأ سيقف متفهما : طبعًا ، والشيك هيبقى عندك على المكتب أخر النهار ، أنا سعيد إن هدى عرفتني على محامي شاطر زيك .
تمتم الرجل بصدق : حقيقي أنا الأسعد .
انصرف المحامي ليتحرك هو إليها من جديد يدنو منها ليقف ملتصقًا بها من الخلف يضمها بذراعيه ليقبل عنقها بتوق هامسًا : مبروك يا حبيبتي .
ابتسمت برقة : الله يبارك فيك ،
__ مبسوطة ؟! هذا السؤال الذي يكرره على مسامعها كثيرًا الآونة الأخيرة ليتأكد أنها سعيدة بكل دقيقة تمضيها معه فتجيبه بصدق : الحمد لله .
فيضمها أكثر إليه وهو ينثر قبلاته على كتفها .. عنقها .. جانب وجهها : ويارب دايما أقدر أبسطك وأسعدك يا حبيبتي .
ذابت بين ذراعيه لتتملص حينما شعرت به يتوغل أكثر : بس يا سيف ، مش وقته .
عبس بتعجب ليغمغم : أومال امتى ؟!
ضحكت برقه لتستدير إليه تبعده عنها بدفعة بسيطة : بكرة ، أنت نسيت ولا إيه ؟! ضيق عيناه بعدم فهم فأكملت بصوت مختنق كعادتها – النهاردة مش يومي .
جمدت ملامحه لتلمع عيناه برفض فتكمل بجدية : لازم تروح لها يا سيف ، وتهتم بيها شوية عن كده ، زعلها هيأثر على ابنك اللي جاي ، وأعتقد إنك مش هتبقى حابب إن الولد لا قدر الله يجي فيه أي حاجة ، أشاح بعينيه بعيدًا فاستطردت – روح لمراتك وخلي بالك منها وبكرة من الصبح أنت معايا زي كل يوم .
ابتسم بامتنان لمع بعينيه ليقبل كفيها وجبينها : ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا يا حبيبتي .
ضمته إلى صدرها لتقبل وجنته : ولا منك يا حبيبي .
تنهد بقوة ليخطو مبتعدًا يلملم أشياءه قبل أن يهتف بجدية : صحيح يا هدى ، مامتك كلمتني النهاردة وكانت بتعيط وبتشكي لي عشان أشوف حل في موضوع أختك وجوزها بس أنا قلت لها إن معنديش حل ، واللي إنتي عايزاه هعمله أيًا كان هو إيه .
ابتسمت هازئة لتغمغم : عارفه ماهي كلمتني برضه .
رفع نظره إليها ليسألها : طيب إيه ؟! إنتي شايفة إيه ؟!
تمتمت بلا مبالاة : والله يا سيف رغم إنه جوز أختي ، إلا أنه اختلس فلوس من شركتك أنت ، فشوف اللي عايز تعمله أعمله .
مط شفتيه مفكرًا ليحدثها مهادنًا : بصي أنا عارف إنه ضايقك كتير أيام خلافنا وعمل حاجات كتير مزعلاكي ، بس برضه يا هدى عشان خاطر أختك، كفاية إنك أصريتي تاخدي الشقة منهم .
رمقته بضيق وهي تجلس على الأريكة بخيلاء تضع ساقًا فوق أخرى : مانت اديتها شقة تانية يا سيف .
أجاب سريعًا : عشان خاطر مامتك والله وبعد ما جات هي ومامتك واعتذروا لك ، وبرضه الشقة دي بتاعتك .
أشارت بيدها في ضيق : خلاص يا سيف اعمل اللي عايزه .
اقترب منها ليجلس مجاورًا لها : اللي عايزه بس ميزعلكيش يا هدهد .
ابتسمت برقة لتجيبه : مش هزعل منك أبدًا .
احتضن كفيها لينثر قبلاته فوقهما لتضغط على يديه فينظر إليها بتساؤل ، همست إليه : قوم روح لمراتك .
أغمض عيناه بضيق ليزفر بقوة : طيب حاضر .
ابتسمت لتهتف إليه ببساطة قبلما يغادر : سلم عليها وقولها اني هاخدها بكرة وهنروح البيت الكبير ، توقفت خطواته لينظر إليها بتساؤل فأكملت برقة وبسمة أنثوية تثير قلقه حينما تبزغ فوق شفتيها – عايزه أعمل شوية تعديلات عشان البيبي اللي جاي .
أغلق الباب ثانيةً ليعود بخطواته : تعديلات زي إيه ؟!
أشارت بكفيها في لامبالاة : تعديلات عشان الوضع الجديد يا سيف ، عشان يبقى في جناحين واحد ليا والتاني ليها وأوض للولاد .
تمتم بسرعة : بس روحية ..
قاطعته بجبروت لمع بعينيها وهي تنهض واقفة بكبر : روحية عندها بيتها تقدر ترجع تقعد فيه يا سيف ، بيت سراج الدين ليك ولولادك من بعدك ، وبعدين لازم روحية وإخواتك يعرفوا ويفهموا ده كويس ، اهتزت حدقتيه برفض فأكملت وهي تقترب منه تلامس كتفيه برقة – خلاص أنت جاي لك ولد وبإذن الله يجي ولاد كتير بعده ، فالبيت مش هيبقى فاضي زي زمان ، بالعكس هم لازم يسبوه لولادك بدل ما هما بيتمتعوا بيه هم وولادهم من غير وجه حق ، إخواتك البنات لازم يستوعبوا الوضع الجديد يا سيف ويفرحوا بيه كمان ، وخصوصًا إنهم بقالهم كتير أوي مستنين ولادك ، اللى خلاص هيجوا ويملوا بيت سراج الدين بيهم .
تنفس ليومئ برأسه متفهمًا : معاكي حق ، بس متقوليش لحد إني كتبت لك نص البيت يا هدى ، إنتي عارفه أنا عملت ده عشان ..
أومأت برأسها بتفهم : طبعًا عارفه يا حبيبي ، أنت بتحمي حقوقي عشان خاطر محدش يطردني من البيت بعد عمر طويل وخصوصًا إني .. صمتت ليختنق حلقها لتكمل بعدما أرغمت نفسها على النطق – مش أم ولادك .
احتضن وجهها بكفيه وهو يشعر بقلبه يئن بوجع على ملامحها التي تغضنت ببؤس : إنتي كل حاجة في دنيتي يا هدى .
ضمت جسدها إليه لتهمس بتعب : وأنتي حياتي كلها ، أتبعت بعد وقت قليل أمضته بين ذراعيه - يلا بقى امشي ، تصبح على خير .
أشار إليها مودعًا لتراقب انصرافه ببسمة باهته ليرتفعا ذراعيها تلقائيًا تحتضن بهما جسدها الذي يرتجف بوحشة .. ووحدة لتنظر من حولها للبيت الفارغ سوى منها لتتحرك سريعا تضيء انارة البيت بأكمله لعلها تطرد ذاك الخواء الذي تشعر به في لياليها التي تقضيها وحيدة دونه ، قبلما تستقر على أريكة البهو التي أصبحت رفيقتها في لياليها التي لا يمضيها معها ، فتستقر عليها دون نوم لا يزورها إلا شحيحًا ، وخاصة مع ذكرياتها المؤلمة التي تجترها ببطء موتور خرب يزمجر بعقلها فيهديها أوجاعها بتكرار بطيء .. مؤلم وخانق ، ليؤلمها بذكرى حديثة كانت سببًا رئيسيًا لما أصبحت عليه الآن ، وخاصةً بعدما أيقنت أن لا أمل لها في أن تصبح أمًا .
فهي لم تيأس بعد عودتها له أن تحقق حلمها حتى إن أصبح حلمًا منفردًا فذهبت إلى أطباء كثر دون أن تخبره ، فهي لم تكتفي بطبيب أو اثنين أكدا لها رأي الطبيب الذي أخبرهما أنها لن تقوى على الإنجاب ثانيةً وكان السبب الذي جعل سيف يذهب ليتزوج من أخرى بعدما أتاهم رأي الطبيب قاطعًا في جملة لا تنساها قط : للأسف فُرص مدام هدى في الإنجاب أصبحت شبه معدومة ، الهانم وصلت لسن اليأس واللي  هيبقى صعب جدًا معاه حتى إجراء عملية تلقيح مجهري .
يومها رد سيف : يعني إيه ؟! دي مش أول مرة نعمل العملية على فكرة وعادي هنفضل نعملها لغاية ما هدى تقدر تجيب بيبي .
ابتسم الطبيب بحرج : يا سيف بيه أنا فاهم والتحاليل اللي قصادي والتقارير اللي بتقولي اللي حصل كل السنين اللي فاتت دي ، بتقول إن في الاول مكنش عندكم أي مانع من الإنجاب أصلًا ، ورغم كده انتم سعيتوا كتير وعملتوا عمليات كتير بس عشان كان ينفع ، لكن دلوقتي مينفعش خالص ، لأن الهانم خلاص وصلت لسن مافيش إنتاج بويضات أصلًا عشان نقدر نعمل العملية أو تحمل طبيعي ، ليتبع الطبيب ثانيةً – الهانم وصلت لسن اليأس وكده للأسف مش هتقدر تحمل خالص.
ليلتها بكت كما لم تبكي يومًا .. بكت حلمها الذي ذهب .. وعمرها الذي انقضي .. وحياتها التي هدمت ، ورغم أنه لم يتركها أو يبتعد عنها لأيام متوالية كثيرة كان يراعيها ويهتم بها ، إلا أنه وصل للأمر الذي توقعت أن يفعله منذ أن يأس من تحقيق حلمها معها وبجوارها ، كما يأس جسدها أن ينتج أطفاله ، فقرر الزواج من اخرها وأتى ليخبرها بعدما عقد قرانه بالفعل ، أخبرها كأنه يحدثها عن أمر واقع عليها تقبله ، وها هي تفعل ، تتقبل الواقع الذي كتب عليها .. وترضى بقدرها ، فهي لن تقوى على إنجاب أطفاله ولن تقدر على الابتعاد عنه ، فرضيت بالتسوية التي ساقها إليها القدر ، أن تكون نصف أنثى معه ، فترضى ببديلة تأتي بأطفاله في رحمها ، بينما تستأثر هي بحبه وروحه وانتماءه لها ، هي التي ذهبت مرغمة لشريكتها بعدما تأكدت من كونها لن تنجب أبدًا ، فقامت بزيارتها في فعل أثار خوف الفتاة الصغيرة التي كانت تنظر إليها برهبة مزجت بحقدها عليها فابتسمت هي بوجهها لتهتف بها في تسلط : متقلقيش مش جاية أسقطك ولا أذيكي ، بالعكس أنا جاية عشان نتفق .
حينها اهتزت حدقتي الأخرى بتوتر فتهمس إليها هدى : تحبي تبقي كسبانة وتعيشي ملكة ولا تفضلي تحت رجلين روحية ؟!
هزت الأخرى رأسها بعدم فهم فابتسمت برقة في وجهها وهمست إليها : اسمعيني كويس أوي ، وصدقيني أنا عايزه مصلحتك ومصلحة اللي في بطنك كمان ، وخلي بالك مصلحتنا مشتركة ، ومعايا هتبقي كسبانة ، عشان سيف هيفضل معايا وعمره ما هيقدر يبعد عني .
حينها تطلعت إليها الأخرى بقهر فزفرت بضيق لتجلس وتضع ساقًا فوق أخرى في جلسة جديدة عليها ولكنها أصبحت مستساغة لها في الآونة الأخيرة : أنا مش جاية لا أضايقك ولا أكيدك ولا أقهرك ، أنا فعلًا جاية عشان نتفق ، إيه رأيك تتفقي معايا ولا تبقي ضدي ؟!!
حينها جلست الأخرى في إشارة أنها تريد الإتفاق فابتسمت هدى وسردت عليها حديثها الذي لاقى استحسانًا عند الأخرى التي كانت ونعم العون لها ، نعم هي لا تستطع تقبلها كضرة ولكنها تتقبلها كأبنة ، فالفتاة تصغرها بالكثير .. طائعة ولينة والنقيض التام لشخصيتها وكأن روحية حينما انتقتها لأخيها انتقت كل ما هو عكسها فتضمن أن تستأثر بسيف لها خاصة ولكن عودتها أفسدت مخططات الأخيرة التي تكاد أن تموت قهرًا وخاصة بعدما انقلبت عليها امرأته الأخرى ، التي تلتجئ لها في كل شيء فتسألها عن كل ما يخص زوجهما ، وتستفسر عما يفضله ويحبه بإخلاص ملازم لها وهي التي أخبرتها أنها لا تقوى على خسارة زيجتها ، فالحياة بهذه الطريقة أفضل بكثير من حياتها ببيت والدها ومع زوجته ، يومها شفقت عليها هدى واتخذتها كأخت صغيرة بدلًا عن شقيقتها التي لم يثمر فيها معروفها ، وخاصة أن الصغيرة تقدرها وتحترمها وتمتن لها معاملتها الطيبة معها ، تنفست بعمق وهي تشعر بالجنون يخيم على رأسها فهي كثيرًا من الأحيان تتناسى أن الأخرى شريكتها وتنصحها كصديقة ، بل هي وطنت عقلها على تقبل غياب زوجها عنها بأنه مسافرًا أو منشغلًا فلا تذكر نفسها أبدًا أنه عند زوجته الأخرى ، هذا الأمر الذي منحها سكينة كادت أن تفقدها ثباتها بأول أيام عودتهما سويًا، ولكن الآن رضيت وتقبلت وتأقلمت وها هي تدير حياتها التي أصبحت منشغلة وخاصة بعدما عادت لعملها فمنحها سيف إدارة المصنع قبلما يمنحه لها بيع وشراء بل وإشراكها معه أيضًا في إدارة عمله فأصبحت حياتها ممتلئة بأمور كثيرة تشغلها عن التفكير في أي شيء سوى نجاحها لتكمل به ما تشعره ناقصًا بها .
***  
تقف في وسط البهو الكبير ويتبعه الكثير من الرجال أرسلهم إليها سيف ومعها مهندس متخصص بالديكور تشير إليه بجدية وتسأله عن تلك الترتيبات التي تريد تنفيذها ، الخادمات واقفات في الركن تنظرن برهبة لها وخاصة بعدما حدث بينها وبين شقيقة زوجها التي غادرت مولولة لتنتبه على قدوم أحدهم الذي تبين أنه أحمد فتبتسم للمهندس برقي : خد عمالك وارفع المقاسات يا باشمهندس ، بعد إذنك .
أومأ الرجل بتفهم لتستدير هي ترحب بأحمد الذي وقف يتطلع إليها مليًا فترحب به بصدق : اتفضل يا أحمد ، البيت بيتك .
فيبتسم هازئًا : مش باين أنه بقى كده دلوقتي بس شكرًا لترحيبك بيا .
نظرت إليه باستنكار : متقولش كده يا أحمد أنت تشرف وتنور في أي وقت ، ابتسم وهو يرمقها بعتاب فأكملت بجدية – ده بيت خالك وطبعًا مفتوح لكم في أي وقت .
تطلع إليها مليًا يقارن بمن تقف أمامه الآن ومن دلفت إلى هذا البيت عروسًا من قبل ، من تقف أمامه تستقبله ببسمة لبقة بعدما طردت والدته على مرأى ومسمع من الجميع فأتت له الأخيرة مولولة باكية تهدر بقهر أن هدى استولت على بيت عائلتها فيهمس بجدية : اتغيرتي خالص يا باشمهندسة .
لوت شفتيها لتجيبه ببساطة : حكم الزمن والعشرة مع ناس يخلوك قاسي زي الحجر .
أسبل جفنيه ليغمغم بجدية : أنا مجتش عشان ماما ولا اللي عملتيه معاها ، اللي عملتيه ده كنت متوقعه يوم من الأيام ، أنا جيت عشان أقولك كلمتين ياريت تقبليهم مني .
تطلعت اليه بانتظار فأكمل بجدية – خلي بالك من نفسك ، أوعي تخسريها خدي حقك محدش يقدر ينكره عليكي ، بس متاخديش أكتر منه عشان متجيش في يوم تبصي لنفسك في المراية فتشوفي واحدة متعرفيش هي مين .
رفت بعينيها فيكمل هو بجدية : إنتي عارفه إنتي غلاوتك عندي من غلاوة سيف فحبيت بس أنصحك واعتذر لو ضايقتك .
ابتسمت نافية : أبدًا ، بالعكس شكرًا على النصيحة ، عارف يا أحمد أنت بتفكرني بباباك جدًا ربنا يرحمه .
ترحم على والده ليومئ برأسه : طيب على كده أنا همشي ولو احتجتي أي حاجة أنا في البلد النهاردة .
ابتسمت لتغمغم : شكرًا يا أحمد ، أنا همشي بعد شوية لما العمال بقى يبدؤا الشغل لو احتجت حاجة أكيد هقولك .
تحركت ليتوقف سائلًا باهتمام : إنتي هتهدي البيت ؟!
عبست باستنكار : لا طبعًا ، أنا هعمل جناح لولاد سيف ومراته بس وأعملي جناح أكبر شوية بس عمري ما أهد البيت ، بيت سراج الدين هيفضل لسراج الدين اللي جاي .
رمقها أحمد بدهشة ليبتسم ساخرًا : صح معاكي حق ، أشوفك على خير .
أشارت إليه مودعة لتقف بمكانها تطلع إلى البيت الكبير .. فخم .. راقي .. وأنيق رغم قدم الاثاث ، فتبتسم برقة وخيالها يرسم صور لأطفال سيف يركضون في بهوه .. يلعبون في أركانه .. ويحتلون ارائكه ، فتتنهد بقوة وهي تشعر بالسعادة أن هذا البيت الكبير سيمتلئ عليهما ذات يوم بدلًا من سنوات كثيرة مرت كان كئيب .. فارغ .. موحش دون أطفال تنير غرفه وأركانه .
***
بعد مرور عشرين سنة ...
__ إيه يا هدهد ؟! لسه مخلصتيش .
ابتسمت وهي ترفع رأسها من فوق ما تفعله لتهتف به : أديني دقايق يا عيون هدهد وهنمشي سوا .
اقترب الشاب ذو البسمة التي تشبه بسمة والده : دقايق إيه بس يا باشمهندسة ؟! لا كفاية عليكي كده النهاردة يلا قومي عايز مرة أتعشي بدري بدل العشا اللي بناكله سحور ده .
ضحكت برقة وهي تنهض واقفة ببهاء لم يتغير رغم مرور السنوات : سحور إيه هو إحنا في رمضان يا ولد ؟!
أشار إليها بمرح : أهو قولي لنفسك ، في حد بيتعشى الساعة حداشر بليل ، المفروض البني آدم أخر وجبة بياكلها الساعة تمانية يا هدى .
ضحكت برقة : طيب خلاص بلاش لماضة ، أهو هسيب الشغل عشان تنبسط وتتعشى ، همك على بطنك صحيح .
تأبطت ذراعه لتسير لجواره وهو يحدثها بجدية : يا هدهد سيف باشا اتصل بيا وزعق مرتين في التليفون وفي الآخر قالي بالحرف " ولد يا سراج هات هدى وتعالوا دلوقتي " تفتكري أقدر أقول لا .
ضحكت برقة : لا طبعًا ، ماهو اتصل بيا برضه وزعق لي .
مط شفتيه مغمغمًا بتفكه : ده إحنا هنتعلق لما نروح ، وأنا اللي كنت فاهم إني هعرف أتحامى فيكي .
رفعت رأسها بمرح لتجيبه : متقلقش يا ولد ، محدش هيعرف يجي ناحيتك أنت ناسي أنت مع مين ولا إية .
تعالت ضحكاته : لا طبعًا هو حد يقدر يجي ناحية الهدهد حبيبتنا كلنا .
تنفست بعمق لتجيبه ببوح : أنت وإخواتك يا سراج حبايبي بجد وحته من روحي .
ابتسم ليقبل كفها بود : تسلمي لنا يا ماما هدى .
جمدت ملامحها بضيق لتنهره بجدية : وبعدين يا سراج قلت إيه قبل كده ، ماما دي متتقالش إلا لماما ، عندك أحن أم في الدنيا ربنا ما يحرمك منها لا أنت ولا إخواتك .
فيجيب بجدية وهو يساعدها لتركب سيارته : أنا محظوظ بيها وبيكي يا هدهد .
تنهدت بقوة لتجيبه بصدق : وأنا محظوظة بوجودكم كلكم حواليا .
رنين هاتفها تعالى لتجيب ببسمة رائقة : والله جايين يا سيف ، سراج اتحرك بالعربية أهو دقايق وهنكون قصادك ، خلي أم سراج تحط العشا خلاص ، وقولها سراج جعان .
ليهتف سراج بمرح : جعان جدًا يا بابا .
فتهمهم بمرح مشابه : سمعت يا أبو سراج ، يلا جايين أهو مش هنتأخر عليكم أكتر .
أغلقت الهاتف لتبتسم برضا واستقرار وتشكر الله على عوضه ورزقه لها بعائلة كبيرة لم تلفظها من بين جوانبها بل وضعوها ملكة فوق جبينهم .
***
تمت بحمد الله
26\3\2021

نوفيلا .. بديلة حواءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن