الفصل الثاني

518 27 2
                                    

يجلس على كرسي الشاطئ مبتعدًا عن الجمع من حوله متكئًا ينظر للبحر أمامه غير عابئًا بالحديث المتناثر من هنا وهناك ، لا يتحدث معهم .. لا يستجب لحديثهم .. ولا لتوسلاتهم ليسبح برفقتهم ، بل حتى من يدعونها بزوجته لا يهتم بمكان وجودها ، ينظر للسماء من خلف شاشة نظارته الشمسية السوداء ويزفر بملل بات يخنقه ، ملل اندثر حينما أتت له تلك الرسالة التي من المفترض أن تسعده .. تغبطه .. تشعره بالظفر والانتشاء كما كان متوقعًا ولكنه لم يشعر بأي شيء سوى الاختناق الذي يزداد وهو يفكر فيها وفي وقع الخبر عليها .
زفر بقوة وهو يرمي هاتفه جانبًا لينهض واقفًا يخلع قميصه القطني ليدلف إلى البحر غير مهتمًا بالصمت الذي خيم على الجميع الذين انتبهوا له ليغطس إلى الداخل بعدما كتم أنفاسه ويغمض عيناه لعله يستطع أن يجبر عقله على السكون وقلبه على الصمت .
يفتح عيناه على وسعهما وهو يصارع قلبه الذي يكاد أن ينفجر بصراخ إذا استطاع وخاصة حينما أرسل إليه زوج شقيقتها رد فعلها عن الخبر الذي وصلها اليوم ، فتؤلمه عيناه بقوة ويشعر بدموعه تنساب باحتراق يدمي جفنيه ، دموع لن يقوى على ذرفها بوضوح حتى لا يهدر ما تبقى من كرامته ، ولكنه هنا لوهلة سيسكبها كاملةً وينتهي منها هي واختناقه الذي يذكره أن رغم ربحه لتلك القضية يشعر بخسارة فادحة ، تلك القضية التي لم يكن يريد أن يلجئ إليها ولكن المحامي أصر عليها حتى تكون ورقة ضغط رابحة له فيجبرها أن تلجئ لشيء آخر غير الطلاق ، فوافق مرغمًا وهو يستجيب لمحاميه الذي استطاع الربح ليبلغها أن عليها العودة لمسكن زيجتهما الأصلي ببلدتهما الصغيرة ، مسكن الزوجية ألا وهو بيت والده الذي لم تكن يومًا هدى سيدته بسبب تواجد شقيقاته الدائم به ، وخاصة روحية ، بيت والده الذي لم تستطع هدى العيش به أكثر من شهرين لتعلن بصراحة عن رغبتها في الاستقلال بعيدًا عن عائلته فوافق على الفور رغم عدم رضا عائلته بأكملها ، ولكنه لم يهتم بل ابتاع لها شقة فخمة واسعة كبيرة ومنحها إليها عن طيب خاطر بعد سنوات كثيرة لم يرزقهما الله بأطفال فنقل ملكيتها إليها ليقيها مواجهة شقيقاته إذ حدث له شيئًا يومًا ما .
شهق بقوة وهو يعود لسطح المياه يتنفس بعمق ويلهث بقوة لينظر إلى السماء من فوقه ويفكر في خطوتها القادمة فيدرك أنها ستفعل كل شيء وأي شيء حتى لا تعود له ، اختنق حلقه وهو يسبل جفنيه يقرر أنه عليه اللجوء لعائلتها لعلهم يستطيعوا الضغط عليها وإرغامها على القبول .. الطاعة .. والعودة له .
***
__ بتعملي إيه يا هدى ؟!
رفعت رأسها لوالدتها الواقفة بباب غرفتها لتكمل ارتداء حذائها دون أن تجيبها فتتابع والدتها التي دلفت بالفعل للداخل – رايحة فين؟!
__ للمحامي يا ماما . أجابتها بصلابة وهي تتجه نحو المرآة لتنظر لانعكاس صورتها بها تعدل من شكل خصلاتها وتضع وشاح أنثوي حول رقبتها فتهمس والدتها باضطراب – برضه يا هدى عِندك راكبك يا بنتي ومش ناوية تجيبيها لبر .
صاحت بقوة : أنا اللي العِند راكبني ومش ناوية أجيبها لبر ، أنا يا ماما ، مش البيه اللي كنتي بتدافعي عنه وتقولي لي حقه ، البيه اللي رفع عليا قضية طاعة وعايز يجرني يرجعني للبلد تاني أقعد تحت رجلين روحية .
توترت نظرات والدتها لتهمس باختناق : يا بنتي لا أكيد مش قاصده كده ، وسيف ميعملش فيكي كده ، هو أكيد عايز يوريكي هو متمسك بيكي أد إيه .
استدارت لوالدتها تنظر إليها بصدمة لتصرخ : متمسك بيا ، متمسك بيا يطلبني في بيت الطاعة يا ماما ، هو كده متمسك بيا وعايزني من وجهة نظرك .
صوت صراخها أتى بشقيقتها التي أتت ببطنها المنتفخ تقف وتنظر إليها ببرود : أومال كنتي عاوزاه يعمل إيه يا هدى ، يطلقك ، ولا يعمل إيه عشان يوريكي أنه لسه عايزك ومتمسك بيكي ، اقتربت تنظر إليها بتساؤل – يقعد جنبك وميخلفش عشان يرضي سيادتك .
اختنق حلقها وهي تنظر لشقيقتها التي تحدثها بلوم غير منطوق ، شقيقتها الرافضة لموقفها رفضًا كليًا ، ليست بمفردها بل وزجها أيضًا الذي ثار من قبل حينما علم بأنها أقامت دعوى طلاق على سيف خوفًا على مصالحه معه وخوفًا أن تعود إليهم مطلقة فتوصم جبينهم بعارها ، رفعت رأسها باعتداد وأجابتها بصلابة : لا طبعًا ميقعدش جنبي ، حقه يروح يخلف بدل العيل عشرة ، بس ميربطنيش جنبه .
زفرت أختها بقوة : أنا عايزة أفهم انتي بتفكري إزاي يا هدى ، الراجل شاريكي وعايزك وباقي عليكي ، وبيعمل كل حاجة عشانك ، إيه المشكلة إنك تقبلي بوضعك كده ، إيه المشكلة إنك تسيبيه يتجوز ويجيب العيل اللي هيموت عليه وخصوصًا وأنتي عارفه إنك مش هتقدري خلاص تجيبي له عيال ، إيه المشكلة إنك ترضي بنصيبك وخصوصًا إنك عارفه إن خلاص خلصت عندك كده ولا هتعرفي تتجوزي ولا تخلفي تاني ، ارضي بأنك تفضلي مراة سيف سراج الدين وتتمتعي بالعز والجاه وحبه ليكي ، حبه اللي إنتي عارفه إن مية ست تانية مش هتقدر تغير شعوره نحوك .
اختنقت ماقيها بدموع عصية لم تنهمر لتجيب شقيقتها بجدية : أنا عايزة حاجة انتي عمرك ما هتفهميها ، عشان إنتي بتحسبيها بطريقة تانية ، إنتي صح أنا عمري ما هتجوز تاني وحتى لو حصل مش هقدر أخلف ، ويمكن أكمل بقية عمري لوحدي من غير ونس ولا حد يبص عليا ، بس إني اختار وحدتي بإرادتي أحسن مليون مرة من إن حد يرميني عشان عنده حاجة أهم ، أنا عايزة نفسي وشارية كرامتي اللي مش قابلة أبدًا إني أقبل ببواقي حد بعد ما كنت ملكاه كله ، مش أي حد يقدر يقبل ولا يطاطي ، ولو أنني تقدري أنا للأسف مقدرش ، يمكن أكون في نظركم مجنونة لكن أنا عندي أكون مجنونة أو إني أقبل بعد كل ده أعيش مع واحد قرر أنه يكسرني عشان أنا مرضيتش أقبل وأرضخ للي هو عاوزه ، ابتسمت شقيقتها باستهزاء فأكملت هدى وهي تشيح بنظرها عنهما – معلش تعبتكم معايا النهاردة ، بس تقدروا ترجعوا لحياتكم تاني ومتشغلوش دماغكم بيا .
تمسكت بها أمها التي هتفت بحنان : يا بنتي استني بس رايحة فين إنتي تعبانه مفوقتيش من وقعة الصبح ، وبعدين تعب إيه وكلام فاضي إيه ، احنا هنفضل معاكي عشان متتعبيش وانتي لوحدك .
رمقتها هدى بطرف عينها لتهمهم ساخرة : إيه ده بجد ؟! هتفضلوا معايا عشان مبقاش لوحدي يا ماما ولا عشان جوز الهانم مش راضي عن قعدتي لوحدي .
هدرت أختها : ما قعدتك دي أصلًا مترضيش حد .
صرخت بقوة : ملكوش دعوة ، أنا مش في طوع حد ، ولا حد ليه إنه يمشي كلامه عليا ، أنا قاعدة في بيتي وجوزك ملوش حكم عليا لا هو ولا أي حد تاني، أنا شوري من دماغي وانتم ملكوش أي حاجة عندي ، يالا اتفضلي خدي ماما اللي بتساعدك في تربية عيالك ربنا يخليهم لك وامشوا أنا مش محتاجة حد ولا عايزة حد معايا .
ألقتها وخطت بخطوات متلاحقة للخارج فتهتف والدتها : استني بس يا هدى ، استني يا بنتي .
فتتمسك بها ابنتها وتهتف بضيق : سيبيها يا ماما ، سيبيها تروح في الحتة اللي عايزاها ياعني هي من إمتي بتسمع الكلام ولا بتكبر حد ،
نظرت إليها والدتها بحيرة : يا بنتي أختك تعبانة وممكن يحصلها حاجة .
هدرت الابنة بحنق : هي اللي تاعبة نفسها يا ماما ، هي اللي تابعة نفسها ، قال بتشتري نفسها وكرامتها ، وهي هتبقى فين نفسها وكرامتها بعد ما سيف يسبها من غير مليم ويطردها من هنا كمان .
شهقت الأم بخوف : يطردها ، الشقة دي بتاعت أختك .
زفرت الابنة بقوة : هو سيف هيغلب يا ماما ، ده ممكن يقلب علينا كلنا ويقطع عيشنا كلنا يا ماما ، انتي وهي متعرفوش سيف لما يقلب على حد كلنا هنسف التراب عشان خاطر بنتك شارية كرامتها .
ألقتها باستهزاء وهي تلتقط هاتفها تتصل بزوجها تهدر فيه بضيق : الهانم جريت راحت للمحامي ، أه ودماغها ولا حجر الصوان ولا في كلام محوق فيها ولا أي حاجة نافعة .
صمتت وهي تستمع إلى حديث زوجها لتومئ بتفهم : طيب تمام أنا وماما هنا مش هنمشي هسنتناك انت وخالي سلام .
***
تجلس أمام مقود سيارتها التي ابتاعها لها بإحدى المناسبات ككل ما تمتلكه خاص بها كان هو السبب في وجوده ، هو السبب في العز والجاه الذي يثير حقد الآخرين ، هو السبب في حياتها الرغدة التي يحسدها عليها من حولها وهو السبب في رفض الجميع لحريتها التي تناضل لأجلها ، ترف بعينيها وهي تتذكر ردود أفعال عائلتها أو ما تبقى منها حينما أبلغتهم برغبتها في تركه ، في تلك المرة التي كانوا مجتمعين ببيت عائلتها الذي كان هو السبب في وجوده أيضًا ، فبعد موت والدها وقررت شقيقتها أن تلحق بالعاصمة وتحذو حذوها رتب سيف كل شيء لتنتقل عائلة شقيقتها ووالدتها للعاصمة وحتى لا تحيا أمها بمفردها في الشقة الفارهة التي كتبها سيف باسمها كما فعل بالسيارة والبيت الذي تحيا به الآن ، مكثت أختها بأسرتها مع والدتها بالبيت وهي لم تهتم بمبررات شقيقتها الواهية في كونها تحتاج والدتهما لترعى معها أطفالها ولا لكون الشقة قريبة من مقر عمل زوجها ولا حتى ذاك المبرر أن لا تحيا أمهما بمفردها ، بل لم تهتم سوى بأن تكونا سعيدتان وقريبتان منهما ، ورغم أنها ساعدت شقيقتها كثيرًا في أوجه كثيرة من حياتها ورغم أنها تُرضي والدتها بشتى الطرق إلا أنهما خذلتاها بطريقة موجعة لم تكن تتخيل يومًا أنها ستنالها منهما .
تدمع عيناها وهي تتذكر  أنها عندما قررت الانفصال عن سيف هما أول من ذهبت إليه منتظرة منهما دعم ومساندة .. عطف ورأفة .. منتظرة أن تتفهما وجعها ويربتا على كتفها وتضمها والدتها إلى صدرها وتشعر شقيقتها بألمها ولم تكن تدرك يومًا أنهما سترفضان رغبتها دون الاستماع إليها أو منحها فرصة للثرثرة ، فهي عندما أعربت عن رغبتها في جملة واضحة مختصرة كعادتها قائلة : أنا عايزة أطلق .
فأتتها شهقة والدتها المرتعبة وجحظت عيناها باستنكار ، ليلمع الرفض بعيني شقيقتها التي رمقتها بعدم استيعاب وذهول ليأتي رد والدتها السريع الرافض محطمًا لكل آمالها وهي تهتف بها في حدة : طلاق إيه وليه ؟! وبعدين إزاي إنتي فاهمه لو اتطلقتي دلوقتي هتلاقي حد يعبرك ويجوزك ، إحنا غلبنا عقبال ما اتجوزتي جاية دلوقتي عايزة تطلقي وإنتي عديتي الأربعين.

أغمضت عيناها تعد نفسها بالصبر لتهمس باختناق : أومال الحل إيه يا ماما؟! سيف قرر أنه يتجوز عشان الولد ، فالمفروض أنا أقعد وأستحمل وأنا بشوفه رايح يتجوز واحدة تانية غيري عشان يخلف منها .
صاحت والدتها بكبر وهي تغض بصرها عنها .. عن وجعها .. عن حشرجة صوتها .. وعن انكسارها  : أه وماله ، إيه المشكلة ياعني؟!
نظرت لوالدتها بذهول لتكمل بصوت غصته حاضرة : وأسيبه يتجوز واحدة تانية غيري ؟!!
ردت والدتها بصلابه : حقه ، حقه يتجوز ويخلف .
انتفضت واقفة تصرخ بألم : وأنا حقي فين ، حق عمري اللي عشته معاه ده فين سبعتاشر سنة سوا يا ماما عشرة على الحلوة والمرة ليه هو حقه يبعهم وأنا أفضل شرياه ليه ؟!
تمتمت والدتها دون أن تنظر إليها : هو كدة إنتي ست وتستحملي .
اندفعت دموعها لتقف على حافتي جفنيها لتهمس بصوت مختنق : بس أنا مش هقدر أستحمل ولا هقدر أقبل .
نهضت والدتها لتجيب قبل أن تتركها بمفردها في صالة البيت الواسعة وتغلق باب غرفتها في وجهها : كل شيء في أوله صعب بعد كدة هتتعودي .
حينها جحظت عيناها وبهتت ملامحها وهي تطلع إلى باب الغرفة المغلق بوجهها ، تجلس بإنطواء تنتظر خروج والدتها إليها من جديد لتتحدث معها تواسيها أو تتفهم ألمها ليأتي سؤال شقيقتها التي جلست تأكل إصبع موز ببطء وهي ترمقها من بين رموشها : قوليلي يا هدى ، مش انتم كنتم روحتوا للدكتور من يجي كذا شهر كده ؟! انتبهت لحديث أختها وأومأت برأسها موافقة فأكملت شقيقتها سائلة - هو الدكتور قالكم إيه عشان سيف قرر فجأة كده إنه يتجوز ؟!
اختنق حلقها لتهمس بوجع وهي تشعر بأن قلبها يتمزق بألم : قال إن خلاص مفيش أي أمل .
زفرت أختها بقوة لتسألها بشبه ملل : طيب يا حبيبتي ، ربنا مش رايد لك بقى تجيبي عيال ، استعوضي ربنا وارضي بحكمه وكفاية عليكي سيف بيحبك وبيتمنى لك الرضا ترضي .
ضيقت عيناها بعدم فهم فأتبعت شقيقتها وهي ترمي قشرة الموز على الطاولة من أمامها : متخربيش على نفسك يا هدى واستهدي بالله ، وسيبي الراجل يتجوز ويجيب العيل اللي نفسه فيه وخليكي معاه على الأقل بعد عمر طويل ينوبك من الحب جانب بدل ما تسيبي للجديدة ولإخواته الجمل بما حمل وتطلعي بعد كل ده بلوشي .
اتسعت عيناها بصدمة تملكت منها لتنهض شقيقتها واقفة : اسمعي الكلام واحسبيها كويس ، سيف معيشك ملكة وبيحبك ومبيستحملش عليكي الهوا الطاير ، وعمره ما بيملى عينه غيرك ولا قلبه كمان يبقى ليه تسيبيه لحد تاني، أنا لو منك أقعد وأبقى الآمرة الناهية في كل حياته ، ده حتى مراته الجديدة أخدها تحت جناحي وأربي العيال على مزاجي كمان ، متهديش المعبد على راسك يا هدى وفي الآخر تطلعي خسرانه ، وافقي وساعتها هتلاقيكي كسبانة كتير بدل ما تعيشي بقية عمرك لوحدك من غير حد .
صاحت بقهر وهي تضرب قبضيتها في مقود السيارة ، دموعها تنهمر مغرقة وجهها بأكمله وصيحاتها تتعالى .. تنشج في بكاء اختزنته طويلًا بصدرها ، تشعر برئتيها ستنفجران وقلبها يخفق بتسارع وأنفاسها تتحشرج فتصيبها خشية أن تفقد وعيها أو تصاب بأزمة تنفس جديدة ، فتبحث سريعًا عن بخاخة صدرها وهي تحاول أن تنظم أنفاسها وتسيطر على بكائها لتهدأ بالأخير وهي ترمى رأسها على المقود وتشعر بالوحدة تكتنفها .
***
اقترب يجلس بجوار خاله الجالس بمفرده كعادته مؤخرًا ليرمقه بطرف عينه قليلًا قبل أن يسأله بهدوء : برضه عملت اللي في دماغك يا سيف ؟!!
زفر سيف بقوة ليعتدل بجلسته ويهدر بخنقة : بقولك إيه يا أحمد ، أنا مش طايق نفسي فبلاش تعمل المصلح الاجتماعي دلوقتي ؟!
ابتسم أحمد هازئًا: طيب أعمله امتى يا خالي ؟!
تأفف سيف بضيق حقيقي ليكمل أحمد بعد برهة – انت بجد فاهم إن هدى هترضى ترجع لك بعد اللي انت بتعمله ده يا خالي ؟!
تمتم بغضب : هترجع حتى لو غضب عنها .
تطلع إليه أحمد قليلًا ليجيبه هازئًا : أه ، طيب يا خالي لو هم فهموك إن كل الستات زي بعضها وإن هدى هترجع عشان مش هتلاقي حل تاني غير إنها تعمل كده ، أنا بقولك إنهم غلطانين وإن هدى مش هترجع لا بالطريقة دي ولا غيرها .
استدار سيف إليه بغضب لمع بعينيه ليكمل أحمد بثبات : هم بيقولوا لك عشان هم نفسهم عارفين إنها مش هترجع بالطريقة دي بالعكس طريقتك دي هتخليها تبعد وتعند وتجمح أكتر وتشت عن السرب ، وبدل ما كنت ممكن تقدر في يوم تقنعها ، كل خطوة بتخطيها في السكة دي بتبعدها عنك أكتر وأكتر ، وهم ده اللي هم عايزينه .
رف سيف بعينيه وهو ينظر إليه متسائلًا فيكمل أحمد بجدية : أيوة يا خالي لا أمي ولا إخواتك عايزينها ترجع لك ، ولا تفضل معاك ، بالعكس كلهم مبسوطين باللي حاصل ، وعيلتها بقى أختها منى عينها تشوف هدى مكسورة وأمها ست غلبانه كل اللي بتفكر فيه بنتها ومصلحتها بس للأسف بتفكر بطريقة غلط ،
هدر سيف بكبر : إيه الجنان ده يا أحمد ، ايه اللي أنت بتقوله ده ، ليه بقى إن شاء الله ، ياعني لو روحية وإخواتي زعلانين من هدى عشان اللي عملته أختها وأمها زعلانين ليه .
زفر أحمد بقوة ليجيب ساخرًا : أختها مش زعلانه أختها طول عمرها غيرانه ، هدى كملت تعليمها واشتغلت واتجوزت حد هي شايفه إن مافيش منه ، عبس سيف باستنكار فأكمل أحمد ضاحكًا – ودي معاها حق فيها بس كان سبب للغيرة تبقى أكبر ، وأمها زي أي أم رافضة إن بنتها ترجع لها وهي في العمر ده وطبعًا عشان متبقاش مطلقة وكأنها هتبقى شبهه لو اتطلقت منك.
رمقه سيف بعدم اقتناع ليكمل أحمد بصلابة وصدق : وبعدين ماما واخواتك مش زعلانين من هدى عشان اللي عملته فيك يا سيف ، لا دول بيخلصوا تار قديم عشان هي جات خطفت الحيلة ، اربد وجه سيف بغضب فأكمل أحمد بسرعة – متزعلش من الحقيقة يا خالي ، بس أنا بكلمك بجد وبقولك اللي محدش هيجرؤ يقوله ، أمي وإخواتك مش طايقين هدى من ساعة ما اتجوزتها أسبابهم إيه بقى مش مهم ، ورغم إنهم كانوا بيضايقوها بس هي عمرها ما اشتكت عشان كانت بتعرف توقفهم عند حدهم لما بيتمادوا ، ومتقوليش إنك مكنتش بتبقى عارف وواخد بالك بس كنت بتغمض عينك عنهم وبم إن الدنيا ماشية سبتها ماشية وخلاص ، بس دلوقتي بقى الموضوع مختلف هم ما صدقوا وأنت كمان طايح عشان حاسس إن الموضوع يخص كرامتك رغم إنه مش كده خالص .
أشاح سيف برأسه بعيدًا ليتابع أحمد بجدية : وحتى إن كان كده يا خالي ، إحساسك لو مقداره عشرة إحساس هدى أضعاف الأضعاف ، أنت حاسس إنها بتسيبك ومش عايزاك ، رغم إنها مراحتش اتجوزت ولا جابت لك حد يشاركها فيك .
تطلع إليه سيف بحزن لمع بعينيه ليهمس باختناق : انت فاهم إني مبسوط يا أحمد ، أنا بموت وهي بعيدة عني ، بس أعمل إيه ، المفروض أرضيها إزاي، أقعد جنبها من غير عيال ولا أعمل إيه ؟!
هز أحمد رأسه بنفي : محدش قال كده يا خالي بس برضه ميرضيش حد إنك تغصبها على العيشة معاك وتطلبها في بيت الطاعة .
تمتم سيف بجدية صادقة : أنا متمسك بيها يا أحمد ، عايزها معايا ، عايزها تضحي شوية عشاني مش من حقي بعد كل السنين دي .
تغضن جبين أحمد بحزن لأجل خاله الذي بمقام صديق ليحدثه بهدوء : التضحية مبتبقاش بالغصب يا خالي ، التضحية بتبقى بالرضا ، وأنت عارف إن طريقتك دي عمرها ما هتخلي هدى تبقى راضية ولا هتقبل إنها تضحي .
هدر سيف باختناق : هي ماسابتليش حل تاني يا أحمد .
زفر أحمد بقوة ليتمتم باختناق : وانت كمان مسبتلهاش حل تاني ، كل ما هتشد عليها الحبل هتخليها تعند أكتر ، المشكلة إن كتر الشد هيقطع الحبل يا خالي .
استدار ينظر إليه سيف بوجع يتغلغل بداخله ليعاود نظره شاردًا إلى الأفق المظلم أمامه ليريح رأسه للخلف ويغرق في صمته من جديد.
***
عادت من عند محاميها تجر قدميها جرًا .. تشعر بالهزيمة تلطخ جبينها وهي تستعيد حديثه الذي قضى على ما تبقى من مقاومتها وهو يجيبها حينما سألته كيف يصدر حكم بالطاعة في ذاك الوقت القليل فيجيبها أن زوجها العزيز رفع القضية منذ وقت طويل ، بل هذا كان رده على دعوى الطلاق التي رفعتها هي عليه ، فتتذكر تهديده الدائم لها ، لتهتف بصراخ للمحامي : طيب إزاي رفع الدعوى واتحكم فيها واحنا منعرفش عنها حاجة .
حينها لوى المحامي شفتيه ليجيب بجمود : الإعلانات وصلت كلها واستلموها في البيت عندكم يا مدام هدى .
صاحت بذهول : مين ده اللي استلمها ؟!!
أسبل المحامي جفنيه : والدة حضرتك .
شعرت حينها أنها تلقت لطمة أصابتها بفقدان إدراك وقتي لتمتم بحشرجة : ماما ؟!!
فيكمل المحامي بضيق : وللأسف راحوا شهدوا معاه كمان ، هي وأختك وجوزها عشان كده الحكم طلع في صالحه .
حينها ارتعد جسدها بنفضة عدم تصديق ظهرت جلية في عينيها ليحدثها المحامي بجدية وهو ينهض من فوق كرسيه : اشربي شوية ميا يا مدام هدى واعرفي إن ده تصرف معتاد من الأهل عشان هما بيبقوا شايفين إن دي مصلحة بنتهم .
ردتت بهذي : مصلحة بنتهم ، هي فين مصلحتي دي إنهم ينصفوه عليا ، أنا بنتهم من دمهم ، إزاي يعملوا فيا كده ؟!
صمت المحامي لا يجد ما يقوله لتنهض واقفة وتهمس : عامة بعتذر إني أزعجتك ، بس متنساش ترفع الاستئناف على الحكم .
فيسألها المحامي بجدية : برضه مصرة ترفعي طلاق .
فتلتفت إليه بإيباء : أه يا أستاذ ، أنا ليا حقوق عند سيف هخدها كاملة من غير ما تنقص مليم ، أنا ست جوزها ضرها كتير لدرجة أنه قلب أهلي عليا لو القانون شايف إني ملياش حق أنا هفضل وراه لغاية ما يشوف إني ست متضررة من جواز جوزي التاني وأجبرهم إنهم يطلقوني ويدوني حقوقي اللي عنده .
حينها رمقها المحامي باستياء ولكنه آثر الصمت على ما يبدو لتغادر مكتبه وتعود لشقتها التي تشهد هذه الأيام على أحزانها ، فتحت باب شقتها وهي تشعر بإنهاك شديد يكتنفها ، إنهاك تطاير في الهواء وهي ترمق من تجمعوا ببهو شقتها ينتظرونها ناصبين إليها محكمة جديدة وحكمهم ينتظر وصولها ليجتزوا عنقها بمقصلة ظلمهم لها فترفع رأسها بشموخ وتنظر إليهم بإيباء وهي تستعد بما تبقى من قوتها لحرب جديدة ستخوضها بكبرياء كما رباها والدها .
***
صوت زغاريد دوى من حولهما أجبرهما على العبوس وهما ينظران للفيلا الفخمة من خلفهما والواقعة على الشاطئ ليسأل ابن شقيقته : فيه إيه هم بيزغردوا ليه ؟!
أشار إليه أحمد بكتفيه في عدم معرفة لينتبها سويًا على صوت والدته الذي صدح مناديًا عليهما بالتتابع ليزفر بقوة وهو يشير لابن أخته : قوم يا بني نشوف أمك عايزة إيه
تحركا سويًا لتقابلهما الزغاريد من جديد عندما دلفا من باب الشرفة ليسأل هو باستنكار : بس يا روحية بس ، فيه إيه حد من العيال نجح ولا إيه اللي حاصل ؟!
صاحت روحية بفرحة حقيقية بعدما أنهت زغرودتها : عيال إيه وبتاع إيه ، الزغاريد عشانك يا قلب أختك .
عبس سيف وهويجلس بضيق ليجيبها متهكمًا : ده اللي هو إزاي بقى إن شاء الله ، على حد علمي إني نجحت وخلصت دراسة من زمان .
اتسعت ابتسامة شقيقته لتجيبه بضحكة واسعة : مبروك يا حبيبي ، مراتك حامل .

نوفيلا .. بديلة حواءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن